-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مذكّرات المربِّي بلقاسم الجمعي

مذكّرات المربِّي بلقاسم الجمعي

بسم الله الرحمن الرحيم

أخرج المربي بلقاسم جمعي، منذ أيام قليلة، الجزء الأول من مذكراته التي منحها عنوان: “مذكرات مربّ”، وخصصه للحديث عن الفترة التي قضاها على رأس مديرية التربية لولاية البيَّض، وما عاشه فيها من أحداث ومواقف ونزاعات ومناكفات نثرها على ما يزيد من ثلاثمائة وستين صفحة. وقد شرفني بإعادة قراءة ما خطته يمينه وتدبيج مقدمة لسطوره. واحتضنت هذه المقدمة سطورا متواضعة، من أهمّ ما حوته:

(تابعتُ قراءة هذه المذكرات التي بلغت حلقاتها مائتين وثماني وعشرين حلْقة، لأول مرة، تابعتها مفرقة ومجزأة على صفحات الفضاء الأزرق. واهتممت بها أيما اهتمام؛ ذلك لأنها كُتبت بيد مربّ خالف العرف الذي يبدو أنه سيطر وبسط ذراعيه على طوائف المربين رغم كثرتهم، وكبّل أصابعهم، ومنعهم مسك أقلامهم، وتسجيل مراحل مسيراتهم الحياتية والمهنية، وإخراجها إلى الناس حتى يطّلعوا عليها وينهلوا منها.

شخصيا، ومع زعمي أنني متابع شغوف ومولع بما يصدر من كتب وما تلقي به المطابع من مؤلفات في رفوف المكتبات، فإنني لم أقرأ سوى عدد قليل من مذكرات المربين، وهي لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، إن أحسنت العد والحساب.

حينما يبادر المربي بلقاسم جمعي إلى مداعبة يراعه، وتدوين مقتطفات من مسيرة حياته الوظيفية في طورها الأخير، فإن ذلك يعني إعلانه الانضمام إلى زمرة من عملوا على كسر هذا العرف الجامد من قبله، واختراق جداره، وتمزيق حجبه، والانفلات من عقاله، ووضع حد لسطوته المقعدة.

يفترض أن تكون مكتباتنا زاخرة بالكتب التي يروي فيها المربون ذكرياتهم بأساليب منمقة تسحر ألباب القراء وتسطو على قلوبهم؛ ذلك لأن المربي يملك كل الموارد والأدوات التي تحمله على إتيان هذا الفعل في راحة وأريحية، والتي قد يفتقر إليها غيره. ويكفي المربي أنه يملك ناصية تحريك القلم على الورق بلا عناء ومشقة، ويستطيع ممارسة الكتابة لوحده ومن دون الاستعانة بغيره. وهذا مؤشر دالّ، ويجعل شهاداته أكثر صدقا وأعمق موضوعية، هذا من جهة أولى. ومن جهة ثانية، فإنه يجد مدد العون في شهوده، وبدرجة أولى في تلامذته الذين علّمهم وربّاهم، وهم أصغر منه عمرا بطبيعة الحال، وما يزالون يملكون ذاكرات نشطة وذكورة. ويمكنه أن يعود إليهم متى شاء لاسترجاع الأحداث وتصحيح المواقف والتدقيق في تفاصيلها كلما اختلطت عليه الأمور، وتداخلت بياناتها، أو طوّقه النسيان.

جاورت المربي بلقاسم جمعي في ساحة العمل لمدة ثلاث سنوات تقريبا في ولايتنا باتنة، ولكنني لم اقترب منه كثيرا، ولم أعقد معه علاقات متينة في حينها. ومبرر ذلك معزو إلى طباعي المكتسبة الذي شكلتها معاملات سابقة مع مسؤولين آخرين لم أر فيها ما يبهج ويسر ويشجع، وجعلتني أحرص دائما على إبقاء بون فاصل مقبول عن موقع المسؤول. وكانت أغلب لقاءاتي معه واقعة في أطر العمل الذي يجمعنا، ولم تخرج عن نطاقاتها. ولكن، ورغم هذا التباعد، إلا أنني عشت معه مواقف عن قرب وجدته فيها رجلا حكيما، لا يتسرع في إصدار الأحكام، ولا يخالف قناعاته الشخصية المسيجة بسياجات مكارم الأخلاق السمحة، ولا يتسامح أو يتساهل لما يتعلق الأمر بقضايا الشأن العامّ. ولولا ضيق فسحة الورق وخشية الإطالة لذكرت طائفة واسعة من هذه المواقف التي جعلتني أعجب بالرجل وأحمل له في ذاكراتي انطباعات حسنة وإدراكات يحسدها عليه غيره.

