-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مفهوم الحفظ بين التربية القديمة والحديثة (1/2)

خير الدين هني
  • 559
  • 0
مفهوم الحفظ بين التربية القديمة والحديثة (1/2)

أصبح الحديث عن مفهوم الحفظ وقيمته التعليمية التعلّمية، يشغل بال المتخصصين وغير المتخصصين في مناقشات أدبية وتربية ونفسية وتقنية، لها امتدادات عميقة في علوم التربية والتعليمية العامة والخاصة، (ديداكتيك)، وقد شغل الناس أنفسهم بالحديث عن حقيقة تربوية وتعليمية، يدِقّ فهمها حتى على بعض المزاولين لهذه المهنة الصعبة والمعقدة بفلسفاتها وتقنياتها ونظمها الثورية، وميدان التربية كما هو معلوم لدى الجميع ميدان حساس ودقيق، ويدخل ضمن أخطر الحقول وأكثرها تعقيدا ووعورة، بسبب تجديد فلسفاته ومقارباته وأهدافه واتجاهاته وتقنياته ومراميه واستراتيجياته، كلما استدعت الضرورة ذلك، وكلما تغيّرت طبيعة الحركة في التطور والازدهار والتقنية، وأملته ضرورة المستجدات واحتياجات العصور وانتظارات المجتمع.

وتعدّ تقنية الحفظ من أهم تقنيات التدريس، التي اشتغل الناس بالحديث في أمرها قديما وحديثا، وقد ازدادت الحاجة إلى الحديث عنها بخاصة في أيامنا هذه، لما للحفظ من مفهومية تربوية ونفسية واجتماعية ووظيفية، هي محل خلاف بين المشتغلين في التربية، وبين الشركاء التربويين من السياسيين والنقابات والأولياء والمجتمع المدني، ولما لها من أهمية وحساسية في تأسيس أي مقاربة تعليمية جديدة تقوم على أفكار ثورية في التصور والبناء والتنفيذ، من خلال الصيرورة (التحولات) العقلية التي تنتج عن حركة التطور الفكري والتاريخي والاجتماعي والاقتصادي، وما ينتج عن ذلك من مقاربات تعليمية وتربوية تصبح لها اليد الطولى في تغيير المفهوميات والنظريات، والاستراتيجيات والتقنيات الفنية التي ترافق حركة التجديد والبناء، ضمن أطر جديدة في التصور والهيكلة وقواعد التنفيذ بالشرائط الفنية، كيما تساير المستجدات والتحولات وانتظارات المجتمع.

ولكي يناقش الفرد تقنية الحفظ ومفهوميته التعليمية والتربوية، ومدى ملاءمتها أو عدم ملاءمتها لبناء تعلّم ناجع وفعّال، يتعين عليه أن يكون مُلمّا بتاريخ حركة التطور التربوي وفلسفاته المتعاقبة، ومطّلعا على المدارس النفسية التي بُنيت عليها أسس ومبادئ المقاربات التعليمية الجديدة، وعلى الأثر الذي يتركه الحفظ على الأبعاد النفسية والتربوية والتعليمية للمتعلمين، وانعكاساته الإيجابية أو السلبية على تنمية القدرات العليا في الدماغ، وهي قدرات التحليل والتركيب والتقويم وإصدار الأحكام على الأشياء والوضعيات المختلفة في البساطة والتعقيد، وهل آلية الحفظ تمكّن المتعلمين من فهم المعاني المركبة بتعقيدات التجريد؟ ومن تنمية القدرة على فهم  ترميز المجاهيل الرياضياتية والعلمية بشكل عام، ومن إدراك وتبصّر المطبات والمتاهات والألغاز التي تبنى عليها المناهج والكتب المدرسية، ومن استيعاب العلاقة البنيوية أفقيا وعموديا في أطر مندمجة ضمن تركيبة معنوية تحقق أهدافا استعراضية، ومن اكتساب كفايات عملية تساعد على حل المشكلات الصعبة التي تواجه الفرد في حياته العلمية والعملية؟

التربية القديمة حينما نظّرت للتحفيظ وجعلته تقنية أساسية في التدريس، فذلك لأنها بنت مبادئها على تصورات نفسية خاطئة، لأن علم النفس في تلك العصور كان مندمجا مع الدراسات الفلسفية، وكانت معارفه مبنية على الحدس والخيال وليس على التجريب والملاحظة، لذلك بنت تصورها على مسلمات مغلوطة.

