-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مبدأ الحوار وأهدافه

التهامي مجوري
  • 499
  • 0
مبدأ الحوار وأهدافه

يظن بعض الناس أن الحوار ملجأ يستنجدون به عندما يتورطون في مآزق لا يستطيعون التغلب عليها متفرقين، فيلجؤون للحوار من أجل لملمة الجهود والتعاون لتحقيق الغلبة المنقذة من الورطة التي وقعوا فيها.

بينما الأصل في الحوار أنه مبدأ إنساني أصيل، لا تقف غاياته عند الحاجة إليه في الإنقاذ من المآزق والأزمات، وإنما تتعداه إلى كونه حاجة إنسانية وغاية لا تستسيغ الطباع السليمة الاستغناء عنه.

لقد ذكرنا في موضوع سابق نشر في الشروق أونلاين بعنوان “لماذا كان الاختلاف ضروريا؟” أن الناس بطبيعتهم مختلفون؛ بل إن الاختلاف ميزة بارزة في حياتهم، خدمة لهم ولغاياتهم التي خُلقوا لأجلها.

ومجرد وجود هذا الإختلاف وحده مدعاة للالتقاء بين الفرقاء والمختلفين في جانب أو جوانب من الحياة، وذلك ليس لمجرد البحث عن مواطن الاتفاق للتغلب على مصاعب الاختلاف عند وجودها، وإنما كل فرد أو مجموعة مجبولون على التطلع إلى ما عند الغير؛ لأن الفضول الذي فُطر عليه البشر، يتطلع دائما إلى ما عند هذا الغير من فضائل، وما يقعون فيه من رذائل، لمجرد المعرفة أو للفائدة حرصا على الفعل أو الترك، وأيسر السبل لذلك الحوار، بالالتقاء والنقاش وتبادل الآراء والخبرات والمنافع…

ولكن بحكم أن فكرة الحوار في أذهان الناس لم تجاوز المعنى المشار إليه، وهو أنه يُلْجأ إليه عند الافتراق والتنازع والشعور بالخطر الذي يهدد الجميع، وقف الناس عند هذا الحد القاصر، ولم ينتبهوا إلى أهميته كقانون كوني قابل للإعمال دائما وفي كل حال.

وعندما تندلع الحروب مثلا، فإن أول ما يفكر فيه المتحاربون هو الالتقاء المباشر فيما بينهم أو بالوسائط، والحوار فيما يعرف بالمفاوضات، رغم أن الحوار كان ممكنا قبل اندلاع الحرب بينهم ولكن الأنانيات تُشعر الناس باستغنائهم عن غيرهم، فلا ينتبه بعضهم إلى حاجته إلى بعضه الآخر إلا عند الكوارث… وقل مثل ذلك في كل حالة فيها اختلاف بين طرفين أو أكثر، بما في ذلك الاختلاف بين الزوجين، الذي هو اختلافٌ طبيعي بسبب اختلاف الخلقة لكل من الرجال والنساء.

وبحكم أن اللجوء إلى الحوار كما هو ساكن في أذهان الكثير من الناس لا يكون إلا عند النزاع، فإن الزوجين مثلا لا يلجآن إليه إلا عندما يبلغ سوء التفاهم مداه، رغم أن الفرص والسعة التي بينهما كبيرة جدا إذ يمكن للزوجين أن يتجنّبا الخلاف المخل؛ لأن العلاقات الزوجية مبناها على التواد والتراحم ابتداء، ومع ذلك نجد أن العلاقات الزوجية سمتها البارزة في مجتمعاتنا النزاعات أولا وقبل كل شيء.

لقد قرر الله في كتابه مبدأ الحوار فيما ينبغي أن يكون عليه الناس مهما بلغت ساحات الاختلاف بينهم، بما في ذلك الصور غير القابلة للجمع كما هو الحال بين المسلمين وأهل الكتاب وذلك بسبب ما بين الفريقين من اختلاف عقدي ديني، ومع ذلك قال الله لرسوله الخاتم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران 64]، فجعله ينطلق من صورتين مختلفتين، كأساس عقدي مبدئي مهما اختلفت التوجهات غير القابلة للجمع بينها، في إطار عقدي مبدئي واحد، إذ تكون الدعوة إلى الحوار هي السبيل الجامع بينهم.