ألفيت المربي بلقاسم جمعي صاحب حميّة لا تفتر ولا تتغير، وصادفته يشاركني الغيرة والدفاع عن المدرسة الوطنية التي نريدها أن تبقى صافية كمياه العيون الجارية، وخلابة المظهر والجوهر كأزهار الربيع بألوانها الزاهية وأريجها العبق الفوّاح. وهو لم يكن يتوقف عن دفع الأكدار وإبعاد الأغدار عنها بلا تململ أو تراجع أو وجل. وهذا مبدأ ثابت من مبادئه التي لا يتنازل عنها أمام رؤسائه وأمام مرؤوسيه على حد سيان؛ لأنه يؤمن بأن مقام المدرسة يعلو فوق كل المقامات، وأن سطورا حمرا سطرت أمام عتبة حرمتها وقداستها لا يجوز لأي كان رفسها، ولا يسمح له بتخطيها. وبقدر ارتفاع مستوى شدة صرامته وقوتها، فإنه يخفي في قلبه ليونة مجردة من التزلف. وكان تسامحه ملجأ للمظلومين وموئلا يقصده الشاكون المغلوبون على أمرهم لإنصافهم وتخليصهم من نيران الإجحاف وحرائق الجور.

امتلأ جنان المربي بلقاسم جمعي بحس تربوي رفيع غير معهود، وبنظرات ثاقبة لإصلاح الاختلالات التي تتهدد المدرسة بقدر إمكانه. وهو رجل هادئ، دائم الابتسام، متمسك في أعصابه وانفعالاته وردود أفعاله، ويصعب أن يساق إلى مكامن الغضب وملاجئ الاستشاطة. وهو نقي السريرة، ولا يدنو من مواقع الشبهة التي تشوه سمعته، وتجعله عرضة للتجريح والهمز والتبضيع. وهو من الحرّاس الأمناء الوقافين على المال العامّ والمانعين صرفه وهدره إلا في سبله المحددة. وقد حضرت معه موقفا رضي فيه أن يسهم من جيبه على أن يرخّص القيام بتصرف لم يعجبه، واستنكرته نفسه الأبية في عز وعفة وشرف.

صادفته يشاركني الغيرة والدفاع عن المدرسة الوطنية التي نريدها أن تبقى صافية كمياه العيون الجارية، وخلابة المظهر والجوهر كأزهار الربيع بألوانها الزاهية وأريجها العبق الفوّاح. وهو لم يكن يتوقف عن دفع الأكدار وإبعاد الأغدار عنها بلا تململ أو تراجع أو وجل. وهذا مبدأ ثابت من مبادئه التي لا يتنازل عنها أمام رؤسائه وأمام مرؤوسيه على حد سيان؛ لأنه يؤمن بأن مقام المدرسة يعلو فوق كل المقامات.

أما التواضع، فهو ختم ذهبي مطبوع في الجبلة الوراثية للمربي بلقاسم جمعي. وهو منقطع انقطاع الناسك المتعبد عن التظاهر والتفاخر والتباهي. وأذكر أنه جمعنا لقاء به في حضور المربي الكبير أستاذنا عيسى بوسام الذي كان هو مستخلفه على رأس قطاع التربية في ولايتنا، وسمعته يقول بالحرف الواحد: (لما علمت بتعييني في ولاية باتنة، لاح في ذهني سؤال مؤداه: أنّى يمكنني أن أملأ كرسيا كان يحتله الأستاذ عيسى بوسام؟).

