-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مرور غربي بالقوة لمنابع نفط العرب

حبيب راشدين
  • 8017
  • 2
مرور غربي بالقوة لمنابع نفط العرب

لأن العقل العربي يعاني من كسل ذهني مزمن، وسذاجة البدو المتأصّلة، ونسق تفكير مسطح لا يقوى على التعامل مع معادلات بأكثر من مجهول، فإنه لا يرى في هذه الفوضى التي تعصف بالعالم العربي أنها تدبير غربي لتغطية ما يمكن أن نصفه بحالة “المرور بالقوة” لوضع اليد على مخزون النفط العربي، استعدادا لمواجهة كبرى مع الخصوم الحقيقيين للغرب، لن نكن فيها سوى ساحة قتال، ومحطة تزود بالوقود.

في أحلك أيام بوش الابن، وهيمنة اليمين المسيحي المتطرف، لم نكن نتوقع أن تقدم الولايات المتحدة والغرب على مثل هذا الدخول بالقوة الفج والسمج في عموم ربوع العالم العربي، والمجاهرة بخطاب ترحيل الزعماء العرب وتفكيك الأنظمة التي لا يرضى عنها اليهود والنصارى.
فما الذي حدث مع نهاية 2010 حتى يحدث هذا الانقلاب الخطير في العلاقات والموازين الدولية، ويتولى الرئيس الأمريكي المكرم بجائزة نوبل للسلام، قيادة حملة عدوانية غير مسبوقة على العالم العربي، تسحق اليوم ليبيا، وتتوعد سوريا، وتروع بقية الدول التي تنتظر دورها؟.

.

مرور بالقوة بأدوات غير ناعمة
ثم ما الذي حدث داخل الدول الغربية، يحملها اليوم على هذه المجازفة الكبرى على المستوين الاستراتيجي والتكنيكي، في مواجهة تبدو غير محسوبة العواقب، الخسارة فيها أعظم من أي مكسب قد يتحقق، حتى لو نجح النيتو في تفكيك الدولة الليبية وإسقاط النظام، أو نجح في انتزاع غطاء أممي جديد لتنفيذ عدوان مماثل على سوريا.
لقد تعلمنا من التاريخ أن الأزمات الاقتصادية، والتهارش على المجال الحيوي بين الدول العظمى، هي من أكثر العوامل المحفزة على الحروب. حدث ذلك في الحربين الكونيتين اللتين أعادتا توزيع الأوراق، واقتسام المجالات الحيوية بين أقطاب الشمال الأبيض. ولعل فترة الازدهار التي امتدت لأكثر من خمسة عقود رغم الحرب الباردة، هي التي أجلت موعد قيام حرب كونية ثالثة مازالت في قائمة الانتظار، نقترب منها كل يوم بأكثر من خطوة، إن لم نكن قد دخلنا بعض مناوشاتها في ما جرى ويجرى في أفغانستان والعراق، ويبدو الأمر أكثر وضوحا في ما يجري اليوم في ليبيا.

.

بوارج الغرب لنصرة خوارج الشرق
دعونا نحرر موقفا عقلانيا من الأحداث الجارية في ليبيا بعيدا عن الأسطورة التي تسوقها المنظومة الإعلامية المهيمنة. فالأمر لا يتعلق، لا بنصرة انتفاضة شعبية، ولا بحماية المدنيين من القمع المنسوب للنظام، ولا حتى بمنسوب العداء الغربي مع النظام الليبي، لأن خارطة انتشار الوحدات البحرية الفرنسية والبريطانية بعرض السواحل الليبية، كانت معلومة للجميع شهورا قبل اندلاع ما سمي بالربيع العربي، تماما كما كان معلوما للجميع تفاصيل العدوان على العراق ثلاث سنوات قبل أحداث 11سبتمبر.
ما هو حاصل اليوم في ليبيا، هو محاولة غربية للمرور بالقوة، ووضع اليد على آخر أهم مخزون للنقط في العالم العربي بعد السعودية والعراق، في سياق برنامج الاحتواء الطاقوي للقوى الصاعدة، وفي طليعتها الصين، فضلا عن احتمال تحويل صحراء ليبيا، المطلة على منطقة الصحراء الكبرى والساحل، إلى قاعدة للآفريكوم الأمريكية التي يراد لها أن تكون الدرع العسكري للولايات المتحدة في حرب اقتسام غنائم القارة السمراء، وما وراء ذلك محض تفاصيل، قد تتوه فيها العقول الصغيرة.

