-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

معالم نبوية في التربية الأمنية

معالم نبوية في التربية الأمنية

إن السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، قد تركت لنا معالم مهمة وخطوطاً عريضة في هذا الجانب، فنجد في الفترة المكية من معالمها الكتمان والسرية، ولذلك نجد أن:

أ ـ الرسول صلى الله عليه وسلم اختار دار الأرقم بن الأرقم كمقر سري للدعوة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أتباعه على الإيمان بأركانه الستة والأخلاق الرفيعة استعداداً لمرحلة قادمة، وكان سبب اختياره دار الأرقم:

ـ أن الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد صلى الله عليه وسلم بداره.

ـ أن الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه من بني مخزوم، وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفاً بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.

ـ أن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن التجمع الإسلامي، فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار، من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل يتجه نظرها إلى بيوت كبار أصحابه أو بيته هو نفسه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في أحد دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر رضي الله عنه أو غيره، ومن أجل هذا نجد أن اختياره هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبداً أن قريشاً داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء(1)، ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم يهتم ببناء الجهاز الأمني لدعوته، ويزرع أتباعه في وسط القبائل من أجل السعي لتمكين دعوة الإسلام، فعندما أسلم عمرو بن عنبسة أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم إسلامه ويلتحق بأهله وإذا نظرنا في قصة إسلام أبي ذر رأيت الجوانب الأمنية بارزة في تلك السيرة العطرة.

ب ـ وفي بيعة العقبة الثانية نلحظ أن المسلمين رتبوا هذا اللقاء ترتيباً رفيعاً، فأخذوا بكافة الاحتياطات الأمنية من حيث الزمان والمكان، وعقدوا الاتفاق عقداً متيناً، وحققوا ما أرادوا والمشركين في غفلة عما يحدث، وفي هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قمم شامخة في مجال الترتيب الأمني والتخطيط الاستخباراتي، وبعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نجده يهتم بجمع المعلومات عن أعدائه ويربي أصحابه تربية أمنية فريدة من نوعها.

ج ـ روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بعث عبد الله بن جحش رضي الله عنه في السنة الثانية للهجرة في اثني عشر رجلاً من المهاجرين، وزوده بكتاب مختوم، أمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ويصل إلى موقع معلوم حدده له، فلما وصل ذلك المكان وآن وقت فض الكتاب، فضه فإذا فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض على اسم الله وبركاته لا تكرهن أحداً من أصحابك على السير معك، وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش وتعلم لنا من أخبارهم(2).

ونلحظ في هذه المهمة أمور منها:

ـ إن هذه السرية كانت سرية استطلاع، غايتها مراقبة العدو واستطلاع أخباره على نحو السرايا الاستكشافية التي تضعها الجيوش أمامها، أو على جانبها، أو على نحو المغافر الأمامية في جهة القتال، وكانت مهمتها المراقبة والاستطلاع فقط دون التعرض للأعداء بالتحرش أو الاحتكاك أو القتال، وهذا ما يسمى: الاستخبارات الهجومية، هدفها جمع المعلومات عن العدو فقط لمصلحة الدولة الإسلامية.

ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن تبقى سرية ومكتوبة حتى على من يحملها وسينفذها أخذاً بالاحتياط اللازم وخوفاً من تسرب أدنى معلومة، وتربية لأصحابه أن المعلومة تكون على قدر الحاجة(3).

د ـ وفي غزوة بدر أعطانا النبي صلى الله عليه وسلم دروساً وعبراً وحكماً لجمع المعلومات على الأعداء وتوظيفها لنزع النصر عن المشركين، فنلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع معلومات متكاملة على الأعداء وقام صلى الله عليه وسلم بالإشراف المباشر على جهاز الاستخبارات وساهم بنفسه وبغيره في جمع المعلومات عن مشركي مكة، ويمكن لنا أن نحصر أساليب الاستطلاع التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم للحصول على المعلومات من مشركي مكة:

ـ أرسل بسيسة بن عمرو وعديّ بن أبي الزغباء حتى يأتياه بخبر عير أبي سفيان، فعادا وأخبراه بموعد وصول العير(4).

