-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

محمد السويسي

محمد السويسي

احتفلت الجزائر قبل أسبوع بعيد العلم الموافق لذكرى وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كان من وراء تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. إننا غالبا ما نغفل عن التذكير بأن الكثير من هؤلاء العلماء تلقوا تعليمهم في جامع الزيتونة بتونس العاصمة. ومن هذا المنظور، فلهذا الجامع وأساتذته فضل كبير على جمعية العلماء. ومن هؤلاء الأساتذة المرحوم محمد السويسي (1915-2007) الذي تتلمذ على يديه جيل من طلبة العلم التونسيين والجزائريين.

حياته 

يعتبر الراحل التونسي الأستاذ محمد السويسي من رواد التأليف باللغة العربية في حقل الرياضيات الحديثة في المغرب العربي. بل إنه صاحب تأليف أوّل الكتب الدراسيّة الرياضية باللغة العربية، وكان ذلك خلال الفترة 1947-1950. ثم إنه أمضى عمره المديد في خدمة التربية والتعليم والتأليف في تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين. ولذا كان من الواجب تعريف ناشئة اليوم بهذا العالم الجليل وبمآثره.

ولد محمد السويسي عام 1915 بولاية نابل التونسية، وتوفي عام2007. وقد درس في مسقط رأسه فنال الشهادة الابتدائية عام 1927، ثم انتقل إلى العاصمة التونسية حيث واصل تعليمه في المدرسة الصادقية خلال سنوات 1928-1934 فأحرز على شهادة انتهاء الدراسة بالصادقيةعام 1934 وعلى البكالوريا عام 1935 في فرعيْالرياضيات والفلسفة. وكان السويسي لامعا في كل مراحل دراسته.

واصل دراسته في قسم الرياضياتبمعهد كارنو (تونس). ثم رحل إلى باريس عام 1937، وزاول دراسته العليا بجامعة السوربون. فتحصل هناك على عدة مؤهلات، منها شهادة الليسانس في الرياضيات عام 1939، وكان بذلك ثاني مواطن تونسي يحصل على هذه الشهادة. كما نال شهادة أخرى في اللغة العربية وآدابها عام 1948 وعلى شهادة التبريز في اللغة العربية عام 1958، وأخيرا على شهادة دكتوراه عام 1969.

وقد تولى التدريس في عدة معاهد تونسية منذ الأربعينيات. ثم أصبح ناظرا للتعليم بالصادقية، واضطلع بإدخال العلوم الدقيقة إلى مناهج جامع الزيتونة فدرّس الرياضيات والفيزياء والكيمياء باللغة العربية في هذه المؤسسة العريقة، وكذا في المدرسة الخلدونيّة بتونس. كما درّس الرياضيات (بالفرنسية) في عدّة معاهد ثانويّة، وفي كليتي العلوم والعلوم الاقتصادية بجامعة تونس.

ومن المعلوم أن الشيخ الطاهر بن عاشور (1879-1973) الذي كان يدير شؤون جامع الزيتونة هو الذي طلب خلال الأربعينيات من محمد السويسي العمل على إدراج تعليم العلوم الحديثة باللغة العربية في هذه المؤسسة. يقول محمد السويسي : “وفي الأربعينيات أقحم الشيخ المصلح محمد الطاهر ابن عاشور، شيخ الجامعة الزيتونية مادة الرياضيات بأسلوبها العصري ودروس الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية ضمن برامج التدريس. وكان لي شرف الاضطلاع بأولى هذه الدروس بالزيتونة والمدرسة الخلدونية، وأمددت الطلبة بأولى الكتب … حضر دروسي طلبة من تونس ومن الجزائر … وحتى من المغرب الأقصى فكانت اللبنة الأولى لبناء الوحدة الثقافية للمغرب العربي الكبير”.

