-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متاهات الدولة الحديثة

متاهات الدولة الحديثة

منذ أن انهارت عصبة الأمم وما تلاها من حرب عالمية ثانية شكلت نظاما دوليا جديدا تحت مظلة الأمم المتحدة لا عهد للعالم آنذاك به، برزت بجلاء مقولة “الدولة الحديثة”، كنموذج للدولة المستحدَثة عقب أفول الاحتلال الغربي و”استقلال” الدول المستعمَرة. وحشيت كياناتها بنظم سياسية وثقافية متنوعة، لم تك سوى تطبيق لأيديولوجيات يدعمها الشرق أو الغرب، القائم على أسُس فكرية خاصة لا علاقة غالبا لها بثقافة الأمم التي سُيِّست بها. إن مقولة “الدولة الحديثة” وأدبياتها من أكبر الأكاذيب التي انطلت على البشرية إلى يوم الناس هذا.

الحداثة مصطلحٌ استُخدم كثيرا في الثقافة كما في السياسة، كمِرْجل وضع على تنور ملتهب تُطبخ فيه كل المشاريع التي يراد تجربتها على البشرية. ولدهاء القائمين على تلك العملية فقد فضَّلوا استخدام هذه اللفظة، أي “الحديثة”، لإلهاء الشعوب ريثما تنتهي الطبخة وتُجرَّب، ثم إلى أخرى ثانية وثالثة وهكذا دواليك، بقصد تخدير الشعوب أطول فترة ممكنة فيستقرّ الأمر لأهله، ويظل السيد سيدا والتابع تابعا. وللغاية غير النبيلة تلك، تلجأ بعض الأنظمة كما المثقفين إلى تبديل كلمة “الحديثة” بأخرى تحمل الزيف ذاته مثل “التغيير” و”التجديد”، كما كتب قاسم أمين يومها عن “المرأة الجديدة”، وكان يناقض بما كتب عنها قيم المصريين عن الشرف والعفة والحجاب.

يقال في الفلسفة “الحديثة” مثل ذلك، وهي في جوهرها مزيج بين اليهودية والمسيحية والفكر الثائر عليهما، وفي “الحداثة” الشعرية عندنا مقولات جلُّها خروجٌ عن عمود الشعر العربي، ولك أن تقول مثل ذلك في كل ما استجد من حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية؛ فعندما تجد أن المشروع يُردَف بوصف “الحديث”، هنالك يلزمك أن تستوقف عقلك فتتبصّر عميقا، وتستجلي ما وراء الأكمة؛ ولحكمة ما، كان العلماء الصالحون -حراس الشعوب من الآفات- يتبوّؤون في الحضارة الإسلامية الصدر من القيادة، وعلماء الشرع الحنيف منهم كانوا في الطليعة.

لم تك صفة “المواطنة” إضفاءً اعتباطيا على رعايا “الدولة الحديثة”، المواطنة وعاء لا شيء يلوّنه غير ما سينضح به من ألوان تصبّها فيه الدولة الحديثة ومنظّروها. إن السمة المشتركة بين تلك الألوان المتناقضة أحيانا سمة واحدة، ملكية كانت الدولة أم جمهورية، ديمقراطية كانت أم شمولية، قومية كانت أم شعبية… الكل يشترك في خيار “العلمانية”، التي تفصل الدين فصلا حادا عن الحياة، وإن اكتفى بعضهم باللائكية، فالسياسة من أوجه تلك الحياة؛ ليخلو الأمر بعدها لكل شَبِقٍ يهوى ممارسة السلطة.

ما الذي أعلى شأن العلمانية في بلدان مسلمة لم تعرف صراعا بين الدين والعلم، ولم تشهد شعوبها من الدين ظلما في حقوقها ولا هضما، بل كانت تلك الشعوب على مدار تاريخها أمة واحدة ذات رسالة خالدة؟ اللافت حقا أن سائر الدول الحديثة لا تضع في شعاراتها العلمانية صفة فارقة من صفاتها، ربما لأن ذلك كان بيت القصيد فعُمِّي على الناس الخبر.

كاد سلطان الدولة المسلمة في مراحل معينة من تاريخها أن يطول حدود الأمة بأسرها. كان الدين دافعا مهما لأن تلاحق الدولة الأمة لتحرسها وتذود عنها الأعادي. والدولة حينها كانت عزيزة منيعة مرفهة، ولم يضرّها أن تسوس رعاياها بصفتهم التي من أجلها وُجدوا، وبها على الأرض استقروا واستُخلفوا، صفة الإيمان بالخالق؛ فهم إما مسلمون أو غير مسلمين، وبمقتضى ذلك تحدد الحقوق والواجبات. الفرد فيها يعامَل بصفته مسلما، وتكفيه هذه الصفة عن غيرها ليتحدد كل شيء بعدها. إلى أن جاء من نزع عن الأفراد في الدولة الحديثة هذا الاعتبار وألقى عليهم غيره، وعاملهم مثل كيانات مادية لها حضور على قطعة من البسيطة، وليس عليهم فيها إلا أن يدينوا لسلطان الدولة مهما كان لونه أو طعمه أو ريحه. وتلك ضلالة كبرى أودت بالبشرية إلى واد سحيق.

