الرأي

مالك بن نبي والقضايا الأربع 1/2

التهامي مجوري
  • 3493
  • 8

عندما انتهيت من قراءة الكتاب الجديد لمالك بن نبي رحمه لله، الصادر هذا العام 2014، عن دار “عالم الأفكار” الجزائرية، وهو كتاب لم يعرف في قائمة كتبه المعروفة، خرجت بجملة من التساؤلات، على غير عادتي في قراءة الكتب.

الرجل مات منذ أكثر من أربعين سنة، ولا زال المهتمون به يتحسسون ما بقي من آثاره التي لم تنشر، ويتداولون القصص والحكايات التي كانت في مجالسه وبين خاصته، ويلملمون المرويات عنه المنتشرة هنا وهناك، ويجمعون الدراسات التي كتبت عنه، ومع ذلك أيضا يتناقل يعض الناس أقاويل أخرى قد تكون مخالفة تماما لهذا النوع والاهتمام، والذي بقي محل تساؤل عندي في النهاية هو هذه الأقاويل الأخيرة، التي يمكن إجمالها في أربعة قضايا، تهمة التغريب الملصقة بمالك بن نبي، والفشل في المشاريع، والوسواس وعلاقته بالحركة الإسلامية.

أما الكتاب الذي قرأته فهو عبارة عن محاضرتين حول الحضارة والأيديولوجيا، وخطابان: خطاب موجه إلى الزعيم التاريخي الجزائري كريم بلقاسم، وخطاب موجه إلى ممثل جمعية إسلام المشبوهة بالأردن، وملحق بتقارير سرية للبوليس الفرنسي تثبت فيه تعامل بعد أعضاء جمعية إسلام مع المخابرات الأمريكية، ولا اتكلم في محتواه، لأترك للقارئ مجالا للبحث عن هذا الكتاب وقراءته والتساؤل حول ما يمكن أن يجد فيه من جديد، لا سيما وهو يتضمن نصوصا غير معروفة كما هو مثبت في الغلاف، ولكن أحكي ما وقع لي بعدما انتهيت من قراءة الكتاب ولا ادري لماذا انسقت للكتابة في هذا الموضوع، رغم أنني كنت أنوي الكتابة موضوع آخر، ولكنه مرتبط بالناسبة؟

كنت أنوي كتابة موضوع بعنوان “ثلاثيات بن نبي” بمناسبة ذكرى وفاته، الذي يصادف يوم 31 أكتوبر، يلخص أفكاره الأساسية والهامة في مشروعه الفكري، وكنت حينها أقرأ الكتاب المذكور آنفا، ولكنني عندما انتهيت من قراءة هذا الكتاب، وانا بطبيعة الحال قد قرأت كل ما كتب بن نبي وبعض ما كتب عنه، وأزعم انني أعرف أفكاره كما يريد لها هو أن تفهم، صرفت النظر عن “الثلاثيات” إلى الكلام عن هذه القضايا الأربع التي أشرت إليها وهي:

القضية الأولى أن الدكتور مولود عويمر وهو واحد من المعجبين والمتأثرين بفكر مالك بن نبي، قال في إحدى محاضراته إن بن نبي رحمه الله “قام بالكثير من المحاولات في مجالات أخرى إلى جانب الفكر، ولكنه فشل لأنه لم يخلق لغير الفكر، مثلما فشل ابن خلدون في أن يكون سياسيا”، ووافقه في ذلك من وافق وخالفه من خالف في ذلك اللقاء. 

والقضية الثانية التي يحرص المرجفون على الترويج لها بمناسبة وبغير مناسبة، وهي أن بن نبي كان مصابا بالوسواس، وهذه الفرية سنها عبد الصبور شاهين غفر الله له، كما توهمها غيره أو روج لها، سألت شخصا من اهل تبسة، كان طالبا بالقاهرة، عن بن نبي وهو ابن بلدته، فقال لي لو تحرك الأسطول السادس في عرض البحر الأبيض المتوسط لقال بن نبي إنه تحرك من أجل رصد تحركاتي…

 والقضية الثالثة: هل كان لمالك بن نبي مشروعا؟ لأن بعض الناس يقرأونه وكأنه كاتب منعزل عن الناس يسبح في الهواء ولا علاقة له بما يعيش الناس، فهو في أحسن الأحوال فيلسوف.. والموقف من الفلسفة عند العرب والمسلمين معروف.

القضية الرابعة: الفصل بين مالك بن نبي وبين الفكر الحركي الإسلامي

ما أبعد هذه الأمور عن بعضها.. إنسان يوصف بالفشل… ويوصف بالوسواس.. ويتساؤل هل هو صاحب مشروع….؟ وفي الأخير يقصد فصيل معين من الحركة القومية والوطنية وليجرد من الانتساب إليه أو ليحرم من فضله على هذا الفصيل

القضية الأولى الفشل: ما أظن أن الدكتور عويمر قصد الانتقاص من بن نبي بهذا القول، وإنما بالعكس، أراد أن يرفعه إلى مستوى “الشخص المصطفى”، أي أن الله اصطفاه ليكون مفكرا، وليس شيئا آخر، ولذلك حاول أن يمارس التجارة وفشل وحاول الهجرة لطلب العيش في الخليج وفشل..إلخ، وما كان هذا الفشل حسب رأي عوير إلا توجيه قدري له وتقويم لخياراته ليكون مفكرا.