ورغم أن رسالة الإسلام الخاتمة هي الحق، وأن الإسلام هو دينُ الله الذي ارتضاه للبشرية، فإن الله أمر نبيَّه بأن يدعو أهل الكتاب الذين هم على ضلال إلى كلمة سواء، تقلل من انعكاسات الاختلاف العقدي على الحياة والعلاقات الإنسانية العامة.

الحوار إذن ليس من أجل جمع الناس على عقيدة واحدة أو فكر واحد أو اجتهاد واحد، وإنما كان ولا يزال مقررا من الإبقاء على العلاقات الإنسانية متفاعلة بين أطرافها وفئاتها، متبادلة الخبرات والتجارب والمنافع، بحرية تامة وتحمّل للمسؤوليات كاملة للخيارات، فالناس مختلفون في آرائهم وخياراتهم، ولكن هذا الاختلاف باعتباره ممارسة للحرية، هو في الوقت ذاته مسؤوليات موزَّعة على البشر واجبة الاحترام والتقدير، مراعاة للتكريم الإلهي الذي خُصَّ به الإنسان، ومن بين المسؤوليات المطلوب الحرص عليها، الحوار الذي يحوّل تلك المسؤوليات، رغم ما بينها من الاختلاف والتنوع، حريصة على النفع للجميع أو هكذا يفترض في السلوك الإنساني السليم، إذ يتحول الحوار بين الفرقاء إلى وسيلة من وسائل الارتقاء والتقدم، ونرى أن المعنى المناسب للفظ “تعالوا” في الآية، أي تساموا وارتقوا، من العلوّ والترفع عن الدنايا، فيكون التسامي والارتقاء بالتحلل والتحرر من الأطر المذهبية الضيقة والانفتاح على الأطر الغائية الكونية الأوسع… فيا أهل الكتاب -رغم انحرافكم عن التوحيد- خياركم محترم بلا شك كتديُّن تعتقدون صحته، ولكن ما دام لكم مخالفون في الوجود، فينبغي أن لا تبقوا منغلقين على أنفسكم، وإنما انفتحوا على مخالفيكم في هذا الاعتقاد وهذا التدين، لعل الحق أو بعضه موجود عند غيركم،  فابحثوا عن مواطن تقربكم من هذا الغير، ومن هذه المواطن الكلمة السواء التي حصرها القرآن الكريم في قوله تعالى (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ)، باعتباركم أهل كتاب تؤمنون بالله وتعترفون له بالعبادة؛ فالقاعدة التي تلتقون عليها مع غيركم هي العبادة ومبدأ التكريم الإنساني ففي العبادة (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا)، وفي مبدأ التكريم الإنساني (ألَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ).

وهذه الآية قاعدة جامعة لكل ما يمكن أن يختلف عنه البشر في كل شيء؛ لأنها معبّرة عن كل ما يمكن أن يعتري الإنسان فيختلف فيه مع غيره أو يتفق، سواء فيما يتعلق بالأمور التي يدركها العقل مما له علاقة بالدنيا وما فيها من مصالح ومفاسد يمكن إدراكها بالعقل، أو الأمور التي يعجز العقلُ عن إدراكها وإدراك معانيها.

وعندما يلتقي الناس على القاسم المشترك الذي يخضع له الجميع على مائدة الحوار، فإنهم يجدون أنفسهم يبحثون في كل ما يثمِّن ذلك القاسم المشترك وينمِّيه، ويتناسون ما دون ذلك من الأمور المعطِّلة للإنسان عن بلوغ الغايات السامية.

والمفترض في المختلفين في المعتقدات والأفكار والآراء، أنهم مدركون لجميع ما يرفعهم ويقرِّبهم من تحقيق مصالحهم، ولكنهم مختلفون في الغالب في ترتيب الأولويات، ومختلفون في الوسائل التي تحقق تلك المصالح، ومختلفون في المدد الزمنية المطلوبة لتحقيق هذه الغاية أو تلك، فيكون الحوار وسيلة من والوسائل التي تعين الفرقاء على ترتيب أولوياتهم، فيقترب بعضُهم من بعض بقدر حرصهم على تحقيق مصالحهم، ويتناسون ما بينهم من خلاف، مع الإبقاء على خصوصيات كل طرف.

