-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

متلازمة الشِّعر والتّاريخ في ألفية الجزائر للشاعر إبراهيم قارعلي

بقلم: اعمر سطايحي
  • 688
  • 0
متلازمة الشِّعر والتّاريخ في ألفية الجزائر للشاعر إبراهيم قارعلي

في ستينية ذكرى استقلال الجزائر (2022/1962)، وخروجها منتصرة، بعد 132 سنة من الاستخراب الفرنسي، ما تزال بقية من أحرارها وحرائرها، تخدم هذا البلد الأمين، كلٌّ من موقعه ومقامه.

وهذا الشُاعر إبراهيم قارعلي، يسجّل اسمه بأحرف من ذهب، فغَدَا أشهر من نار على عَلم ؛ لمّا أذاع في الأنام، خبر فراغه من “ألفية الجزائر”، التي استحسنتها النّخبة من نشطاء التواصل الاجتماعي، فأثنت على الشّاعر ونوّهت بملحمته، من خلال مقاطع نشرها، على صفحته التواصلية، فوددت أن أخصّها بمتابعة نقدية، إلّا أن اشتغالي على المقاطع القليلة، لا تنصف الشّاعر وملحمته حقّهما؛ فأرجأتُ، ذلك إلى الوقت الذي تحصلتُ فيه على “الألفية” كاملة.

وأنا في هذا المقام، أزعم أنه ليس من السّهل، لشاعر – أيًّا كان – أن يشتغل على نظم ملحمة شِعرية، استغرقت زمنًا، يقدّر بأزيدَ من أربعة عشر قرنا (من الوجود الفينيقي، في القرن الـ12 ق م، إلى سنة 2022م، ما لم يكن شاعرا من طينة “هوميروس” أو”دانتي” أو “جون ملتون”  أو “مفدي زكرياء”… وهم الذين جمعوا بين الشّاعرية والتّاريخ، في ملاحمهم. وقد وجدوا في ذلك ما يلبّي بعض طموحاتهم الثّائرة؛  فسعوا إلى ترسيخ هذه الثّنائية، لإيمانهم برسالة الشِّعر، التي تتعدى الوجدانيات والغزليات والرّومنسيات، إلى قيم دلالية وجمالية وحضارية.

وها هو الشّاعر إبراهيم قارعلي، يبدو خبيرا بالشِّعر، متشبّعا بقيم ثوراتٍ خاضها شعبه عبر حِقب زمنية مديدة، فجاءت ملحمته ثريّة، بالغة الجَمال والألقة. وبذلك حفظت للشِّعر الجزائريّ المعاصر نسله وامتداده التّاريخيّ، حين ألفيناه، يتتبّع بجسارة، زخما من الأحداث والبطولات… وبذلك أعاد هيكلة الشِّعر، مستعينا بمهارته وبحثه وتعبه المُضنيّ وصبره، في تخطيط “ألفية الجزائر”. كلّ ذلك تمّ بعيدا عن اجترار مادة التّاريخ، مُحتكما إلى شاعريته ووعيه الحقيقيّ والصّادق بقيمة النّص الشِّعري وقداسة التّاريخ.

وهنا على الدّارس، ألا يتعامل مع مغازلة الشِّعريّ للتاريخيّ، بوصفها مغازلة مجانية؛ إذ لا يوجد ما هو مجانيّ أو عشوائيّ في الممارسة الإبداعية بصورة عامّة، وفي إنتاج شاعر ماهر مثل إبراهيم قارعلي، بصورة خاصة. هذا الذي يُدرك أنّ الذّاكرة الجماعية تملك مخزونا يعجّ بتراث وأحداث وأعلام وتضحيات… الأمر الذي جعل شاعرنا يرتكز على العلاقة التّفاعلية، بين واقعه السّردي والواقع التّاريخي، على الرّغم من وجود فارقية بينهما؛ مادام الواقع التّاريخي ثابتا ومُحايدا، بينما الخطاب السّرديّ حركيا وذاتيا. ومع ذلك استطاع الشّاعر أن يتجرّد من ذاتيته، لتذوب وتنصهر في الذّات الجماعية. لكنّه يدرك أنّ من النّاس مَن يُعيب عليه هروبه من المستقبل، ولجوءه إلى التّاريخ، فقال:

قَالُوا هَرَبْتَ الْيَوْمَ مِنْ مُسْتَقْبَلٍ

وَلَـجَـأتَ لِلـتَّـارِيـخِ وَالشُّهَدَاءِ

الرَّاسِبُونَ هُـمُ الْكُسَالَىٰ دَائِمًا

وَالنَّاجِحُونَ مَـعَـاشِـرُ النُّجَبَاءِ

إن ستحضار الشّاعر لشخصيات وطنية صنعت مجد الجزائر، لم يكن تراجمَ وسِيَرًا ذاتية محضة، إنّما هدفه، التّذكير بمآثرها وبصماتها، في حقول تراثية وعلمية ونضالية، على غرار رجال ونساء تصدوا لعديد الحملات الخارجية، مشيدا بدور الفاتحين الإسلاميين (عقبة بن نافع الفهري، وموسى بن نصير…) ذاكرا مآثر رجالات الدّين والعِلم والإصلاح، على غرار سيدي أبي مَدين شعيب، وعبد الرحمان الثّعالبي، ومصباح الحويذق، والإمام طفيش،  وإبراهيم بيوض، وأبو القاسم سعد الله، وقبله علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين… إلى أن حطّ رحاله، في محطات استقلال الجزائر، وما تحقّق من انجازات. ثمّ أشاد بحامي الحِمى، الجيش الشّعبي الوطني، سليل جيش التّحرير…

ومثلما استهلّ الشّاعر ألفيته بـ”الله أكبر”، التي تكرّرت في الألفية 26 مرّة، ختمها بالصّلاة والسّلام على سيّد الأنام، صلى الله عليه وسلّم.

ولعلّ ما يستوقف الدّارس، هي تلك الخصائص، التي تميّزت بها الملحمة الشِّعرية وهي:

أوّلا: الإطالة:

إذا كانت الإطالة في غير الملحمة والرّواية مستهجنة، فإنّها فيهما، تكون ضرورة محمودة، على اعتبارهما قصّتين طويلتين، وفي الزّمن مستغرقتين، وفي الأمكنة ممتدتين، ناهيك عن كثرة الشّخصيات وتعدّد وتداخل الأحداث؛ فألفية الجزائر، بدايتها الوجود الفينيقي، في القرن 12 ق م، ونهايتها الحَراك الشعبي السلمي (2019/02/22).

ثانيا: ترابط وتسلسل الأحداث:

بدءًا من الوجود الفينيقي ومرورا بالاحتلال الرّوماني، والفتح الإسلامي، والحماية العثمانية، والاحتلال الفرنسي.

ثالثا: التُجرّد من ذاتية الشّاعر:

أمام هذا الزّخم من الأحداث التّاريخية، استطاع الشّاعر أن يتجرّد من ذاتيته، ليتمعطف بمعطف الموضوعية، التي يقتضيها علم التّاريخ. فكان دور الشّاعر، أنِ اكتفى بتسجيل وسرد الأحداث والبطولات، لا مؤرّخا بالمفهوم التّاريخي. لذلك استند إلى ضمير المتكلّمين (نحن، إنّنا، لا نبالي، دمُنا، رُحنا، موعدنا، لم نكن نتأثّر، تخافنا، لم نُخلق، نحيا، نتحرّر، بطَشنا…).

هذه عيّنات من مقطع واحد (الأوّل)، لينطلي الضّمير نفسه على سائر الألفية، أمّا ضمير المفرد المتكلّم، العائد على الشّاعر، فهو قليل، ومردّه إلى حالات شعورية بالفخر والاعتزاز بالوطن وأبطاله.

رابعا: تنوّع الموضوعات وتشعّبها:

من تاريخ، وتراث، وثورات، وبطولات، وثوار، وعلماء، ورجال إصلاح، وحرية، وسّيادة وإنجازات…

خامسا: تمجيد البطولات:

في الشِّعر الملحمي، ليس غريبا ولا مستبعدا، أن تجد الشّاعر مُمَجِّدا بسالة شعبه، في الدّفاع عن أرضه، معتزًا ببطولاته.