ـ قيامه صلى الله عليه وسلم وبصحبته أبي بكر الصديق رضي الله عنه بتحري المكان الذي توجد فيه قريش وقد حصل له ما أراد عندما وقف على شيخ من العرب وسأله عن المكان الذي توجد فيه قريش.

استنطاق الأسيرين اللذين قبض عليهما الصحابة واستفاد صلى الله عليه وسلم من استنباط هذين الأسيرين أموراً مهمة جداً منها، عدد أفراد جيش المشركين، موقع قريش، قيادة جيش المشركين ومن فيه من أشراف مكة(5)، وعتم النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين أخبار المسلمين وقام بأمر الكتمان خير قيام وكان صفة بارزة في غزواته كلها،

فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها(6)، وفي غزوة بدر مارس رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العمل الأمني، ليرشد الأجيال على مر العصور وكرّ الدهور إلى أهمية وتجلي ذلك في الآتي:

ـ سؤاله صلى الله عليه وسلم الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه وعن قريش وجيشها.

ـ تورية الرسول صلى الله عليه وسلم في إجابته على سؤال الشيخ: ممّا أنتما؟ بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن مِن ماء». وهو جواب يقتضيه المقام فقد أراد به الرسول صلى الله عليه وسلم كتمان أخبار جيش المسلمين.

وفي انصرافه فور استجوابه كتمان ـ أيضاً ـ وهو دليل على ما يتمتع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحكمة، فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان هذا سبب في طلب الشيخ بيان المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: «مِن ماء»(7).

ـ أمره صلى الله عليه وسلم بقطع الأجراس من الإبل يوم بدر، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر.

ـ كتمانه صلى الله عليه وسلم خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا»(8)، وقد استدل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ بهذا الحديث على استحباب التورية في الحرب وألا يبيّن القائد الجهة التي يقصدها، لئلا يشيع هذا الخبر فيحذرهم العدو(9).

وكان صلى الله عليه وسلم يهتم بحركة العدو، ولذلك كانت حركة الاختراق في القبائل المعادية واسعة جداً، ولذلك باغت صلى الله عليه وسلم أعداءه مرات عديدة، وأفشل خططهم العدائية، ولما أرادت قريش أن تباغت رسول الله

صلى الله عليه وسلم بعد بدر كان مكتب استخبارات مكة التابع للقيادة في المدينة يبعث بالمعلومات أولاً بأول إلى قيادته.

لقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على استطلاع أخبار قريش، وكان يستعين بعمه العباس، قال ابن عبد البر: وكان العباس يكتب بأخبار المشركين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وكان المسلمون يتقوّونه بمكة وكان يحب أن يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مقامك في مكة خير(10).

لقد كان جهاز الاستخبارات في مكة دقيقاً جداً وحقق نجاحات مهمة، ولقد قاد العباس بن عبد المطلب هذا الجهاز بكل جدارة ونشاط، وكانت معلوماته دقيقة وبياناته صحيحة، فمن هذه المعلومات التي وصلت رسالته إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن قريشاً قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حفوا بك فأصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف بعير وأوعبوا(11)من السلاح(12).

مراجع الحلقة الحادية والعشرون

(1) المنهج الحركي للسيرة النبوية بمنير غضبان (1/ 49)

(2) سنن البيهقي (12/ 9).

(3) الإستخبارات العسكرية في الإسلام، لعبد الله علي ص: 114.

(4) أخرجه مسلم، الحديث رقم: 1501.

(5) العبقرية العسكرية، اللواء محمد فرج، ص: 57 ـ 58.

(6) أخرجه مسلم، ك الجهاد، الحديث رقم: 1767.

(7) السيرة لابن هشام (1/ 616).

(8) أخرجه مسلم (3/ 1510) برقم: 1901.

(9) شرح النووي لصحيح مسلم (13/ 45).

(01) الاستيعاب لإبن عبد البر (2/ 812).

(11) استوعبه إذا أخذه أجمع.

(21) مغازي الواقدي (1/ 204).

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: http://alsallabi.com

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!