الرأي

مبادراتٌ تنْتظرُ ناخِبًا وطنيًّا بكفاءةِ بلْمَاضِي

أبو جرة سلطاني
  • 1167
  • 11
ح.م

أفرز ضغط الشّارع عددا هائلاً من المبادرات النّاضجة، تصلح مفاتيح لحلّ واقعي، فالوقت ضاغط، وتسارع الأحداث لا يسمح بـ”مرحلة انتقاليّة” طويلة، في غياب رئيس منتخَب للجمهوريّة. يكفي أننا احتفلنا بالتّتويج دون رئيس، وصرنا كلّ ليلة ننام على أخبار عاجلة، ونستيقظ على ما هو أعجل منها وأشدّ غرابة، فبعض من كان حاميها صار مشبوها بأنه حراميها، والأيام حُبلى يلدن كلّ عجيب، فكثير من الذين كانوا بالأمس صدورًا أمسوا اليوم قبورًا، ومن كان يمشي سويّا بات مكبّاً على وجهه.. وتلك الأيّام نداولها بين الناس.

تقول أبجديات القانون: “المتّهم بريء حتّى تثبت تهمته”. لكنّ لفيفاً من عشّاق السّباحة في الفضاء الأزرق، وبعض صغار النّفوس، نصّبوا أنفسهم قضاة؛ يتّهمون الناس، ويحاكمونهم غيابيّا (بلا شهود، ولا دفاع، ولا ملفّات، ولا قرارات إحالة، ولا قرينة براءة..). ويصدرون ضدّهم أحكاما قاسيّة، أدناها شبهة الفساد، وأقصاها خوادش الحياء، ونواقض الإيمان السّبعة، وأوسطها كلُّ ما جاء في “حديث المفلس”. حتّى ليخيّل لمن يتصفّح بعض مواقع التّواصل الاجتماعي أنّ الشّيطان صار يكتفي بكتابة كلمة “جام” ويدعو حزبه لتكثير سوادها! فكلّ من يُذكر اسمُه في مبادرة، يُتّهم بالانتهازية والوصوليّة والتسلّق.. وكل من يتقدّم بفكرة أو رأي، يُتّهم بالخيّانة والعمالة والتزلّف وركوب الموجة.. وكلّ من يُتداول اسمه في قائمة مقترَحة للحوار الوطني، يقع تحت طائلة الذّباب الإليكتروني، وتصدر ضده أحكامٌ قاسيّة مع وقف التنفيذ. والغريب أنّ هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم قضاةً يحاكمون النيّات، ويصدّقون الظنّ، ويكذّبون اليقين. وهي ممارساتٌ خاطئة أنتجت ثلاث ظواهر سلبيّة، لا صلة لها بالدّين، ولا بالسّياسة، ولا بحريّة الرّأي، ولا بالدّيمقراطيّة. هدفها الوحيد التّشهير الذي تتآكل بسببه حسنات مروّجيه يوم تُبْلَى السّرائر:
ـ ظاهرة “شيْطنة” كلّ مخالف، بشعار: “إذا لمْ تكن معي فأنت عدُوّي”.
ـ وظاهرة الاصطفاف الإيديولوجي، بحثا عن تثبيت “مشْروع مجتمع” أصيل، أو محاولة لفرض مشروع مجتمع بديل.
ـ وظاهرة التّشكيك في كلّ مبادرة، قبل قراءتها من منطلق: “أمر دُبّر بليل” أو تعيينٌ تمّ بإيعاز، أو هذا رجلٌ من الخزانة القديمة..
إذا أجرينا مسْحا شاملا للوضع العام، منذ بداية الحراك إلى اليوم وقيّمنا ما تحقّق، واستشرفنا ما ينتظر شعبَنا في المستقبل. اكتشفنا أنّ الذي تحقّق ـ بفضل سلميّة الحراك ـ كثيرٌ. ومازالت مكاسب أخرى سوف يستدعيها تسارع الأحداث، ومرافقة الجيش لمطالب الشّعب، وسوف تتساقط المزيد من الأوراق العالقة بـ”شجرة الموالاة” التي كانت تغطّي غابة الفساد، فلما تمّ قلع جذْرها الأكبر، تناثرت أغصانها وتيبّست ثمارها، فاكتشف الرّأي العام أنّ الذي كان يجمعها هو الاستمراريّة، فلما أسقِطت الخامسة فرّقتها سياسة تجفيف المنابع، في واقع وطني جديد صنعته قبضة رباعيّة متلاحمة، بإرادة شعبيّة متمسّكة بحرفيّة المادّتيْن 7 و8 من الدّستور، لمواجهة أقليّات مخمليّة تبحث عن تكييف جديد للديمقراطيّة، ربحا للوقت كيْ تتمكّن من التقاط أنفاسها، وترميم بناءاتها المتصدّعة بفعل زلزال 22 فبراير. عساها تنجح في إعادة إنتاج نفسها، بالاستثمار في عامل الزّمن، بالإصرار على ترسيم مرحلة انتقاليّة، ترتخي خلالها قبضة هذا الرّباعي المتعاون على تجسيد مشروع الجزائر المنشودة.