.

اللعب بأوراق مكشوف في مجازفة مفتوحة
لماذا يجازف الغرب بهذا المرور بالقوة، المكلف وغير الآمن؟ الجواب ليس عند قيادة الناتو، ولا عند وزارة الدفاع الأمريكية، ولا عند أمانة الجامعة العربية، والأمم المتحدة. وقد نستأنس بتوصيفنا العدوان الغربي بالحرب الصليبية، ولا مانع عند الغرب أن يتوقف إدراكنا للحقائق عند هذا البعد الثانوي من العدوان، ما لم نستشرف فيه البعد الإمبراطوري القذر في مواجهة، لسنا فيها كعرب سوى ساحة قتال، كما كنا في الحرب الكونية الأخيرة، ذنبنا فيها أن باطن أرضنا يحتوى على أكثر من 60 في المائة من نفط العالم الذي سيتقاتل عليه الكبار.
قراءتنا الفاسدة للأحداث حجبت عنا ما كان ينبغي أن نقرأه في حقيقة وحجم الأزمة الكبرى التي يمر بها الاقتصاد الغربي الرأسمالي، فلم نقدر بما فيه الكفاية حجم الأضرار التي لحقت بالمنظومة الرأسمالية الغربية، ولا بتداعياتها على الخيارات السياسية والأمنية لأقطاب الغرب المهيمن، المهدد، لأول مرة منذ خمسة قرون، بفقدان القيادة والريادة لصالح قوى من الشرق. بل إن قراءتنا الفاسدة، دفعت بنا إلى الاطمئنان لشعارات كاذبة صنعناها لأنفسنا، أو صنعتها لنا نخبتنا الجاهلة، أو الساذجة، التي سارعت في وقت مبكر إلى إعلان بداية زمن انحسار المد الإمبراطوري الأمريكي والغربي، تبعا لهزائمه العسكرية في أفغانستان والعراق، وبداية انكسار شوكة الكيان الصهيوني.

.

نعي الشرق المبكر لليفياتون الغرب
فهل كان يعقل أن نرسخ ذلك الاعتقاد الفاسد الذي راهن على فرضية تقبل الغرب بسهولة، ودون رد فعل بداية خسارته للقيادة والريادة، أو يقبل بالخسائر العسكرية التي مني بها في مواجهات محدودة، مع دول كانت تصنّف في خانت الدول الفاشلة، أو يقبل بخسارة حليفته إسرائيل أمام حزب صغير مثل حزب الله، أو يرضى بفشله في تركيع قطاع غزة الذي لا تتجاوز مساحته مساحة أحد أحياء نيويورك؟. وهل كان سينتظر انهيار منظومته الاقتصادية، وإعلان إفلاسه دون التحرك بما يختزنه من قوة صلبة لإعادة خلط الأوراق، وتهديد العالم بفوضى عارمة لن ينجو منها أحد؟
علم الإجرام، عند الأفراد كما عند الجماعة، وعند الإنسان كما في عالم الأحياء، يروي لنا قصصا مثيرة وملهمة عن سلوك الكائن المجرم حين يصاب في مقتل، سواء تعلق الأمر بتضييق مجاله الحيوي، أو تعرضه لجرح نازف، وأخطر من ذلك حين تغلق أمامه منافذ النجاة، وهذا تحديدا ما كان يواجهه الغرب بعد أن استفاق على حدثين مروعين: أزمة مالية واقتصادية هيكلية ليس لها علاج، وبداية فقدان السيطرة على القيادة العالمية للاقتصاد أمام قوى ناشئة.

.

