الرأي

ما المقصود بحياد المؤسسات التربوية؟

ح.م

لا شكّ أنّ وثيقة الدستور الأوليّة التي طرحتها رئاسة الجمهورية هي مجرد مسودة للنقاش العام، قابلة للتصويب والإثراء، أو التدقيق والتوضيح في مواضع الالتباس، خاصة أن القانون الأسمى يعني الحاضر والمستقبل، لذلك من الضروري فحص قواعده العامّة التأسيسيّة بشكل عميق، يزيل كل لُبس قد يكون مدخلاً للتفسير الخاطئ.

من تلك المبادئ التي قد تثير المخاوف المشروعة، لغموضها البنائي من جهة، ولحساسية القطاع الذي تحكمه من جهة أخرى، هو ما تعلّق بمقترح “تكريس مبدأ حياد المؤسسات التربوية”.

للوهلة الأولى يظهر الاقتراح وجيهًا إذا كان يهدف إلى تحييد المدرسة الجزائرية عن التحزيب والاستعمال السياسي الضيق من طرف الجميع، سلطةً وتيارات مجتمعيّة، بل يبدو ضروريا إن كان سيحميها من التصرف الأيديولوجي للرؤساء والحكومات والوزراء المتعاقبين خارج محددات المرجعية العامة للأمة، حيث يتوّج مثلا باستحداث مجلس أعلى للتربية يُعنى برسم السياسة العامّة لها، ليبقى دور الإدارة المركزية هو التنفيذ الإجرائي لا غير، حتى لا يتكرر ما وقع في عهد سيئة الذّكر نوريّة بن غبريط ومن تبنّاها.

لكن هذا الإسقاط الإيجابي لمغزى المقترح الدستوري ليس سوى أحد التفسيرات الممكنة، حيث إن تنزيل القانون على الواقع يخضع بالأساس للتفسير طالما أن النص لا يرد بصفة قطعية الدلالية.

وعليه، قد يقول قائل إن المشرّع الدستوري يقصد بحياد المؤسسة التربوية معنىً خاصا أضيق من المفهوم العام الذي تبادر إلى الأذهان، وهو إبعاد المدرسة عن التحزّب، لأن الأمر بهذا المعنى ينسحب على المسجد والجامعة والإدارة والقضاء وغيرها من المؤسسات العامة، ولا حاجة إذن إلى تخصيص المدرسة بالدسترة.

من هنا قد يعتبرها البعض مدخلا لقاعدة دستورية ملغمة، وقابلة للتأويل التعسفي من الأقليات الإيديولوجية النافذة والمستقوية بالخارج، تحت شعارات العولمة والحداثة ومبادئ اليونيسكو!

والدليل أنهم هم من يحتفي الآن بإقرار هذه المادة، لأنها في اعتقادهم الواهم قد تختصر عليهم طريق المعركة التغريبية الشاقة، والتي باءت على مدار عقود  بالفشل، رغم المحاولات المتكررة وبعض الانتصارات الظرفية!

الأصل أن المدرسة تعبر عن كيان الأمة وضميرها وانتمائها وتكوّن الناشئة وفق مقومات الهوية بكل معالمها الدينية والثقافية والتاريخية، ولا حياد بهذا الخصوص، لأنه سيحرفها عن طبيعتها ويحيلها إلى مراكز تكوين  تقني لصناعة آلات بشرية، بينما هي مشتلة حضارية قاعديّة لصياغة الإنسان وجدانيا ونفسيا وعقليا وفكريا في إطار الخصوصية، زيادة على مهامها التعليمية المحايدة.

ما المقصود إذن بحياد المؤسسة التربوية؟ هل ستكون محايدة مثلا تجاه القيم الدينية والأخلاق الإسلامية والأحكام الشرعية باسم التعايش الإنساني؟! هل ستُحذف النصوص القرآنية من مناهجها باسم تقبّل الآخر؟!

صحيح أن برنامج رئيس الجمهورية مطمئن بشأن رؤيته لقضية الهوية، وقد لا يُطرح الإشكال العملي في عهده، ولكن الدساتير توضع للأجيال، ما يقتضي وجوبا رفع الإبهام عن هذه القاعدة الدستورية التي تعد في تقديرنا من أخطر التعديلات المقترحة على مستقبل وهوية المدرسة، إلا إذا تعززت بما يضمن عدم الإنسلاخ عن أصالتها والحفاظ على دورها الحضاري مع الوظيفة التعليمية التقليدية!

نعتقد أن بقاءها بالصياغة الواردة في المسودة سيجعلها مادة فضفاضة، ولا يمكن مستقبلا تفسيرها فقط على أنها سياج قانوني ضد تسييس المدرسة أو تحزيبها!

وحتى في الحالة الأخيرة، فإن شعار “لا لأدلجة المدرسة” قد يكون كلمة حق يراد بها باطل، ويحتاج أحيانا إلى تفصيل ضروري، ذلك أن التكوين الأساسي للتلميذ ينبثق عن تصور خاص للكون وللإنسان وللحياة وما بعدها من عالم الآخرة، كما أنه يكرس القيم الأخلاقية والمثل العليا ضمن إطار المرجعية النهائية للأمة، بمعنى أن الإيديولوجية كرؤية حضارية عامة لا مناص منها في أي مجتمع، ورفضها يتعلق فقط بمحاربة الفكر الطائفي والحزبي  داخل المؤسسات العمومية.

مقالات ذات صلة