سادسا: الانتصار للأخلاق الفاضلة:

وهي أحد أهداف الشّاعر الملحمي، حين يُشيد بالفضائل والقيم الوطنية والإنسانية، انطلاقا من ثلاثية المُثُل العليا (الحقّ والخير والجمال). وهي الفضائل المستمدّة من الدّين الإسلاميّ الحنيف.

ها هو الشّاعر إبراهيم قارعلي، يبدو خبيرا بالشِّعر، متشبّعا بقيم ثوراتٍ خاضها شعبه عبر حِقب زمنية مديدة، فجاءت ملحمته ثريّة، بالغة الجَمال والألقة. وبذلك حفظت للشِّعر الجزائريّ المعاصر نسله وامتداده التّاريخيّ، حين ألفيناه، يتتبّع بجسارة، زخما من الأحداث والبطولات… وبذلك أعاد هيكلة الشِّعر، مستعينا بمهارته وبحثه وتعبه المُضنيّ وصبره، في تخطيط “ألفية الجزائر”.

سابعا: الرّوح الدّينية:

وقد طغت على الملحمة، من خلال تشبّع الشّاعر بهذه الرّوح، وغاية الشّاعر في ذلك هي التّأكيد على الجزائر المسلمة. وفي مقدّمة هذه الرّوح، ذروة الإسلام، ألا وهو “الجهاد”. وهنا وجبت الإشارة إلى أنّ الشّاعر إبراهيم قارعلي، قد افتتح ملحمته بـ”الله أكبر” فقال:

اللَّٰهُ أكْبَرُ يَا جَزائِرُ أكْبَر

اللَّٰهُ أكْبَرُ قَدْ دَعَاكِ نُفَمْبرُ

تماما كما بدأ المجاهدون الجزائريون ثورتهم، من جبال الأوراس في 1 نوفمبر 1954م، بنداء الله أكبر.

وفي هذه الرّوح الدّينية، تجلّت تقنية “التّناص”، من النّوع الامتصاصي، الذي يعني توظيف الشّاعر للنّص القرآني، بطريقة لا تلغيه، وفي ذات الوقت تقوّي أفكار النّص الشِّعري ومعانيه، كما في المواضع الأربعة الآتي ذكرها:

لله درُّك يا إبراهيمُ قارعلي، شاعرًا هُماما، أنجبته الجزائر بعد استقلالها!. وبعد خمسين سنة، من إلياذة الجزائر للشّاعر مفدي زكرياء (1972)، أهدى وطنه وشعبه “ألفية الجزائر”، فكانت الإلياذة والألفية جوهرتين ذهبيتين، ترصّع بهما جبين الجزائر الوضاء.

1/ عن معاهدة “إيفيان”، التي دامت سنة كاملة، من شهر ماي سنة 1961 إلى شهر مارس 1960، والمُوقّعة بين فرنسا الاستدمارية والجزائر، ومن أسباب إطالة المفاوضات، أنّ فرنسا تريد نصف الاستقلال والجزائر تريده كاملا. هنا قال الشاعر:

كَلَّا إذًا هِيَ قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ وَيَا

وَيْـلَ الْـجَـزَائِـرِ حَظُّهَا شَـنَـآنُ

هذا التّناص، مأخوذ من سورة النّجم الآيتان (22/21): “… ألكم الذَّكر وله الأنثى، تلك إذًا قسمة ضيزى”. وذلك في إشارة إلى كونها قسمة غير عادلة وغريبة، بين قوم استأثروا بالذّكور ونسبوا البنات لله! تماما كما كانت معاهدة إيفيان غريبة الأطوار وغير عادلة.

2/ نقرأ في المقطع الخامس والستين من الألفية عن الشّهيد زيغود يوسف:

لَا لَمْ يَمُتْ هَـٰذَا دَمٌ بِقَمِيصِهِ

كَذِبٌ غَدًا عِنْدَ الصَّبَاحِ يَعُودُ

لَـمْ يَقْتُلُوهُ شَبَّهُوهُ فَـارْتَـقَـىٰ

نَحْوَ السَّمَآ كَلَّا فنَحْنُ شُهُودُ

هذان اقتباسان، من سورتَيْ “يوسف” و”النّساء”؛ ففي سورة يوسف، جاء في الآية 18: “وجاءوا على قميصه بدمٍ كذب.. ” ومن سورة النّساء، الآيتان157، 158، في إشارة إلى عيسى عليه السّلام، نقرأ: “وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم، بل رفعه الله إليه”.

