-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

معنى تسطيح الأرض في القرآن الكريم الحلقة 1/ 2

بقلم: عبد القادر هني
  • 3032
  • 0
معنى تسطيح الأرض في القرآن الكريم الحلقة 1/ 2

كثر الكلام عن الأرض المسطحة في تسجيلات اليوتيوب، ومحل الاستشهاد في ذلك ما يفهمونه من كلمة التسطيح الواردة في القرآن الكريم، وعلى هذا يمكننا النظر إلى ما يقرره القرآن الكريم في شأن كروية الأرض وتسطيحها، قال تعالى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَت﴾ (الغاشية: 29)، وقال جل ثناؤه في الآية الخامسة من سورة الزمر خلاف ما جاء في الغاشية: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾، فالقارئ العامي أو محدود الكفاية العلمية أو المتشكك في القرآن الكريم، يعتبر ما جاء في الآيتين متعارضا تعارضا متناقضا، إذ كيف تقرر الآية 29 من سورة الغاشية تسطيح الأرض، بينما تقرر الآية الخامسة من سورة غافر كروية الأرض.

 فما وجه الصواب في ذلك؟ وأي المعنيين أصح؟ وهل هناك تضارب وتناقض بين المعنيين؟ والجواب على ذلك، أن كلا المعنيين صحيح وسليم ويتوافق مع وضعية الأرض، فالقرآن الكريم كلام الله والأرض والشمس والقمر من خلق الله تعالى، وما دام الأمر والخلق كله من الله، فلا  يمكن أن تكون معاني القرآن الكريم متعارضة مع حقائق خلق الأرض والشمس والقمر والسماء، وإذا وصف القرآن حقيقة خلقية بلفظة يبدو معناها متعارضا مع معنى آية أخرى، فلا بد من أن نفهم لبّ المشكلة بإعادة قراءة الآية محل الإشكال قراءة متأنية متبصرة، مع ربط المشكلة المعنوية بالسياق العام للآية، كي نقف على قرينة معنوية أو لفظية، وهي القرينة التي تمنحنا مفتاح الفهم الصحيح للآية، والقرينة الموجودة في سياق آية التسطيح موجودة على وجهين، الأول: أن الله -سبحانه وتعالى- حين اشتد كفر المشركين وجحودهم، وازداد ارتباطهم بآلهتكم وتمسكهم الشديد بعبادتها، دعاهم إلى وجوب استعمال عقولهم التي يعون بها الحقائق على وجهها الصحيح، ويتأملون فيما خلق الله من بديع صنعه وعظيم قدرته، مما ينفعهم في حياتهم ومعاشهم، ولم يحثهم -سبحانه وتعالى- على النظر في مخلوقات بعيدة عن مداركهم أو غير واقعة تحت حسهم وأبصارهم وتجاربهم، وإنما دعاهم إلى التأمل والتفكير في مخلوقات عظيمة الصنع محبوكة التقدير والحساب، وقريبة من أبصارهم ومداركهم وحواسهم ومنافعهم.

وهل هناك مخلوقات من صنع الله وإبداعه وإتقانه، أقرب إلى إنسان الجزيرة العربية يوم التنزيل، من الإبل التي تعيش معهم وينتفعون من لبنها ولحمها ووبرها وحمل أثقالهم؟ ومن السماء التي يرون فيها الشمس التي تضيء نهارهم والقمر الذي ينير ليلهم والنجوم والكواكب التي تزين سماءهم ويهتدون بها في أسفارهم بالليل؟ والجبال العالية الشامخة التي يسكنون في سفوحها أو في أوديتها وأنهارها أو في قممها؟ وهي التي يطلبون فيها أرزاقهم من الصيد والاحتطاب وأشياء أخرى، ومن الأرض التي يعيشون على سطحها ويمشون في مناكبها، ويرون انبساطها على مدّ أبصارهم وأفق أنظارهم، فيسهّل انبساطها نزولهم وإقامتهم وسبل سيرهم وظعنهم وترحالهم في أسفارهم ونقل أمتعتهم وأحمال تجارتهم وبضائعهم.

من هذه المنافع التي يمكن استنباطها من الدلالة الباطنية للقرآن الكريم، وهي الدلالة التي  تيسّر لنا فهم المعنى الظاهري للآيات القرآنية، إذ إن الدلالة الباطنية تكون في بعض الأحيان، هي مفتاح الفهم الظاهري للآيات، وبدونها قد يستشكل علينا الأمر ويعسر الفهم، ويجعل المرجفين والشكاك يرتابون في الحقيقة العليا للتنزيل، لأن المعنى القرآني إذا استغلق فهمه بسبب قصور في التأهيل أو في التأويل، فإن ذلك يؤدي إلى اعتماد الإسرائيليات التي عجت بها كتب التفسير عند تفسير آيات الخلق أو سير الأنبياء والرسل والصالحين، أو يؤدي إلى التفسير الخرافي والأسطوري الذي ينزع إليه بعض النقليين، إذ تميل نفوسهم –بالطبيعة- إلى التصديق بأي تفسير حين تعترضهم عقبات في التأويل، من ذلك أنهم أصبحوا اليوم ينشرون فكرة الأرض مسطحة في تسجيلات عبر اليوتيوب، ويستميتون في الدفاع عن نظرية التسطيح، وقد وجدوا من اعتمد على الخيال في تجسيم الأرض المسطحة، وزادوا عليها بأن اتهموا الوكالات الفضائية التي التقطت صورا من الفضاء تثبت كروية الأرض، اتهموها بأنها وكالات متآمرة على حقيقة التسطيح، لأن علماء الوكالات متحاملون على الأديان السماوية التي تثبت حقيقة تسطيح الأرض.

