الرأي

مرجعيتنا الدينية الوطنية بين الغلاة والبغاة

عبد الرزاق قسوم
  • 2404
  • 29

بين الغلاة والبغاة والطغاة، ضاع الماهدون البُناة، والعلماء الدعاة، والمصلحون القضاة.
لذلك ساد الجهل بدل العلم، وطغى الحفظ بدل الفهم، وشاع الغلو والتطرف، والعنف مكان الحكمة، والعقل والحب والسلم.
ومن أظلم ممن يعمد إلى تراثنا العلمي الخصيب، فيمحوه بجرة قلم، وإلى تاريخنا المجيد، فينسفه على حساب الحقائق والدلائل بكل مرارة وألم؟
في عصر التوحيد والاتحاد والوحدة، وعلى الرغم مما يتصف به إسلامنا الحنيف من دعوة إلى الأخوَّة، والتسامح وجمع الكلمة، يخرج علينا رهط من بني ملتنا، يعيثون في دين الله فسادا، ويشيعون في صفوف الأمة شتاتا وعنادا، فيُخرجون من شاؤوا من أهل السنة والجماعة، ويحكمون بالزندقة والكفر على من خالفهم في الأمر أو شق على مذهبهم عصا الطاعة.
أرأيت من اتخذ مذهبهُ هواه، فيدين بالطاعة والأمر لسيده ومولاهُ، ويعلن العداء ضد كل من ناقشه قناعته أو عصاه؟
متى كانت المذهبية السلفية حكرا على إقليم جغرافي معين، أو على مذهب فقهي متعين، أو على اتجاه فكري خاص في التدين؟
إنّ السلفية رحم عام يأوي إليه كل من أعلن إتِّباعه لمذهب السلف، وعمل بالقول والفعل على إصلاح ما فسد، وما خالف السنة، والسلف الصالح، وكل ما يدعو إليه الإسلام النقي، الصافي من مبادئ الأخوة والتضامن والشوق.
فهل اختلت الموازين واختلطت العناوين، وأضحت الحركة الإسلامية “المدخلية” هي وحدها عنوان السنة والدين؟
اللهم إنا نبرأ إليك مما يفعله البعض بديننا وإيماننا، ومما يأتيه البعض باسم التعصب ضد تعاليم سنتنا وقرآننا.
نحن في الجزائر، لم نعرف سلفية أزكى وأنقى، وأطهر وأظهر، من منهج الصحابة رضوان الله عليهم، ومن السلفية التي دعا إليها ابن باديس، والإبراهيمي والميلي، والتبسي، وإخوانهم في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذين جاؤوا من بعدهم، وكانوا ولا يزالون بكل صدق ووفاء، يخوضون غمار التصدي، للغلاة والبغاة والطغاة بالحكمة، والموعظة الحسنة، لا يكفِّرون أحدا من أهل القبلة، كما قال زعيم الأشعرية أبو الحسن الأشعري رحمه الله.
فإذا جاء اليوم من يفسد على الجزائريين المسلمين الصادقين عقيدتهم، أو يثير ضدهم حفيدهم وحفيدتهم، فذلك إما جاهل فعلّموه، أو غافل فنبهوه، أو ضال إلى الحق أعيدوه، أو مبتدع في الدين فأصلحوه.
فما فتئنا نعلن في جمعية العلماء، أنّ إطلاق الأحكام الجزافية العامة، سواء في الدين أو في الدنيا، هي أحكامٌ تدخل في إطار ذهنية العوام، ولا ترقى إلى مستوى العلماء الدعاة، أو المثقفين الخواص الأباة.
فإن تحكم على الصوفية، أو الأشعرية أو المعتزلة، أو الإخوان المسلمين أو غيرهم من الفِرق والهيئات الإسلامية، بالحيدِ عن السنة ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم أو الخروج من أهل السنة والجماعة، فذلك ظلم للإسلام أوّلا ولأهل السنة والجماعة ثانيا وللفرق والهيئات الإسلامية ثلثا.