3/ في تغنّي الشّاعر بمنطقة وادي سُوف وأعلامها، قال:

يَا رُبَّ وَادٍ غَيْرُ ذِي زَرْعٍ غَدَا

فِرْدَوْسَنَا لَكَ مَا تَشَاءُ قُطُوفُ

وهذا مأخوذٌ من سورة إبراهيم عليه السّلام، الآية 37: “ربَّنا إنّي أسكنت من ذرّيتي بواد غير ذي زرع…”.

4/ عندما تغنّى الشّاعر بالجزائر، قال:

فَبِأَيِّ  آلَاءٍ يُكَذِّبُ جَاحِدٌ

أبَدًا وَمَا قَدْ كَذَّبَ الثَّقَلَانِ

وهو الآخر اقتباس امتصاصي محمود، من سورة “الرّحمان”، التي تكرّرت فيها ذات الآية 31 مرّة.

ثامنا: المبالغة الشِّعرية:

وهي تلك اللّمسات الخفية والتّحليق الخيالي، بعبارات قد تُزيّن الشِّعر والشّاعر، أو تقلّل من مصداقيتهما، إذا ما تجاوزت حدود المعقول؛  تماما كقولنا: ارتفعتِ الأسعار، فإن كان الارتفاع طفيفا، يتقبّلها الزّبائن، وإن ارتفعت إلى السّقف، استهجنوها وزهدوا فيها. كذلك المبالغة في الشِّعر، فهي شبيهة بالملح في الطّعام؛ زيادة أو نقصا. ومن ثَمّ عُدّت المبالغة في الشِّعر ضرورية، ما لم تتعدَّ خطوطا حُمرًا، كونها تنفي الجمود عن الواقعي، اضافة إلى إثارتها لعنصر التّشويق، الذي يستحسنه المتلقي، فيُقبِلَ على النّص. وهذه عيّنات من المبالغة الشِّعرية، في ألفية الجزائر:

  • عن خولة جرجرة (فاطمة نسومر)، التي أرعبت جنرالات فرنسا، قال الشّاعر:

مَا كَانَتِ الْـعَـذرَاءُ مَرْيَمُ وَحْدَهَا

أنْتِ الفَطِيمَةُ لَيْسَ مِثْلَكِ فَاطِمُ

هَيْهَاتَ لَمْ يُرْزَقْ بِمِثْلِكِ آدَمٌ

أبَـدًا وَلَا حَوَّاءُ بَعْدَكِ عَارِمُ

وعن اقتحام الثّوار لساحات الوغى، قال شاعرنا:

يَا مَوْتُ أقْبِلْ هَلْ تُرَاكَ تَخَافُنَا

عَحَبًا إذَا مَا نَحْنُ نُقْبِلُ تُدْبِرُ

وعندما تغنّى الشّاعر بمنطقة “بجاية”، وكانت تسمى النّاصرية، قال:

مَا مِثْلُ هَذِي النَّاصِرِيَّةِ مَوْطِنُ

هَـٰذِي بِجَايَةُ جَنَّتِي وَالْمَسْكَنُ

لَا الشَّامُ لَا بَغْدَادُ تُعْدِلُ جَنَّتِي

مَا جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مِنْهَا أحْسَنُ

على أن أختم حديثي عن الخصائص الملحمية، بالإشارة إلى فَرقٍ جوهريّ بين الملحمة والأسطورة، فالأبطال الأسطوريون، يكونون من الآلهة، عند الشّعراء الوثنيين، أو مِن أخٰيِلتهم. في حين يكون الأبطال في الملحمة بشَرا، كما في ملحمة الجزائر، وُلِدوا وعاشوا في أرض الجزائر، وعنها دافعوا ودفعوا الغالي والنفيس.

خارج النّقد

لله درُّك يا إبراهيمُ قارعلي، شاعرًا هُماما، أنجبته الجزائر بعد استقلالها!. وبعد خمسين سنة، من إلياذة الجزائر للشّاعر مفدي زكرياء (1972)، أهدى وطنه وشعبه “ألفية الجزائر”، فكانت الإلياذة والألفية جوهرتين ذهبيتين، ترصّع بهما جبين الجزائر الوضاء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!