الشروق العربي
"الشروق العربي" تخترق بوابة الصحراء في سيدي عقبة

مسجد عقبة بن نافع الفهري.. هنا تنبعث رائحة الفاتحين

آمال إيزة
  • 6598
  • 56
الشروق العربي
مسجد عقبة بن نافع بولاية بسكرة

رهيب ذلك الخُشوع والشعور الذي ينتابك وتلك الرهبة التي تملأك، وأنت تدخل مسجد عقبة بن نافع الفهري ببلدية سيدي عقبة في ولاية بسكرة، حيث غمرتني قشعريرة لم أستطع تحديد كينونتها وماهيتها دفعتني لاستحضار بيتين للشاعر نزار قباني وهو يزور قبر خالد بن الوليد يقول فيهما:

وقبر خالد في حمص نلامسه   فيرجف القبر من زواره غضبا

يا رب حي رخام القبر مسكنه    ورب ميت على أقدامه انتصبا

كيف لا وهو “عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهري”، صحابي جليل ولد قبل الهجرة بسنة، فارق الأهل والبلاد حاملا رسالة ربه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يمت بصلة قرابة للصحابي الجليل “عمرو بن العاص” من ناحية الأم، كنا نقرأ عنه في الكُتب، قصته تشبه الأساطير، فهو شخصية عظيمة خلدها التاريخ، وأرض الجزائر الطاهرة تضم ضريحه، بعد استشهاده مغدورا على يد زعيم قبائل البربر كسيلة بن لمزم الذي تحالف مع البربر الوثنيين ضده، في معركة ممس في أرض الزاب بتهودة وذلك سنة 63 هجرية، كان فارسا وبطلا مغوارا يتمتع بحنكة وشجاعة، وذكاء خارق،

يُعد من كبار القادة العرب والفاتحين في صدر الإسلام، كسب العديد من المعارك وتمكن من طرد البيزنطيين من ساحل إفريقيا الشمالي، لم يكُن عقبة بن نافع قائداً عسكرياً محضاً فقط، بل كان صاحب عقل مُبدع وفكر استراتيجي فذ وهو يصح أن يطلق عليه خبير بشؤون المغرب والشمال الإفريقي، ومن خلال حملاته الجهادية المُستمرة على الشمال الإفريقي، أدرك أهمية بناء مدينة إسلامية و بناها فعلا بتونس وكانت تدعى مدينة القيروان.

لم يدخر عقبة أي جهد لنصرة الإسلام ولم تهزم عزيمته الحدود الجغرافية، فتوجه إلى العدو كالإعصار الكاسح الذي يدمر كل شيء بإذن الله، واخترق هذه البلاد كلها هازماً لكل قبائل البربر، فتح تونس والجزائر والمغرب “مراكش” حتى وصل بخيله إلى المحيط الأطلنطي فاخترق عقبة بفرسه ماء المحيط، ثم قال بقلب المؤمن الصادق الغيور الذي بذل واستفرغ كل جهده وحياته لخدمة الإسلام: “يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مُجاهداً في سبيلك، اللهم اشهد أني قد بلغت المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك حتى لا يعبد أحد دونك”.

حجر مكتوب بالخط الكوفي القديم أثبت قبر الصحابي الجليل عقبة بن نافع

استقبلنا في زيارتنا للمسجد ولضريح سيدي عقبة بن نافع على هامش تغطيتنا لأيام الدوسن الأدبية العربية للإبداع الشعري، إمام المسجد السيد: ميلودي الطيب الذي رافق الضيوف وقدم لنا بعض المعلومات القيمة، من بينها الحجرة التي عثر عليها وهي مكتوبة بالخط الكوفي، وهي التي أثبتت قبر عقبة بن نافع، وجدوها فوق الضريح، ثم أعادوا ترميمها وادخلوها للمسجد حتى يتعرف عليها الزوار والسُياح الذين يزورون المسجد من مختلف بقاع العالم “عرب وأجانب”: سوريا، المغرب، تونس، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، تركيا، إيطاليا، المجر، إسبانيا، أمريكا، إنجلترا، فرنسا، أستراليا، وغيرها، ومجملهم طلبة وأساتذة باحثون في علم الآثار والتاريخ وعلم الأديان، والأنثروبولوجيا والمصورون المحترفون والمراسلون، هذا ويضم المسجد أيضا بئرا عند المدخل الرئيسي تم حفره أواخر القرن الثالث أو الرابع للهجرة، يعتبر أول بئر في المنطقة وبه وجدوا عنصر الحياة وعمرت الأرض.

