-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ما بعد الحركة الإسلامية الكلاسيكية

ناصر حمدادوش
  • 1236
  • 0
ما بعد الحركة الإسلامية الكلاسيكية

هناك هزَّةٌ عنيفةٌ مسَّت “العقل الاستراتيجي” للحركة الإسلامية، خاصة بعد التجارب القلقة لثورات الربيع العربي، إذ وجدت نفسها أمام ضرورات التجديد وحتميات الانتقال من النخبوية إلى الجماهيرية، والارتقاء من فقه الجماعة إلى فقه المجتمع، وواقعية الاجتهاد في التمييز الوظيفي بين السياسي والدعوي، وتحدِّيات الصعود الديمقراطي من دال الدعوة إلى دال الدولة، وإكراهات التحوُّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتسارعة والعميقة.

هذه المستجدات والتحديات فرضت واجب تعميق النظر في تجربة الحركة الإسلامية من الزاوية التحليلية والنقدية الجادة والمسؤولة؛ إذ ازدادت حملات التبشير بنهاية الدَّور السِّياسي للحركة الإسلامية الكلاسيكية بعد سلسلة الأخطاء الإستراتيجية في التعاطي مع فاعلي الثورات المضادَّة وقوى الرَّبيع العربي وتدخُّلات العوامل الخارجية كظهيرٍ أجنبي في التحوُّلات الداخلية

لابدَّ من روحٍ نقدية للحركة الإسلامية بكلِّ شفافيةٍ ووضوح، تتحرَّر فيه من عقدة التعصُّب التنظيمي، وتتعرض إلى أشعَّة النقد الموضوعي، وتخضع إلى المراجعة العميقة بصوتٍ مرتفع، بعيدًا عن الدهاليز التنظيمية المغلقة، وتجاذب الصِّراعات الداخلية، ومآلات قولبة عقول المناضلين، ونمذجة نفسيات الأفراد، والتي يغلب عليها الانبهار بالذَّات وتمجيد القيادات وتقديس الأفكار والتعصب للتنظيم؛ فيغيب معها العقل الاستراتيجي.

لقد حدث زلزالٌ فكريٌّ ومفاهيميٌّ مدوّيٌّ كإيذانٍ بدخول الحركة الإسلامية في مرحلة مخاضٍ لولادةٍ وبعثٍ جديد، تنسجم فيه سُنَّة التجديد مع ديناميكية التحوُّلات مع الحتمية النَّصية في الحديث النبوي الشّريف: “إنَّ اللَّهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها”، وذلك بالانتقال من مرحلة الصَّحوة على مستوى خطِّ المجتمع إلى مرحلة النَّهضة على مستوى خطِّ الدولة، وسقوط النموذج الكلاسيكي للحركة الإسلامية الذي وصل إلى خطر التمركز على الذات وتقديس التنظيم والأشخاص على حساب تقديس المبادئ والأفكار والمشروع، وهي التي أدمنت على الأيديولوجية الضيِّقة، والتنظيم المغلق، والقيادة المركزية التقليدية.

لابدَّ من روحٍ نقدية للحركة الإسلامية بكلِّ شفافيةٍ ووضوح، تتحرَّر فيه من عقدة التعصُّب التنظيمي، وتتعرض إلى أشعَّة النقد الموضوعي، وتخضع إلى المراجعة العميقة بصوتٍ مرتفع، بعيدًا عن الدهاليز التنظيمية المغلقة، وتجاذب الصِّراعات الداخلية، ومآلات قولبة عقول المناضلين، ونمذجة نفسيات الأفراد، والتي يغلب عليها الانبهار بالذَّات وتمجيد القيادات وتقديس الأفكار والتعصب للتنظيم؛ فيغيب معها العقل الاستراتيجي.

الهجرة بالمشروع من الدعوة إلى الدولة:

لقد كان واجب الوقت -بعد سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م- هو تأسيس الحركة الإسلامية المعاصرة بكلِّ تمظهراتها من أجل الحفاظ على الفكرة الإسلامية من السقوط على مستوى الفرد والمجتمع بعد أنْ سقطت على مستوى الدولة والحضارة، وهو ما اعتمدت عليه الحركة الإسلامية في منظومتها الفكرية والتكوينية والتربوية في المئوية السَّابقة، بالاشتغال على الفرد والأسرة والمجتمع عن طريق ترسيخ الهوية وغرس القيم، وهو ما تحقَّق واستوفى مبرِّرات تأسيسها في القرن الماضي، وهي تتَّجه اليوم -طوْعًا أو كرْهًا- إلى واجب التجديد في مئوية النَّهضة، عبر محاولات إيصال الفكرة إلى الدولة ومنها إلى النهضة والحضارة، ما يفرض عليها الانخراط في الشأن العام بقوَّة على مستوى الخطِّ السياسي والاستراتيجي، وواجب التجديد والتطوير في منظومتها الفكرية والتكوينية لصناعة رجال الدولة، وليس مجرد رجال الدَّعوة والتربية فقط.

لقد تركت تجربة ممارسة الحكم في المرحلة السَّابقة على المستويات المختلفة للسلطة آثارًا معرفيةً وسلوكية غيَّرت بعضًا من التصوُّرات التنظيرية التقليدية للحركة الإسلامية الكلاسيكية حول الدولة والخلافة، دفعت إلى الاجتهاد في المواءمة بين الفكر السياسي الإسلامي التقليدي والفكر السياسي الواقعي المعاصر، وهي الاجتهادات التي جمعت بين مبدئية الشورى وآلية الديمقراطية، وبين عالمية الفكرة وقُطرية الدولة، وبين فكر الأمة والدعوة وفكر القومية والوطنية، وهي الخلاصات التي انتهت إليها بالانتقال من حلم الخلافة التقليدي إلى واقعية الدولة الحديثة، نظرا للتعقيدات الكبيرة في عملية الإصلاح والتغيير على مستوى خط السلطة والمجتمع معًا، خاصة مع الجرعات المكثفة للتسييس الذي تعرَّضت له الحركة الإسلامية بالانجذاب القسري نحو العمل السياسي وإكراهاته.