كان المربي بلقاسم جمعي حذقا ومتمتعا بأعلى درجات الذكاء، وكأن كل حواسه تعمل على تغذية وتقوية ملكة ذكائه، ولم يكن في اجتماعاته ولقاءاته مع زملائه المربين متعجرفا ومتغطرسا وجافيا ومتشدقا ومتحذلقا في كلامه، ومحتكرا للحديث بحكم منصبه كما يفعل كثيرون من الأزلام الذين يعوضون جهلهم وخواءهم بالكبر والتعالي وبما في أيديهم من قوة سلطة. وكان متمتعا بقدرتي وزن كلماته التي يتلفظ بها وحسن الإصغاء. ولم أره يوما يوقف متحدثا يكلمه أو يقاطعه ولو كان متيقنا أنه من الخرّاطين.

من تسعفه الحظوظ للإطلاع على هذا الجزء الأول من مذكرات المربي بلقاسم جمعي التي كتبها بأنفاس صادقة، سيقف على فضائل أخرى من فضائل هذا الرجل الشهم، الصارم، الصادق، الصابر، الصبور، الرزين، المقاوم، المجتهد في عمله، والحامل لهموم التربية التي يؤمن بقيمة رسالتها في قلبه وفي مجاري دمه وأعصابه. وسيكتشف أنه أغدق عليها بسخاء من صحَّته ووقته وحتى من جيبه أضعاف ما أعطته. وسيعرف أنه مربٍّ من طينة الكبار.

لست أدري كيف أفسر تكاثف عرى الأخوّة بيني والمربي بلقاسم جمعي بعد أن أصبح بعيدا؟ وكيف لم تُبنَ ولم يُمتّن نسيج خيوطها حينما كان قريبا؟ وأنا الآن أحس بشيء من الحسرة بعد هذا التفريط والتهاون. ولكني أجد أن العوض عن تقصيري محمول في ما استطعنا أن نستدركه معا، ومازلنا نعمل على استدراك حلقاته التي كادت أن تضيع منا بالتواصل.

غزاني الاستغراب والتعجب لما كنت أقرأ تعليقات القراء على حلقات هذه المذكرات أثناء نشرها في الفضاء الأزرق. فقد كنت أجد بعضا ممن يخالفون صاحبها النظرة والرأي والإخلاص للتربية، والذين جعلوا منها ظهرا يُركب وضرعا يُحلب، وعاثوا فيها فسادا وخرابا من خلال النشاط النقابي وغيره، وجدتهم يتظاهرون بالتودد إليه والتقرب منه بكلام معسول وعبارات رطبة تدل على التكلف والتزلف والتملق والنفاق. ويحاولون البحث عن موضع قدم يعادل ولو مساحة رأس إبرة يقبعون فيه تحت المظلة الطاهرة التي يحملها ويتفيأ ظلالها. واعتقد أن أستاذنا الفاضل بلقاسم جمعي الكيِّس الفطن ليس بالخَبِّ، ولن يستطيع الخَبُّ أن يخدعه ولو ارتدى جبة وطاقية إمام، أو تظاهر بمظهر راهب صام لله وابتهل.

اعترف أنه لم يكن لي من فضل ومن إحسان يذكران، ويشاد بهما في إخراج هذا الجزء الأول من هذه المذكرات، وهي باكورة الإنتاجات الكتابية للمربي بلقاسم جمعي، في إخراجها إلى النور ووضعها بين أيدي القراء. ومثلما أبوح بأملي الكبير بأن يواصل صاحبها كتابة بقية الأجزاء، فإني أرجو من طوائف المربين المتميزين الذين شملهم إهداؤه أن يحذو حذوه، وأن يحرروا أقلامهم من أغمادها خدمة للثقافة ولتاريخ المدرسة الوطنية).

أشير في الأخير إلى أن نُسخا من هذه المذكرات الأنيقة معروضة للبيع في بعض مكتبات مدينة البيَّض وعدد من مدن الشرق والجنوب الشرقي لمن يرغب في الإطلاع عليها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!