الجزائر
جشع البقاء في الرئاسة الفرنسية يحطم كل ما بناه

ماكرون يعيد العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى نقطة الصفر

محمد مسلم
  • 30912
  • 25
أرشيف

أعاد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى مربع البداية، بتصريحات مستفزة، في خطوة فاجأت المراقبين، مثلما كشفت مدى هشاشة العلاقات الثنائية الموبوءة بالعديد من الملفات المسمومة.

الرئيس الفرنسي، وفي اليوم الذي أعلنت فيه الخارجية الجزائرية استدعاء السفير الفرنسي في الجزائر، فرانسوا غوييت، احتجاجا على تخفيض التأشيرات الممنوحة للجزائريين إلى النصف، خرج بتصريحات تعتبر في منظور الأعراف الدبلوماسية، تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية لدولة سيدة، وفق ما أوردته صحيفة “لوموند” الفرنسية.

الرد الجزائري لم يتأخر، فقد تم استدعاء سفير الجزائر بباريس، محمد عنتر داود “من أجل التشاور”، وفق ما جاء في بيان لرئاسة الجمهورية، قال إن حيثيات الاستدعاء سيصدر لاحقا. غير أن توقيت الاستدعاء يؤشر على أن المسألة تتعلق بالتصريحات المستفزة التي صدرت عن الرئيس الفرنسي وأوردتها الصحيفة السالف ذكرها.

ماكرون ولأول مرة منذ تربعه على دفة قصر الإيليزي قبل أكثر من أربع سنوات، لم يتجرأ على توصيف السلطات الجزائرية بتلك العبارات التي وظفها في لقائه بـ18 شابا من أصول جزائرية ومن أحفاد “الحركى” و”الأقدام السوداء”، في إطار حملته الانتخابية غير الرسمية للانتخابات الرئاسية المرتقبة ربيع العام المقبل.

وفي “خرجة” غير معهودة، أقدم الرئيس الفرنسي على توظيف عبارات غير مسؤولة، عندما وصف السلطات الجزائرية بـ”النظام السياسي العسكري”، وكذا الإمعان في زرع الفتنة بين مكونات صناع القرار، من خلال التفريق بين المكون المدني والعسكري، وهي سابقة قد تكون لها تبعات خطيرة على العلاقات الثنائية مستقبلا.

وكان واضحا من خلال كلام الرئيس الفرنسي، أن مشروعه الموسوم بـ”تهدئة صراع الذاكرة”، والذي أوكله للمؤرخ الفرنسي، بنجامان ستورا، لم يؤت أكله لحد الآن، وهو الذي راهن عليه منذ انتخابه في عام 2017، لأن الطرف الجزائري لم يساير الخطوات الفرنسية التي بقيت من جانب واحد، فيما بدا تحفظا عن المشروع وعما قام به ستورا على صعيد الذاكرة، الذي يعتبر ملفا جد حساس بالنسبة للجزائريين.

ما يعزز هذه القراءة، هو وجود قناعة لدى الرئيس الفرنسي بأن ملف الذاكرة، أو بالأحرى هزيمة فرنسا عسكريا وأخلاقيا أمام الجزائر في حرب مدمرة، يغذي أنفة وطنية غير قابلة للتنازل أو للمساومة، تحت أي مبرر كان، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمستعمرة السابقة، التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة لسحب هذه الورقة من الطرف الجزائري.

الأخطر من كل هذا، هو انحدار الرئيس الفرنسي إلى مستوى سحيق من الانحراف في النقاش، بشكل جعله يشكك حتى في وجود أمة جزائرية قبل الاحتلال الفرنسي في عام 1830، وكأن الجزائر كانت أرضا مستباحة، عندما راح يتساءل: “هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ هذا هو السؤال”، تصريح تفوح منه رائحة اللا مسؤولية من مسؤول يرغب في استرضاء شرذمة من اليمينيين، من أجل البقاء في قصر الإيليزي، ولو على حساب قيم الجمهورية الفرنسية، ومبادئ الاحترام المتبادل بين الدول.

ماكرون لم يتوقف عند هذا الحد، بل راح يقارن بين الاحتلال الفرنسي بالوجود العثماني في الجزائر، وهي مقارنة في غير محلها، لأن مخلفات الاحتلال الفرنسي تتحدث عن نفسها (1.5 مليون شهيد جزائري في سبع سنوات فقط)، في حين أن كتب التاريخ لم تسرد للجزائر وللعالم جرائم الوجود التركي في الجزائر، والذي له ما له وعليه ما عليه.

وكان لافتا في كلام الرئيس الفرنسي، أنه يبحث عن “مناول من الباطن”، للوقوف أمام التقارب الجزائري التركي الذي بات يزحف على حساب الإرث الفرنسي المتهالك، وان هذا المناول لا يمكن أن يقوم به إلا الجزائريون أنفسهم، وهو أمل يبقى في خانة الوهم، لأن الجزائر تميز جيدا بين الصديق والعدو، ولا تنتظر أي نصيحة من أحد.

كلام الرئيس الفرنسي أمام أولئك الشبان، يحمل اعترافا أيضا، بفشل المشروع الفرنسي، في إقناع الجزائريين بوضع الوجود العثماني في الجزائر والاحتلال الفرنسي لها، في كفة واحدة، عندما قال: “أنا مفتون بقدرة تركيا على جعل الناس ينسون تمامًا الدور الذي لعبته في الجزائر والهيمنة التي مارستها، وبالمقابل يبقى الفرنسيون هم المستعمرون الوحيدون. وهو أمر يصدقه الجزائريون”، كما قال ماكرون بحسرة.

وفي ظرف أقل من أسبوع، استدعت الجزائر السفير الفرنسي لديها، ثم عادت واستدعت سفيرها لدى باريس، وهي الحادثة التي لم تسجل منذ أمد، ما يؤشر على أن العلاقات الثنائية عادت إلى نقطة الصفر، ويتحمل الطرف الفرنسي، برأي المتابعين، كامل المسؤولية، بسبب تغليبه الحسابات الضيقة المتعلقة بالانتخابات الرئاسية على ملف استراتيجي كالعلاقات الثنائية، التي لطالما راهن عليها ماكرون ذاته.

مقالات ذات صلة