وإذا ألمّ الدارس أو المجادِل بفلسفة المقاربات الثورية، وعرف أسسها ومبادئها وأهدافها ومنهجية بنائها وتركيبها، أمكنه أن يعرف حقيقة الحفظ وتقنية تنفيذه، ومدى أثره على النجاعة والفعالية وتنمية القدرات العليا أو فشله في تحقيق ذلك، وحين يقف على معرفة ذلك يمكنه التمييز بين فلسفة المقاربات التقليدية التي كانت تجعل من الحفظ جوهر أي عمل تربوي وتعليمي، لأنها تعدّه هدفا من أهدافها الكبرى، ولذلك وضعت له تقنية دقيقة تتلخص في ثلاث عمليات أساسية، هي: حسن الإصغاء، حسن الحفظ بالتكرار، حسن الاسترجاع (الاستظهار)، ولذلك كانت الغاية الكبرى من التعليم التقليدي، هو أن يحفظ المتعلم كل شيء يسمعه أو يقرأه أو يراه، وكان التباهي بالقدرة على الحفظ والاسترجاع هو معيار التفوق والامتياز والموهبة والقريحة والإجازة (التخرج).

التربية القديمة تُنظِّر للحفظ تخمينيا:

كانت التربية القديمة تبني فرضياتها على نجاعة الحفظ بناء تخمينيا عشوائيا صوريا، إذ كانت تعدّ تقنيته ناجعة وفعّالة في تنمية مختلف الملكات العقلية، وشحذ القدرات العليا في الدماغ وصقل المهارات وتهذيب السلوك وتعديل الاتجاهات والعواطف والمشاعر والإحساسات، لذلك أولته أهمية قصوى في أي تخطيط تعليمي تربوي، وجعلته تقنية أساسية في تحديد الأهداف وبناء المناهج وتأليف الكتاب المدرسي، واتخذت من التلقين منهجا أساسيا في التدريس، لأن التلقين والتحفيظ -حسب هذا التصور- هما الأنسب للتلقي والفهم والحفظ والنمو العقلي، وهذا الفرض يمكن اعتباره صحيحا ويتلاءم -إلى حد ما- مع قدرات الموهوبين والمتفوقين وذوي القدرات العليا في الذكاء، لكون المتفوقين لهم قدرات خارقة على التكيّف مع أي وضعية تعليمية مهما كانت خاطئة أو معقدة أو غير سليمة البناء.

والشاهد على ذلك ما رأته البشرية من تخرّج علماء أساطين من المدارس القديمة، في مختلف العلوم والفنون والآداب والفلسفة والقيادة السياسية والعسكرية وإدارة الأعمال، أما عامة المتعلمين من العاديين ودون العاديين والأغبياء والبلداء وضعاف العقول، ممن تتجاوز نسبتهم في المجتمع الإنساني 90 في المائة، وهي الفئات التي أثبتت الدراسات الحديثة والتجارب الميدانية والمخبرية، أنهم لم يستفيدوا كثيرا من نظرية الحفظ التي تعلموا بها في النظام التقليدي الكلاسيكي، وكانوا يواجهون مشكلات عويصة حين تعترضهم مشكلات في التعلّم أو في الحياة العملية.

وظيفة الحفظ لا تتعدى الذاكرة:

ومردّ ذلك يعود إلى أن الحفظ ينمي ملكة الذاكرة فقط، ولا علاقة كبرى له في تنمية قدرات التفكير والإدراك والخيال الإبداعي، وهي الملكات (بالتعبير الكلاسيكي)، أو العمليات العقلية العليا (بالتعبير الحديث)، التي تنوط بأنشطة تعلّمية ووظيفية معقدة، كالقدرة على الحوار الفعال والنقاش المثمر والمناظرة القوية المفحِمة، وسرعة استحضار الموارد السابقة من المكاسب والمعارف والخبرات والآليات، (سرعة البديهة)، للظهور بتملّك الكفاءة المطلوبة بمعاييرها العلمية، وهي معايير التحكم في المنهجية الدقيقة (خلافها: التخلاط والتخمين والعشوائية والفوضى، وعدم ترتيب الأفكار والكمّ المعرفي وضعف التحكم فيهما، وتضييع الوقت في الهفّ واللّف والدوران والتكرار، وغياب التأشير المعياري على المقولات والمعقولات والمنقولات)، إضافة إلى امتلاك مهارة التحليل والتركيب والتقويم والحكم والإبداع والاختراع والابتكار، ونقصد بالإبداع والابتكار ما يبديه الفرد من قوة إدراك وتبصّر للوضعيات (المشكلات) المختلفة وتعقيداتها وتفرعاتها، وإبداع الأفكار والمعاني والسياقات والأخيلة والتصورات حين يتكلم ويتحدث وحين يناقش ويناظر، هذا بالنسبة للمتفوقين والموهوبين والنابهين المتيقظين من العباقرة الأفذاذ.