الحركة الإسلامية ونظرية المقاصد في عملية التجديد

لقد كان للتدقيق العلمي في تحديد منطقة التفكير السِّياسي الإسلامي بالتمييز بين أنواع الاستدلال النَّصي بين القطعيات والظَّنيات ومنطقة العفو المسكوت عنها دورٌ في حلِّ إشكالاتٍ خطيرةٍ كانت تعاني منها الحركة الإسلامية، أخرجتها من المنهج التغييري الصدامي العدمي ضمن دائرة الحقِّ والباطل إلى المنهج التغييري السِّلمي التشاركي ضمن دائرة الخطأ والصَّواب في الاجتهاد السِّياسي.

إنَّ الاجتهاد المقاصدي للحركة الإسلامية في العمل السياسي يفرض الانتقال من العقل المقاصدي العقائدي لتصُّورات الإنسان، إلى العقل المقاصدي الفقهي لفعل الإنسان، إلى العقل المقاصدي الأصولي لعقلانية الإنسان، إلى العقل المقاصدي السِّياسي لفكر الإنسان، والذي يتناول مظاهر الحياة جميعًا؛ وهو ما يفرض المزاوجة بين العقل الفقهي والعقل المقاصدي والفقه الحضاري في مسألة السياسة والحكم والدولة والنهضة والحضارة.

الحركة الإسلامية وضرورات إعادة التشكُّل:

إنَّ مبرِّرات تأسيس الحركة الإسلامية الكلاسيكية ووظيفتها في مئوية الصَّحوة بالتركيز على واجب الدَّعوة للحفاظ على الهوية وترسيخ القيم تختلف تمامًا عن مبرِّرات تجديدها ووظيفتها في مئوية النَّهضة بالتركيز على واجب الوصول إلى الدولة ومنها إلى الحضارة كمنتَجٍ ماديٍّ للتنمية والرفاهية.

ومن هذه المراجعات: الاختيار الإرادي للانتقال من التنظيم الهرمي إلى التنظيم الشبكي، ومن الطبيعة الشمولية المنغلقة إلى الطبيعة التخصُّصية المنفتحة، ومن وَحدة التنظيم إلى وَحدة المشروع؛ إذ تتّجه الحركاتُ الإسلامية المعاصرة إلى التخصُّص الوظيفي، وهو ما يعني ترحيلَ بعض الوظائف وصبَّها في قوالب تنظيمية مستقلة عن التنظيم السياسي والمؤسسة الحزبية، ما يحتاج إلى الإبداع في هذه العلاقات لتضمن التلاقي في المشروع الاستراتيجي، وتجتمع في المرجعية الفكرية، وتلتئم في وحدة الفهم والتصوُّر، وترتبط بقدسية البُعد الرُّوحي التربوي، ولكنها تتمايز في الوظيفة التخصُّصية وفي الهيكل الإداري وفي التمويل الذاتي وفي القرار التخصُّصي، مع المرونة في العلاقة التنظيمية بين جميع المؤسَّسات.

لقد ذهبت حركاتٌ إسلامية -بكلِّ جسارةٍ فقهيةٍ وشجاعةٍ فكريةٍ- إلى نوعٍ من المراجعات النقدية العميقة إراديًّا، ومنها: التنظير والتنفيذ للتجديد الفكري والتخصُّص الوظيفي والتكيُّف التنظيمي بتوزيع الوظائف الأساسية وتدبير إدارتها، والذهاب الواعي إلى مرحلة ما بعد التنظيمات الشّمولية، والانتقال السَّلس من التنظيم الهرمي المحوري إلى التنظيم الشبكي الرِّسالي، بتركيز الوظيفة السياسية في الحزب السياسي المدني البرامجي من أجل التمكين له في الدَّولة، وتركيز الوظائف الاجتماعية والمجتمعية في المؤسسات المدنية، والتمكين للدِّين (الهوية والقيم والفكرة الإسلامية) في المجتمع.

وتقوم خيارات الذَّهاب إلى التخصُّص الوظيفي على القناعة المبدئية أنَّ شمولية الأفكار والمقاصد والأهداف ومجالات العمل لا تعني بالضرورة شمولية التنظيم، ما يطرح فكرةَ تقدُّم الولاء للمشروع على فكرة الولاء للتنظيم، وهو ما يعني أيضًا أنّ المؤسَّسات المتخصِّصة في حالة توازنٍ وتكاملٍ لا في حالة تنافس وتآكل.

إنَّ ما بعد الحركة الإسلامية الكلاسيكية يتطلب تحرير الإسلام من الأطر التنظيمية الحزبية، والتسامي به عن أدلجة الدِّين وتحزيبه، والتعفُّف عن مزاعم امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكار الصواب الكامل في الاجتهاد السياسي، وضرورة الانطلاق من الشعارات إلى الممارسات بإجراءاتٍ علميةٍ وواقعيةٍ للمبادئ العامة والقواعد الكبرى والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، وهيكلة الشعارات والأفكار والأطروحات البديلة إلى برامج تنموية عملية وحقيقية، وإنهاء القطيعة بين السّلطان والقرآن، ومعالجة الحالة القلقة بين الحركة الإسلامية والأنظمة الحاكمة، وتحديدًا: معالجة إشكالية اهتزاز الثقة المتبادلة بينها وبين المؤسَّسات العسكرية والأمنية، القوَّة الصَّلبة في الدول.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!