محمد السويسي مؤرخ العلوم

درّس السويسي خلال الفترة الممتدة من 1969 إلى 1985 مادة الحضارة الإسلاميّة والثقافة العلمية العربية بكليتي الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة تونس، أحيل بعدها على التقاعد في عام 1985 بأقدميّة مدتها 46 سنة.وقد اهتم في نشاطه العلمي بتاريخ العلوم، واختص في تاريخ الرياضيات عند العرب والمسلمين مركزا على إسهامات المغرب العربي الكبير في هذا الحقل. كما أن له باعا طويلا في وضع المعاجم الموحّدة لمصطلحات العلوم الدقيقة. ولا غرابة في ذلك إذ كان عنوان الرسالة التي نال درجة الدكتوراه هو لغة الرياضيات في العربية (La langue des mathématiques en arabe). وتضم هذه الأطروحة دراسة وافية في علم المصطلح ومعجم يشمل 1942 مصطلحا.

كان لمحمد السويسي باع طويل في التأليف. ومن كتبه المؤلفة في هذا السياق : كتاب أصول الجبر – المؤلف عام 1947 – لتغطية مناهج التعليم الثانوي، الذي أدرج تدريسه ضمن برامج جامع الزيتونة. وهناك خلاصة الحساب، الذي ألّفه صاحبه عام 1948 وخصصه للمكاييل والمقاييس. وآخر كتاب في هذه السلسلة كتاب “بغية الطلاب في فقه الحساب، الذي نشر عام 1950. وقد جاء في مقدمة الجزء الأخير خطاب موجّه لطلاب جامع الزيتونة يدعو إلى العمل وصدق العزيمة ومشيرا إلى أن الهدف من هذه السلسلة هو “تسديد ما نقص قديما في البرامج حتى يصل الطالب -مع تضلعه من العلوم الدينية واللغوية- إلى مستوى طلبة المعاهد التعليمية الأخرى بالبلاد … فيكون الطالب الزيتوني يضاهي زميله المدرسي في الشعبة العلمية … فإذا الشباب موحّد الثقافة في أصولها، ووحدة الثقافة تورث وحدة الإحساس والتفكير، وفي ذلك صالح الأمة”.

واهتم السويسي اهتماما بالغا فيتناوله تاريخ العلوم العربية الإسلامية بجانب تعليم الرياضيات في المغرب العربي الكبير، وبمناهجه عبر القرون (من القرن 14م إلى 19م)، فتبيّن له أن هذه المنطقة احتفظت بمستوى مقبول حتى في عصر الانحطاط، ذلك لأنها تميّزت بتقاليد عريقة.

حقق السويسي عديد المخطوطات العلمية العربية، منها الرّسالة الألواحيّة المنسوبة إلى ابن سينا، وأرفقها المحقق بمعجم المصطلحات الطبيّة ومقابلاتها الفرنسية والانكليزية واللاتينية. وهناك مخطوطة اللمعة الماردينيّة في شرح الياسمينيةللمارديني، وبغية الطّلاّب، شرح منية الحساب لابن غازي المكناسي في الحساب والجبر، والأشكال المساحية لابن البنّا، وشرح ‘أشكال التأسيس’ للسمرقندي للقاضي زاده الرومي، وكتاب كشف الأسرار عن علم حروف الغبار للقلصادي، مع ترجمته إلى الفرنسية. ومن جهة أخرى، أسهم في تعريب كتاب سيد حسين نصر Islamic Sciences (العلوم في الإسلام)، مع تحقيق وتدقيق الألفاظ الاصطلاحيّة المستعملة.

ولم يكتف السويسي بتحقيق المخطوطات العلمية، بل ألّف أيضا في التاريخ والعلوم. وهكذا قدّم أبا الريحاني البيروني وعمر الخيّام ومصنّفاتهما في شتّى الاختصاصات العلمية، ودرس طريقتهما في البحث العلمي وموقفهما من اللغة العربية ومن مشكل المصطلحات. كما تناول أعمال الرازي وابن الهيثم وابن سينا.

ومن ثمّ نكتشف عبر هذه الإطلالة أن محمد السويسي قد قضى قرابة ستين سنة من عمره في خدمة التربية والتعليم والثقافة العربية الإسلامية من خلال نفض الغبار على تراثها العلمي وإدخال الجديد في مناهجها فحقق المخطوطات، وعرّب المؤلفات، ونشر الكتب والمقالات، وساهم في المؤتمرات الفكرية بدون كلل ولا ملل حتى وافته المنية. رحمة الله عليه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • هشام

    رحمه الله