الأبيض والأسود في خدمة سلالة الأوليغارك
مجددا نكتشف أن صاحب القرار الفعلي، ليس الرجل الأبيض أو الأسود، اليميني أو اليساري، الذي تسوقه الديمقراطيات الغربية لواجهة السلطة في البيت الأبيض أو قصر الإليزيه، أو 10 داونين ستريت، وليس كبار جنرالات البنتغون، ونظرائهم بالجيوش الغربية، فهؤلاء ليسوا سوى أدوات توجهها عصابة “الأوليغارك” التي تتحكم في 80 في المائة من ثروة العالم، فهي صاحبة قرار الحرب والسلم، وهي قوة لا تقبل بالخسارة أبدا، ولا تنظر إلى كلفة الحروب. فالحروب عندها، فرصة أخرى لمواصلة توسيع السوق حين تضيق أمامها في أزمنة السلم والاستقرار. وهي قوة لا دين لها ولا ملة، ولا تضع أي اعتبار للنواميس الأخلاقية، والاعتبارات السياسية والقانونية المتعارف عليها. فهي تتحرك بسلوك وحش الليفياتون الذي بشر به الفيلسوف هوبز، وهي في الأغلب، العقب الحديدي الذي أحسن وصفه منذ قرن تحديدا الأديب والروائي الأمريكي جاك لندن.
ولأن هذا الوحش تحديدا هو الذي بيده القرار، فلا يمكن أن نتعامل مع سلوك الحكومات الغربية الواقعة تحث سيطرته بمنطق العدالة الدولية، والشرعية والناموس الأخلاقي، لأننا نكون وقتها مثل الكلاب التي تنبح بينما القافلة تسير، وقافلتهم تسير، ولن تتوقف إلا حين تصطدم بجدار متين من مقاومة الشعوب.

.
مقامرة مفتوحة بأدوات القوة الناعمة
أكثر ما يصلني من ردود القراء يرى في ما أرى قدرا من الانهزامية والتهويل، والوثوق المفرط بنظرية المؤامرة، حتى بعد أن بدأ الغبار ينجلي عن بعض ساحات الثوران الشعبي العربي، وتتكشف بوضوح أوجه العبث بعقولنا. وربما أكون قد قصّرت في استشراف حدود ما جازف به الغرب، وهو يحمل جغرافية العالم العربي على هذه الفوضى، والحقيقة أنه جازف استراتيجيا وتكتيكيا بالكثير.
على المستوى التكتيكي الصرف، أرى أن الغرب قد جازف بتوظيف مبكر وفج لمجموعة من الأدوات، كان يفترض أن توظف بطرق ناعمة، وبأسلوب يمنع افتضاحها، كما افتضحت أدواته الإعلامية في أدائها في الشهور الستة الأولى من هذا العالم. فالأمر لم يعد يتعلق بمقدار ارتباط وتبعية كبريات وسائل الإعلام، ومنها العربية بمنظومة العقب الحديدي، بل ينبغي أن نسأل عن الظروف والحاجة التي قادت الغرب إلى المجازفة بمصداقية قنوات إعلامية، صرف عليها الكثير في سياق الأخذ بناصية الشعوب العربية، قبل أن يهوي بها إلى ذلك المستوى الحقير من العبث بلا حدود بالخبر والمعلومة والرأي.
وعلى مستوى آخر، ضحى الغرب بمجموعة من الهيئات والتنظيمات في المجتمع المدني العربي، شملت قطاعات واسعة من رجال الفكر والثقافة والدين، اضطره هذا “الدخول بقوة” إلى توظيفها على عجل، وبشكل فضحها وسحق مخزونها من الصدقية والتأثير على الرأي العام العربي، كما حصل مع منظمة إتحاد العلماء المسلمين بقيادة القرضاوي، أو مع الكثير من التنظيمات التي تشتغل في حقل حقوق الإنسان.
وعلى المستوى التكتيكي دائما، جاء ذلك التوظيف القذر لجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي في تقديم الغطاء العربي لعدوان الناتو على ليبيا، جاء ليذبح الجامعة الدول العربية، وينهي دورها في المنطقة، ويورّط مجلس التعاون في عمل تآمري آخر ضد بلد عربي شقيق، ويخلق حالة من الريبة عند عموم دول وشعوب المغرب العربي حيال سلوك أمراء وملوك الخليج، ويزيد من حدة عزلة أنظمة الخليج إلى حين تدق ساعة الاستغناء عنهم وعن خدماتهم، وهي أقرب مما يتصورون.

.