إنّ التصوف في أصله، مشتق من الصفاء، وكما يقول أنقاهم وأصفاهم “الصوفي هو من لبس الصوف على الصفا، وأطعم البطن طعام الجفا، وترك الدنيا خلف القفا، وسلك سبيل المصطفى ” فالتصوف بهذا المفهوم خلُقٌ، ومن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في التصوف.
فأين البدعية في هذا النوع من السلوك الديني؟
إنّ الزوايا –كما نقول دائما- هي في التدين أشبه بالزوايا الهندسية، هناك الزوايا المستقيمة والزوايا القائمة، والزوايا المنحرفة، فلماذا نضع كل الزوايا في خانة واحدة؟
وهل إذا فسدت زاوية ما، عممنا الحكم على كل الزوايا؟
لقد كان علماؤنا، في جمعية العلماء، يقولون ليس بيننا وبين الزوايا إلا هذا التعاون مع الاستعمار، فإذا نزعوا أيديهم من يده فهم إخواننا في الدين والوطن، وما ننفيه عن الصوفية، في إعطاء الأحكام المطلقة ضدهم بإخراجهم من السنة والجماعة ينطبق على باقي الفِرق الإسلامية، فالأشاعرة هم من الكفر فروا، وهم يدعون إلى عقيدة صحيحة، ولا يكفّرون أحدا من أهل القبلة.
وكذلك المعتزلة الذين أبلوا بلاء حسنا في الدفاع عن العقيدة بدءًا بنفي الصفات عن الله تعالى، تعظيما له وتبجيلا، فالله عندهم عالِم من دون إضافة صفة العلم إليه، كما هو الحال عند الإنسان.
وهم ينفون رؤية الله يوم القيامة بالعين المجردة، لأنها محدودة، والمحدود لا يقع على المطلق؛ فلئن بالغ المعتزلة في الاحتكام إلى العقل، فذلك لأنهم كانوا يناظرون الفلاسفة، دفاعا عن العقيدة الإسلامية، وإلا ماذا نفعل بعلماء عظام كالجبائي والقاضي عبد الجبار، وواصل بن عطاء، وفخر الدين الرازي والزمخشري، وغيرهم، ممن أثروا المكتبة الإسلامية بعلمهم؟
وسواء أخطأ المعتزلة في ذلك أو أصابوا فحرمة اجتهادهم مصونة، ثم أين هم المعتزلة اليوم؟ لماذا نحمِّل الأمة أمورا انتفى وجودها بينهم اليوم؟
أما “الإخوان المسلمون”، فبعيدا عن طابعهم السياسي، نعتقد أنّ إمامهم حسن البنا رحمه الله خدم العقيدة الإسلامية بالقواعد التي وضعها للمسلم، وكذلك فعل سيد قطب رحمه الله بما وضعه في تفسيره القيّم “في ظلال القرآن”.
فيا إخوتنا في “الحركة المدخلية”..! لقد ضيَّقتم واسعا من الدين، حين جعلتم “الحركة المدخلية” وحدها، عنوانا للسنة والجماعة، والحنبلية وحدها ميزانا للسلفية، وأخرجتم باقي المذاهب والفِرق من أهل السنة والجماعة، وهذا مروقٌ عن الفهم الصحيح للعقيدة، وبُعد عن المنطق السليم الذي يدعو إليه الإسلام، فلا تفسدوا علينا ديننا – هداكم الله.
ولا تحرجونا بتعصبكم حين تخرجونا ظلما وعدوانا، من دائرة أهل السنة والجماعة، فتضعون أنفسكم سدنة لمدينة أهل السنة والجماعة، وفي ذلك خروج عن الخط المرجعي الوطني الجزائري الصحيح، وابتعاد عن المعتقد الصحيح لأهل السنة والجماعة.
فلتعيدوا النظر في منهجكم، فليس العيب أن تخطئوا، ولكن العيب كل العيب، أن تبقوا في خطئكم وفي ضلالكم القديم.
﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ*وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ*عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (سورة هود: 88).

مقالات ذات صلة