المحاكاة من أهم نظريات التعلّم:

أما بالنسبة للعاديين وما دونهم من ضعاف العقول والبلداء والأغبياء مع تفاوت نسبي بينهم، ممن تتجاوز نسبتهم في المجتمع الإنساني 90 في المائة، فأقصى ما يمكن أن تصل إليه كفاياتهم ومهاراتهم الفكرية والكلامية، هو القدرة على تنظيم المعرفة تنظيما يحقق الحد المقبول أو الأدنى من الأهداف المتوخاة، وهو الحد ما دون عتبة التفوق والنبوغ، أي: بحسب ما يملكه كل فرد أو متعلّم من قدرات ذهنية، وينبغي أن يؤخذ في عين الاعتبار عند مواجهة أي وضعية (مشكلة) معقدة، من قبل هؤلاء الفئات هو وجوب تقليد التجارب الناجعة والخبرات الناضجة التي هي من إبداع المتفوقين، ومحاكاة كل فعل إيجابي وفعال في إنماء قدراتهم الذهنية وصقل مهاراتهم التعبيرية والكلامية، لإنتاج أي إضافة فكرية أو تعبيرية تنسب إليهم وتعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع والفائدة في الاتصال والتواصل والتعامل، لأن المحاكاة كتقنية تُعدّ من أبرز نظريات التعلّم للصغار بخاصة، وللكبار عندما تقصر هممهم على بلوغ الأهداف ومواجهة المشكلات المستعصية، لأن التربية الحديثة توجِّه اهتماماتها إلى كل طوائف المجتمع من غير تمييز ولا تفريق ولا محاباة، كل يأخذ منها بقدر ما تسمح به قدراته ومهاراته ومواهبه.

الدول النامية تحاكي الدول المتطورة:

وتقنية المحاكاة لا تقتصر على التربية والتعليم فحسب، وإنما هي تقنية تشمل الحياة كلها في أي تحديث يريده المجتمع العلمي في المؤسسات البحثية أو السياسي في مؤسسات الدولة، إذ يشمل حقول السياسة والإدارة والتنظيم والمعرفة والتقنية والتنمية الاقتصادية والصناعية والعمرانية والاجتماعية، وقد رأى العالم حركة التحديث التي انتهجتها بعض الدول النامية، ممن اختارت طرق المحاكاة للدول الحيوية المتطورة، كدول التنين الآسيوي وغرب إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية، فضلا عن دول كبرى بالكثافة كانت إلى وقت قريب ترزح تحت طائلة الجهل والفقر والبؤس، كالصين والهند وغيرهما، فاستطاعوا في وقت وجيز بناء نهضة شاملة تجاوزت كل التقديرات والتوقعات والحسابات.

هذه الشواهد هي آية ما أشرت إليه فيما تقدم من أن الإنسان ضعيف القدرات، يتوجّب عليه تقليد غيره ممن هم أقوى منه ذكاء وكفاية واقتدارا على الخلق والإبداع والابتكار والتنظيم، فيحاكي نظمهم وطرقهم في التفكير والتنظيم والعمل، أما الدول النامية التي اعتمدت على قدراتها المحدودة من غير محاكاة، إما لعدم قدرتها على التقليد والمحاكاة لضعف عقلي غير متبصّر، أو لأسباب سياسية غير ناضجة، فإنها بقيت تراوح مكانها، وقد توقف عليها الزمن كما توقف على أهل الكهف من قبل، ولذلك نرى بلدانها تسير من سيئ إلى أسوأ في شتى ضروب الحياة، وبعضها دخلت في حروب أهلية لأن نخبتها السياسية تحنّطت في سبات عميق، وتمركزت حول ذاتها في نرجسية مستغرقة في أنانية مقيتة ولم تقبل أي تحديث سياسي، ورضيت بالجمود والركود والتكلّس، وكانت النتيجة مأساوية على بلدانها وشعوبها وحضارتها وتاريخها.

التربية القديمة بنت تصوراتها على نظريات خاطئة:

والتربية القديمة حينما نظّرت للتحفيظ وجعلته تقنية أساسية في التدريس، فذلك لأنها بنت مبادئها على تصورات نفسية خاطئة، لأن علم النفس في تلك العصور كان مندمجا مع الدراسات الفلسفية، وكانت معارفه مبنية على الحدس والخيال وليس على التجريب والملاحظة، لذلك بنت تصورها على مسلمات مغلوطة، وهو التصور الذي لعب فيه الخيال دورا بارزا في حدس الحالة النفسية للأطفال، إذ اعتبرت الطفل صفحة بيضاء لا يصلح إلا للتلقي والحفظ، كما لو أنه آلة يمكن برمجتها بأي  نوع من أنواع البرمجة، وهو لذلك يمكن ملؤها بأي خبرة يختارها الكبار، من غير نظر إلى قدراته الذهنية ومهاراته الجسدية وميوله واتجاهاته ورغباته ودوافعه وعواطفه ومشاعره وأحواله النفسية، واعتبرته -أيضا- أي: التربية  عجينة طرية خالية من الإحساس بالألم واللذة وهو يعيش بلا هوية شعورية، لذلك يمكن تشكيلها بأي لون من ألوان التشكيل، لكونه طفلا صغيرا لا يدرك ما يدور حوله أو ما يعطى له، لذلك جعلت التلقين والتحفيظ والاستظهار والعقاب الجسدي والنفسي أهمّ مبادئها في التربية والتعليم والجزاء والتوجيه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!