وذلك بلا شك لا يوحي بالانتقاص، ولكن القضية من جانب آخر ليست بهذا الشكل، وإنما هي، في أن الرجل لم يختر غير الفكر مبدأ ووسيلة وغاية، بل كان مهتما بالفكر بالفطرة والسليقة، فهو يحكي عن نفسه انه كان مهتما بقضايا الأمة منذ الصغر، يدرك الفرق بين بن باديس العالم الحر ومولود ابن الموهوب الموظف في مؤسسات الدولة، رغم ما بينهما تشابه في الروح تجديدية في الإسلام، ويقرأ رسالة التوحيد لمحمد عبده، ويتابع أحداث بطل الريف عبد الكريم الخطابي، ويقرأ الجرائد متتبعا أخبار العالم الإسلامي وحركة الإستعمار..إلخ، والذي يقرأ “مذكرات شاهد القرن”، يرى أن الرجل غير مستعد للتحول إلى أي شيء آخر، وإنما الحاجة هي التي فرضت عليه تلك المبادرات التي قام بها والمغامرات التي خاضها، وأخفق فيها، حيث لم تتجاوز الحرص على “تامين الخبزة” حتى لا يبقى عالة على عائلته الفقيرة، لا اكثر ولا أقل، فهو عندما مارس التجارة، لم يعطها حقها من الاهتمام كما يفعل التاجر، وعندما فكر في الهجرة، لم يصر على صورة من صور الهجرة بعينها، وكانه يريد التخلص من بقائه في فرنسا وكفى، فقد نوى الهجرة لغرض، وحدث نفسه بالهجر لغرض آخر، ولما تمكن منها بوصوله إلى القاهرة، اختار أمرا آخر لم يفكر فيه من قبل، وهو اللجوء السياسي، وليس صفة أخرى.

فهو إذا لا يُعَدّ فشلا، وإنما يعتبر قام بمحاولات من اجل ضمان استمرار النهج الذي رسمه لنفسه وهو الاشتغال بواقع الأمة، والعمل الفكري، ومع ذلك لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن ما ينبغي توضيحه هو الجانب الأخلاقي من الفشل، إذ هناك فرق بين من يعمل ويجد ويجتهد فيفشل، وبين من لا يهتم بالموضوع بالقدر اللازم له ثم يفشل. فالأول نقول عنه فاشل لأنه لم يرتق إلى مستوى تامين المطلوب منه لإنجاح محاولته فهو فاشل، والثاني على العكس لو اهتم بالموضوع لنجح فيه؛ لأنه مؤهل فكريا لأن يخوض فيه، ولكن ظروفه لا تسمح له بذلك لأن ما بين يديه أهم مما سعى فيه، ولذلك بقيت الفاقة والحاجة تطارده إلى مرحلة متقدمة من حياته، ولولا محيطه من إخوانه وأبنائه من أصفيائه وبعض مداخيل كتبه لضاع بن نبي.

مات بن نبي ولا يملك بيتا يليق بكاتب في حجمه، إلا شقة صغيرة في شارع فرانكان روزفيلت ضواحي قصر الشعب، بالجزائر العاصمة، ولا ندري أهي ملك له أم هي من املاك الدولة “بيان فاكون”، ومع ذلك ربما سعى خصومه الأيديولجيون لحرمانه منها.

القضية الثانية الوسواس: حقيقة عندما يقرأ المرء بعض تحليلاته واحتمالاته وآرائه في بعض القضايا الشخصية والوطنية والدولية، يشعر وكانها بعيدة جدا عما يقول أو يتوهم، ولكن مع مر الأيام يرى أن ذلك البعيد أضحى حقيقة؟

فبالنسبة لشخصه يرى أنه يقوم بدور جبار في حركة وسيرورة التحرير في العالم الإسلامي، لم يفهمه في ذلك الوقت إلا الاستعمار، ومن ثم كانت مواجهة أفكاره بواسطة شخصيات واحداث وقضايا لتعيقه عن تبليغ رسالته، ولتحد من تأثيره في الشباب، ومن الأمثلة والأمور الشخصية التي ذكرها، أنه راسل قيادة الثورة في القاهرة من أجل الالتحاق بميدان القتال كممرض، وهناك يقوم أيضا بعمل المؤرخ، ولم يتلق الرد، لماذا يا ترى؟ وقام بمراسلة أخرى لكريم بلقاسم يحذر فيها من نجاح ديغول في تشكيل قوة ثالثة للتفاوض وربما لتسلم قيادة البلاد بعد الاستقلال، وربط هذا الموضوع بإشاعات متعلقة به، ولم يتلق ردا فيما أعلم. “

وعدم تلقي رد على مراسلة لا معنى له إلا ان الرجل غير مرغوب فيه من جهة او جهات، أو ان القوم غير مدركين تمام الادراك لما يحاك لهم، يعدون مثل هذه التحذيرات من قبيل الوسواس.

وذكر مثالا آخر وهو انه نزل بفندق ولما تقدم لتسديد الفاتورة وجد من مستهلكات النزيل “خمرا”، ومثال آخر نشر كتاب جمعت فيه جريدة العروة الوثقى، وفي مقدمة الكتاب ذكر أسمه بين إسمين يهوديين أسلما، أحدهما حسن إسلامه وصار من المنافحين عن قضايا الأمة والآخر عميل للمخابرات، وجاءت ذكر إسمه كالتالي “”مالك بن نبي كاتب فرنسي اعتنق الإسلام ودافع عنه بقوة.

 

بن نبي عقل ديكارتي لا يمكن ان يؤمن بالصدف تاتي هكذا من غير علاقة لها في الوجود بأمر ما في اتجاه ما سنوضح ذلك لاحقا.

مقالات ذات صلة