يعتقد البعض أن من ضرورات الحوار أن كل طرف من الفرقاء يقبل على مائدة الحوار بنيّة التنازل عن بعض أهدافه، والحقيقة أن الذي يأتي ليتنازل، في منطق الأشياء يكون خائنا لمعتقده وأفكاره وخياراته، وإذا قبلنا جدلا فكرة التنازل هذه، فإنه ينبغي أن لا يتجاوز ترتيب الأولويات؛ لأن تجاوز ذلك يهدد كيان الأفكار والمعتقدات والخيارات… اللهم إلا إذا اعتبرنا الحوار كرنفالا كالذي تنظّمه النظم الاستبدادية ومجموعات الطوائف المتطرفة، ربحا للوقت ووسيلة من وسائل الخداع والختل والحرص على ترويض المخالف، وهي الأساليب التي يتصيد بها بعضُ الفرقاء كبوات بعضهم الآخر، تحقيقا للمكاسب الأنانية الآنية، وليس من أجل الوصول إلى الحقائق.

كان الحوار ولا يزال إطارا جامعا للارتقاء بالإنسان إلى تحقيق المصالح الجامعة، وليس لمجرد التغلب على المصاعب، وإن كان ذلك مطلوبا أيضا في جميع المجالات المتعلقة بقضايا الإنسان الدنيوية والأخروية.

ومن أهدافه تقليص مساحات الخلاف بين الفرقاء، والإبقاء على الخيارات المختلف فيها مهما كانت، احتراما لخيارات الغير وحريته؛ لأن الأطراف كلها مسؤولة عما تختار من الآراء والأفكار، وتتحمل تبعات خياراتها.

رغم أن رسالة الإسلام الخاتمة هي الحق، وأن الإسلام هو دينُ الله الذي ارتضاه للبشرية، فإن الله أمر نبيَّه بأن يدعو أهل الكتاب الذين هم على ضلال إلى كلمة سواء، تقلل من انعكاسات الاختلاف العقدي على الحياة والعلاقات الإنسانية العامة.

ومن أهدافه أيضا التعارف بين الفرقاء والمختلفين، وتطوير الذات، واكتساب المعرفة والاستثمار في ذلك؛ لأن الالتقاء بين الفرقاء ليس مجرد لقاء بين مختلفين فحسب، وإنما هو لقاء بين مستويات معرفية علمية عملية مختلفة ومتنوعة، والتقاء بين خبرات وتجارب متنوعة ومختلفة، والتقاء بين طاقات مادية ومعنوية متنوعة ومختلفة، وكل ذلك يصب في مصب استفادة بعض هذه الأطراف من بعضها الآخر.

ومن أهداف الحوار كذلك استشرافُ المستقبل، والاستعداد للاستثمار فيما يمكن الاستثمار فيه ومواجهة مصاعبه المحتملة.

إن الحوار كمسألة وجودية، لا فضل فيه لأحد على أحد؛ بل إن الذي يعطّله أو يتسبب في تعطيله يكون قد أجرم في حق الإنسانية، بقدر ما يعطّل من مصالح كان يمكن تحقيقها بمجرد اللقاء وتبادل وجهات النظر؛ لأن الكثير من الخلافات خاصة المفضية إلى التنازع، سببها عدم التعارف، مثلما هو الواقع في الخلاف بين العلمانيين والإسلاميين وبينهم وبين القوميين وبين هؤلاء جميعا وبين من هم في السلطة… الذين بلغ بهم الاختلاف حد العداء؛ بل والعمل على تصفية كل منهما للآخر، فقد التقوا وتحاوروا وتفهّم بعضهم بعضا؛ بل تحالف بعضهم مع بعض في أطر إدارية وحزبية جمعت بينهم في ظروف معينة، وأصبح بعضُهم يعرف عن بعضه الآخر ما لم يعرفه من قبل.

لا شك أن الخلافات في عالمنا الإسلامي، ليست بالخلافات المؤسَّسة على معتقدات ومبررات فكرية علمية صحيحة، مثلما هو الواقع في الغرب، وإنما هي أوهامٌ تسببت فيها حواجز نفسية مبنية على طباع قبلية وخيارات أيديولوجية متطرفة، ومع ذلك تبقى فضيلة الحوار هي المخرج الأول والأفضل لتجاوز سوء الظن وسوء الفهم والخطأ في التقدير، باعتباره مبدأ أصيلا في حياة الإنسان بمقرراته وأهدافه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!