ليس الصهاينة من السذاجة بمكان ليدّعوا أنهم واحة الديموقراطية في المشرق، وليصرّوا بعد ذلك على “يهودية” الدولة الحديثة التي زرعوها والغرب في قلب الأمة المسلمة. للديمقراطية شقوقٌ كثيرة قد يتسلل منها “أعداء” الدولة العبرية، فوجب أخذ الحيطة والحذر. أما ساستنا فقد رضوا بالتقسيم دويلات وهم أمة واحدة، ولن تستطيع كل دولة حديثة منها أن تستقل بنفسها فضلا عن أن تبارز العالم المستكبر الذي يتوحد ويتمدد كلما سنحت له الفرصة. بل إن قادة المسلمين ساروا بشعوبهم على كل درب لا يمتّ لتاريخ الحكم في الإسلام بنسب، وكأنهم زُرعوا في جسد الأمة لأداء هذه الـمَهمَّة.

لقد جرّبت الشعوب المسلمة في إصلاح أمرها السلمية فما أفلحت، وتعسْكرَ حَراكُها ففُجعت بالاستبداد ينكل بحاضنتها من المستضعفين بلا رحمة، وتحزَّبت حتى تفرَّقت، وتظاهرت حتى تعبت، واعتصمت حتى كلَّت. وعلى طريق الآلام الذي عبرت، ما وجدنا أحدا من الحادين بها إلى الحرية وقف أو استوقف لعلّ في أحلام “الدولة الحديثة” أضغاثا أو دجلا.

إن معنى أن يكون المواطن في الدولة الحديثة مسلما ويعامَل على هذا الأساس، أن تبدل المنظومة القانونية بأكملها لتتلاءم مع هذا العيار، وهو عيارٌ من إبريز جُرِّب في القرون الماضية فأفلح. إن عواقب الصدود من قبل الدولة الحديثة عن هذا الفارق المهم بيّنة، ولعل كثيرا من المآزق التي شكّلت صداعا مزمنا في إدارة الحكم مأتاها من هذه الازدواجية في طبيعة الدولة؛ فالسلطة القائمة فيها علمانيةٌ ناطقة بذلك أم صامتة، وشعب الدولة يدين بالإسلام ولا يفتأ يطالب به. والشد والجذب بين مكونات الدولة الحديثة لم يدع لها مجالا لتستقر، بلْه أن ترقى وتزدهر. وحتى إن التجارب الديمقراطية بعد الربيع العربي وقبله أفشلها القائمون عليها، لأن الأحزاب الإسلامية اعتلت بالاقتراع النزيه سدة الحكم ديموقراطيا، وذلك حرامٌ في دين المستبدين.

يسرف الداعون إلى مقومات الدولة الحديثة حد الشطط، حينما يحرِّضون الشعوب على المناداة بالديمقراطية وحق التداول على السلطة وحرية التعبير وحقوق الإنسان… مقولاتٌ جربها الغرب قرونا فوصل إلى ما وصل إليه، وما وصل إليه ليس مثاليا، بدليل اعتقاده هو بهشاشة هذه المخرجات، ما دامت سوى أحصنة طروادية لكل راغب في السلطة لا يُؤتمن جانبه في قلب ظهر المجن إن عنّ له غير ذلك؛ وهل كانت للغرب أنظمة أخرى غير التي نعرف آمن بها أو جرّبها؟ وهل في ثقافته كلها ما يدعوه إلى أن يفاضل في التولية بين الناس على أساسي العلم والصلاح، كما في تعاليم النبوّة: “ليليني منكم أولو الأحلام والنهى”؟ وهل عقل فلاسفة عصر النهضة الأوروبية أن الاستنكاف عن السلطة معيارٌ مهم في الإقبال على الترشيح والاختيار، كما في الحكمة النبوية أيضا: “إنا والله لا نولي هذا الأمر أحدا سأله أو أحدا حرص عليه”؟ إن هذه الكنوز الثقافية هي بصيص النور في هذا النفق المظلم الطويل.

لقد تاهت الشعوب المسلمة عن الرشاد الذي حدا بها عبر الدروب قرونا طويلة، وهداها بنور وحكمة على أصعدة الحياة كافة. واليوم، ها أنت ترى أمَّتنا في تدبير شأنها متخبِّطة كمن مسه جني ملعون، أو كمفتون ببلاء قد أخذ من بصيرته فأصابه جنون. لقد جرّبت الشعوب المسلمة في إصلاح أمرها السلمية فما أفلحت، وتعسْكرَ حَراكُها ففُجعت بالاستبداد ينكل بحاضنتها من المستضعفين بلا رحمة، وتحزَّبت حتى تفرَّقت، وتظاهرت حتى تعبت، واعتصمت حتى كلَّت. وعلى طريق الآلام الذي عبرت، ما وجدنا أحدا من الحادين بها إلى الحرية وقف أو استوقف لعلّ في أحلام “الدولة الحديثة” أضغاثا أو دجلا.

لقد فطر الله الخليقة على الانتظام في قبائل وفي شعوب، للقبيلة نظامٌ معروف غالبا، يتجاوز التشكيلات المستحدَثة في “الدولة الحديثة”، التي لقنت الشعوب فكرة الأحزاب والجمعيات والنقابات، ودربت على الاستفراد بكل فصيل إن هو شق العصا أو تمرد لتفرِّقه شذر مذر. إحياء النظام القبلي أمرٌ جعلي ميسور، ولعل الله جعل منه درعا آمنا يدفع به الناس بعضهم ببعض كي لا تفسد الحياة، ولو كان العدوان من السلطة العامّة نفسها الموكول إليها أمر الحماية والإصلاح. قد يجد الناس في القبيلة، وإن لم تك عذراء اليوم كما كانت بالأمس، وفي مجاميع الفقهاء الصالحين منها، خير راية يهتدون بهديها، إلى أن يرفع الله عنا هذا التيه، الذي قضى من آجالنا أربعين سنة أو يزيد. فـ(استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثِّها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!