هدم جسر التواصل مع شعوب الشرق
على المستوى الاستراتيجي، يأتي هذا الدخول الغربي بالقوة في جسد العالم العربي، وبأدوات استعمارية صرفة، ليمنع لعقود قادمة أيّ فرصة لبناء علاقات سليمة، مثمرة، ومستقرة بين الغرب والشعوب العربية التي سوف تكتشف بعد حين كيف عبث الغرب بعقول أبنائها، وسفّه أحلامهم، واستثمر تطلعهم المشروع نحو التغيير، ليحول انتفاضاتهم واحتجاجهم إلى أدوات لهدم الدول، وتقسيم المقسم من الجغرافية، وفي نهاية المطاف حرمانهم من فرصة تحقيق التغيير، واستعادة السيادة على الأرض وباطن الأرض.
وعلى نفس المستوى الاستراتيجي، يأتي هذا “الدخول بقوة” المرتجل، لينبّه الخصوم الحقيقيين للقوى الغربية، وأعني تحديدا الصين وروسيا، وجانبا من القوى الناشئة، إلى أن الولايات المتحدة والغرب ليسوا على استعداد لبناء نظام دولي جديد، متعدد الأقطاب، وأن الغرب على استعداد للدخول في حروب استباقية، تمنع قيام أية فرصة بناء نظام دولي متعدد الأقطاب، يقتسم فيه الغرب الريادة مع القوى الناشئة، وفي ذلك تحريض للقوى الناشئة على الشروع في التعبئة استعدادا لمواجهة باتت وشيكة، قد يجد الغرب نفسه فيها معزولا، تنظر إليه معظم دول وشعوب آسيا، وإفريقيا، وأمريكا الجنوبية، كقوة فاشية ينبغي إسقاطها، كما أسقطت الحرب الكونية الثانية القوى النازية والفاشية.
والحال، ما الذي يمنع اليوم العقل العربي من تدبّر أحوال الأمة وفق قواعد اللعبة التي تدار بها العلاقات الدولية القائمة على المغلبة وقدر عالي من السلوك البهيمية الصرفة؟ الجواب قد يبحث عنه في كلمات قليلة تحتاج إلى تفصيل أكثر: كسل ذهني مزمن، وسذاجة البداوة المتأصلة، ونسق تفكير خطي مسطح، لا يقوى على التعامل مع معادلات بأكثر من مجهول.

    أضف تعليقك

    جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

    لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
    التعليقات
    2
    • زهراء

      ككل مرة تحليلك شفاف واضح لا يترك مجال للمجادلة. أصبحت عملة نادرة في هذا الزمن الرديء. شكرا لك و بارك الله فيك فإنّك تضيء لنا دربنا و تحمي فكرنا من التشويش الإعلامي المسلّط علينا من كلّ صوب.

    • السلام عبد كريم

      شكراً على هذا المقال الرائع الذي هو عنوان الحقيقة المؤسفة التي يعيشها العالم العربي و كل العالم ، و للأسف الشديد الكثير يرى هذه الحقيقة من الجانب السياسي المبالغ فيه مع أنه واضح إلى الجميع كيف هي حياتنا اليومية في ما نعيشه كشعوب و مجتمعاتها المتفرقة و المعتمدة على أسلوب الطبقيات ( الحوت الكبير يأكل الصغير ) و بين كل طبقة و طبقة جرثوم صهيوني يراقب هذا تشجيع الهائل الذي يخدم مبتغاه الأناني الخبيث ، و العلاج الطبيعي لهذا الجرثوم المنتشر هو الرجوع إلى صفات القوة في الإنسان و من أهمها ( الشهامة ) و ما أدراك ما نستطيع تحقيقه بهذه الصفة الغائبة بشكل كبير في هذا العصر الحقير، و كل ما نعيشه اليوم فوق أرض الواقع المادي ما هو إلاّ نتاج الحقيقة الموجودة في نفوسنا المريضة الغير سليمة عند أغلبية الناس و هذا المرض أصبح واضح جداً على القوة المكبوته في ( العملاق العربي الإنساني ) النائم فوق فراش المرض و ينتضرالموت و الدواء الشافي أمامه ما عليه سوى أن يفتح عينيه و يأخض العلاج - السلام