مسجد عقبة يضم بابا وفانوسا يعودان للحقبة العثمانية…

فضلا عن الباب الذي يعود للحقبة العثمانية، يستدل به على عمر الجامع، وهو يدعى باب “طبنة”  باريكة، مصنوع من شجرة الأرز أهدي من طرف المعز بن باديس الصنهاجي في القرن الرابع للهجرة، يحتوي على رموز منها: أسلحة كانت موجودة بذلك العهد كالرمح والسهم ورأس الحربة، فضلا عن نقش العجلة وهي تعني سرعة انتشار الإسلام في العالم، والزهرة والتي تعني أن الإسلام جاء ليحقق الأمن والسلام للبشرية، والباب مصنف ضمن التراث العالمي في اليونيسكو.

وبجانبه تم وضع حجرة تعود إلى 17 جمادى الأولى من سنة 126 هجرية، تم جلبها من منطقة “قرطة”، التي تبعد بحوالي 7 كلم شرق سيدي عقبة، كان فيها جامع بن حيوة، يقال بأنه من التابعين جاء ليُعلم القرآن لأهالي المنطقة، وقد تعرض جزء منها للسرقة وهي خاصة بقبر عبد الرحمن بن حيوة بن ذي العرف الحضرمي من أهل حمص، الذي قدم إلى بلاد إفريقية فاستوطن قرية قرطة التي لعلها كانت قرية آهلة منذ قرون، ولعلها تكون من القرى التي ذكرها الرقيق والتي تتبع طبنة، كما أنها من القرى التابعة لبسكرة بعد بروزها وانتقال الزعامة إليها.

المسجد بناه مهندس تونسي سنة 1214 هجرية الموافق لـ1795 ميلادية

هذا إلى جانب مشاهدتنا لصخرية، خاصة بآخر توسعة مسـت المسجد، ومكتوب بالمحراث. بنى هذا المسجد المفخم محمد بن كبير التونسي، من القيروان، في الحقبة الزمنية 1214 هجرية الموافق لـ1795 ميلادية بطلب من أحمد بن الحاج محمد بن الحاج التواتي الذي كان شيخ البلاد آنذاك ببلدية سيدي عقبة، وقد طلب رئيس القبيلة من المهندس أن يبني مسجدا مماثلا للمسجد الذي بناه عقبة بن نافع في تونس حتى يخلد ذكراه، بالجزائر.

فضلا عن وجود فانوس قديم يعود عمره إلى سنة 1214 هجرية ومكتوب عليه بحروف عربية، لكن تنطق بالتركية، وهو يرجع للحضارة العثمانية.

دعاة وعلماء مروا من هنا

وقد زرنا أيضا المدرسة القرآنية التي كانت تستقبل طلبة من مختلف الدول ومن مختلف ولايات الوطن، من أجل دراسة القرآن والتفسير، ثم يتوجهون إلى جامع الزيتونة بتونس، أو جامع الأزهر الشريف بمصر لمواصلة الدراسة هناك.

ومن بين الذين تخرجوا من المدرسة القرآنية التابعة لمجسد عقبة بن نافع الفهري، ذكر الإمام بعض الأسماء: أبو بكر بن موسى بن عبد القادر بن جابر الجزائري المعروف بـ: أبو بكر الجزائري، أحمد رضا حوحو، الشيخ الطيب العقبي الذي يُعد من الأعضاء المؤسسين لجمعية العلماء المسلمين، وآخر طالب لبى نداء الثورة المجيدة والتحق بجبهة التحرير الوطني شهر جوان من سنة 1956 والتحق بإخوانه المجاهدين بالجبل.

وفي ذات السياق، أشار أن أهالي المنطقة كانوا يُولون اهتماما كبيرا للمدرسة القرآنية لما كانت تخرجه من علماء وباحثين، وكانوا يساعدون هؤلاء الطلبة ومنهم من كان يتكفل بالمبيت والمأكل والمشرب لهم، حتى أنهم خصصوا سيدة تطبخ للطلبة في ذلك الوقت،على نفقة المسجد، وكان يطلق عليهم اسم “الطلبة الرحل”.

مقالات ذات صلة