ـ القبضة الأولى، هي قبضة الحراك الشّعبي، الذي حاصر “الحرس القديم”، على مدار خمسة أشهر، ومازال يتجمّع بنفس طويل، ومازالت مطالبه تتجدّد كلّ جمعة لاستكمال رحيل ما بقيّ من حواشي. رحل أكثر وجوهها بروزا، من رجال المال السياسي، ومازال الحراك يطالب بتقديم ضمانات لحُسْن النيّة، والقيام بإجراءات تهدئة تعيد اللّحمة بينه وبين تاريخه ودولته، وتساهم في ترميم بنْية الثّقة التي تآكل رصيدُها، خلال عشريّة انهارت فيها جميع القيم المجتمعيّة، وغلا فيها كلّ شيء إلاّ الإنسان.

ـ قبضة المؤسسة العسكريّة، التي لم تقصّر في محاصرة من تسمّيهم “العصابة” برّا وبحرا وجوّا، وفق الصّلاحيات المخوَّلة لها دستوريّا، طبقا للمادة 28، منه. وتقدّم كل يوم مزيدًا من الضّمانات في مسْعى تصفيّة العصابة وأذنابها، والضّرْب بيدٍ من حديد على يد كلّ من تسوّل له نفسه التّشكيك في النيّات، أو محاولة اختراق الحراك، أو العبث بمكوّنات الوحدة الوطنيّة، والمساس برموزها وتثبيط معنويات أفراد الجيش الوطني الشّعبي.

ـ قبضة العدالة، التي تكشف كلّ يوم عن فتح مزيد من الملفّات الحسّاسة، وتستدعي كلّ من تحوم حوله شُبهة في أيّ استماع، بمنهجيّةٍ متدرّجة في القضايا المتشابكة، كون المال قد اختلط بالسّياسة والثّقافة والرّياضة والفلاحة والسياحة.. وصارت الفواصل بينها معدومة، والحدود منسوفة. والعيّنات التي كشفت عنها قرارات العدالة وأحكامها، حتّى الآن، تثبت أنّ كثيرا من السياسيين أصبحوا رجال أعمال، وكثيرا من رجال الأعمال صاروا سياسيّين، وتحالفهما لم يكن بريئا. والمال السّياسي لم يكن لوجه الله ولا من أجل الوطن، وإنما كان “تأشيرة مرور” إلى حصانة تضمن الإفلات من قبضة القضاء، فعرّت ثورة الشّعب ما كان مستورًا، ووضعت كلّ مسؤول أمام ساعة الحقيقة، وصار القانون فوق الجميع.

ـ والقبضة الرّابعة، هي قبضة رئاسة الدّولة، التي كشفت عن مبادرة رسميّة، بمناسبة الذكرى 57 لاسترجاع السّيادة الوطنيّة، تلتزم فيها بتنفيذ مطالب الشّعب بلا هوادة، وتجعل الأولويّة تنظيم رئاسيات تستوفي كامل شروط الشّفافيّة، وتدعو إلى التعاون على تحضير الأجواء، بالانخراط في مسار حوار وطني، موصل إلى التّوافق، تتولاه شخصيّات مستقلّة وغير متحزّبة، تحظى بالقبول الشّعبي والمصداقيّة والمهنيّة.. وليس لها طموح شخصي! تتحمّل هذه المسؤوليّة التاريخيّة، بكلّ حريّة واستقلاليّة، ولن تكون الدّولة طرفا في الحوار، وتكتفي بوضع الوسائل الماديّة تحت تصرّفها. ويكون من صلاحياتها ترتيب شكل الحوار، وطريقة العمل، وتحديد الموعد الانتخابي (بما في ذلك الرّوزنامة الزّمنية والإشراف..). مع ضرورة استبعاد كلّ ما يجرّ البلاد إلى فراغ دستوري.

لكنّ الأسئلة المعلّقة التي لم تجب عنها أيُّ جهة حتّى الآن هي: من هم الشّخصيات الوطنيّة؟ من يعيّنهم أو يقترحهم في واقع مزروع بالمخاوف والشّكوك؟ كيف تتحاور أطرافٌ مستقلّة لا وصاية للدّولة عليها؟ من يضمن تنفيذ مخرجات الحوار؟ هل مخرجات الحوار قرارات ملزِمة، أم هي توصياتٌ للاستئناس بها؟ من هو ضامن الإرادة السّياسيّة إذا اختلفت الأطراف؟ من هي جهة التحكيم حال التّنازع؟ ما علاقة الهيئة الوطنيّة (أو السّلطة الوطنيّة) لتنظيم الانتخابات ومراقبتها وإعلان نتائجها بالرّئاسة والحكومة والحَراك؟ ما هي الآليّة القانونيّة التي تنظّم هيكلتها وسيرها وعملها؟ وكيف سيتمّ “تكييف” المادة 194 من الدّستور، وتعديل القانون العضوي الانتخابي؟ وما هو دور القضاء في هذه العمليّة كلّها؟ هل تمّت قراءة الواقع الوطني والإقليمي والدّولي قراءة جماعيّة؟
الجوابُ باتَ وشيكًا.

مقالات ذات صلة