وإذا كانت نصوص التوراة والإنجيل التي تثبت حقيقة التسطيح، قد لعب بها مفسرو اللاهوت لأغراض مختلفة، وأصبح لها إحيائيون من الإنجيليين الجدد في أمريكا وأوروبا وسائر البلدان المسيحية، وعلماؤهم هم من رسم تجسيما للأرض المسطحة، وافترضوا أجوبة مقحمة على الحقيقة العلمية لعلم الكونيات، ونشروها على منصات اليوتيوب، ومنها راجت فكرة الأرض المسطحة عند بعض شيوخ الدعوة الإسلامية، فأصبحوا يدافعون عن التسطيح مخالفين ما أجمع عليه فقهاء المسلمين وعلماؤهم، وهو ما سنتناوله بعد حين.

والقرآن الكريم حين وصف الأرض بأنها مسطحة، ليس لأنه أراد أن يثبت أن الأرض مسطحة كما يروج المسطحون، وإنما كان يريد من التسطيح المساحة المرئية التي تقع في مجال رؤية الإنسان، وهو المجال الذي يقع تحت مدّ بصره، فتبدو له الأرض مسطحة لأن انحناء الأرض لا يرى بالعين المجردة على المدى القريب، (عشرات الكيلومترات)، لكون الأرض كبيرة الحجم بالنسبة إلى حجم الإنسان الضئيل وقطرها 40075 ألف كلم عند خط الاستواء، ودرجة انحناء خط الأجسام  والأشكال تحكمها قواعد المسافة وجرم الكائن الواقف على خط الانحناء، ولو وضعنا نملة على كرة قطرها 1000 كلم، لظهر للنملة ضئيلة الحجم أن خط الكرة الذي تقف عليه، خط مستقيم وأن شكلها مسطح، لأنها لا ترى فيما يقع تحت مجال رؤيتها انحناء الكرة لضخامة قطرها بالنسبة إلى حجمها.

وعلى هذه القاعدة يمكننا فهم معنى القرآن الكريم، حين نربط الآيات الكونية بالحقائق العلمية المتفق عليها لدى المجتمع العلمي، وحين التدقيق فيما ورد من تسطيح الأرض في سورة غافر ونربطه بما ينفع الناس في حياتهم اليومية والمعيشية، ونصل ذلك الفهم بما ورد من تدوير وكروية الأرض في سورة الزمر، يتبين لنا وجه الحقيقة من غير لبس ولا استغلاق، إذ إن الحق سبحانه عندما يريد أن يبين الطبيعة الخلقية لأي مخلوق لحث الناس على الإيمان والعبرة، يجعل في الاعتبار قرب هذا المخلوق من مداركهم ومنافعهم التي ينتفعون بها منه، لذلك ذكر لهم منافع تسطيح الأرض الذي يفيدهم في إقامتهم وعيشهم وتنقلهم وحركتهم ونشاطهم، لأن التسطيح في المدى القريب هو ما ينفع الناس ويحقق لهم اليسر والسهولة في العيش،

والتسطيح الذي لا يرى فيه انحناء الأرض لضخامتها، هو القسم الجزئي من الأرض وليس كل الأرض، وهو القسم الملائم للحياة اليومية، خلافا لكتلة الأرض بحجمها الكبير الذي يكون الشكل الدائري هو المناسب لتعاقب الليل والنهار وتكوين الفصول الأربعة، بدرجة ميل الأرض على محورها بـــ 23 درجة بقياس محور الميل على المحور العمودي، ولولا شكلها الدائري أو البيضوي على الأصح وميلها عن محورها ما تعاقب الليل والنهار ولا تكونت الفصول الأربعة، وبسبب هذه المنافع التي ينتفع بها الإنسان في اليوم أو الفصل أو السنة، (مدى قريب ومتوسط وبعيد)، بيّن لهم الحق سبحانه حقيقة كروية الأرض في كتلتها الكبيرة، وارتباطها بالشمس والقمر، وهو الارتباط الذي ينتج عنه تعاقب الليل والنهار والفصول الأربعة وحركة المد والجزر في البحار والمحيطات.

ولو كانت الأرض مسطحة لغمر ضياء الشمس سطحها على الدوام، لأن حجم الشمس الكبير الذي يساوي أكثر من 90 في المائة من كتل مجموعتها، ويساوي 1.3 مليون من كتلة الأرض، أي إن 1.3 مليون من أرضنا يصطف على سطح الشمس، زائد بعدها الكبير عن الأرض 150 مليون كلم، مما يجعل حجمها الضخم يغطي سطحها بنورها، أكثر من 1.3 مليون مرة، وبذلك يكون نهارنا سرمديا بلا ليل، فتستحيل الحياة على سطح الوكب، واعتبارا لهذه المنافع العظيمة التي ينتفع بها الإنسان من كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول والشمس، امتن الحق سبحانه على المشركين المكابرين، في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ﴾ (القصص:71)، والمعنى كما نفهمه من هذه الآية على ضوء علم الكونيات، أن الله تعالى قادر على تعطيل القوانين الفيزيائية (الجاذبية والقوى النووية الكبرى والصغرى والكهرومغناطيسية)، التي تحكم  نظامنا الشمسي والكون كله، فتفلت الأرض عن الشمس وتسبح بعيدة في الفضاء السحيق هائمة على وجهها، فيذهب نور الشمس على سطحها، ويبقى المكذبون في ظلام حالك إلى أن يهلكوا في أقل مما يظنون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!