-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ملاحظات حول المعجم الطوبونيمي الجزائري

خير الدين هني
  • 1131
  • 0
ملاحظات حول المعجم الطوبونيمي الجزائري

أخذ الجدل يحتدم بين فئات مختلفة من الجزائريين، وبخاصة المثقفين منهم، وقد برز في وجهات نظر متباينة في طروحاتها وأبعادها وغاياتها، مما  يراد الوصول إليه من وراء اهتمام هيئة استشارية قامت بإصدار معجم في (الطوبونيمية)، التي يُقصد بها دراسة أسماء الأماكن بالبحث عن جذورها اللغوية، أي: أسماء  مدن الجزائر وقراها وأماكنها وسهولها وجبالها ووديانها وأنهارها.

جوهر المسألة أن الجدل والنقاش  دار حول الغاية من وضع هذا المعجم، من لدن هيئة استشارية غير مخولة –قانونا- بإنجاز هذه المَهمَّة، لتنافي الاختصاص كونها مكلفة بالإشراف على ترقية اللغة العربية، وإنماء قاموسها اللغوي والاصطلاحي، واستكمال تعريب الإدارات التي مازالت تستعمل لغة أجنبية، برغم مرور ستة عقود كاملة من الاستقلال.

وهي بحكم الدستور والقانون الداخلي الذي يحدد صلاحياتها، كما نفهمه من عنوان اسمها (المجلس الأعلى للغة العربية)، لا تملك صلاحية البحث في جذور الأسماء والكلمات بغير اللغة العربية، لأنه لا يدخل في نطاق اختصاصها، أضف إلى ذلك أن أسماء المدن والقرى والأماكن الجغرافية تعارف عليها الجزائريون منذ أزمان سحيقة، وأصبحت مألوفة لديهم ولا توجد ضرورة لتغييرها أو استبدالها بأسماء غير مطروقة، كما أن تغيير أسماء المدن والقرى والأماكن، لا يتم إلا بمراسيم تنفيذية من الحكومة، مثلما وقع في مرحلة ما بعد الاستقلال، حينما أقدمت الدولة على تغيير أسماء المدن والقرى المسماة بأسماء فرنسية، كمدينة باريقو في الغرب وشامبلا وباليسترو في الوسط، فغيّرت أسماء هذه المدن بأسماء كتائب الثورة، فأطلق على الأولى اسم المحمّدية، وعلى الثانية اسم العمّارية، وعلى الثالثة اسم الأخضرية، وغيرها كثير من القرى والأماكن، وقع ذلك بمراسيم تنفيذية وليس من هيئات إدارية أو استشارية.

إن الاضطلاع بتغيير هوية أسماء المدن والقرى والأماكن من غير استشارة شعبية، ومن غير ما ضرورة تدعو إلى ذلك، سيؤدي إلى اضطرابات وقلاقل اجتماعية وثقافية وحتى أمنية نحن في غنى عنها، وسيؤدي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وفتق اللحمة التي تربط العلاقات البينية ووشائج المجتمع، وهي الوشائج التي ما فتئت الدولة تعمل على تنميتها وتوثيقها في خطابها السياسي ومواثيقها الثورية والدستورية.

وقد حاول البعض أن يجعل من هذا الموضوع إشكالية، ذات أبعاد تنويرية هوياتية من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولم يكن الجزائريون ينتظرون هذه الخرجة التي فاجأهم بها المجلس الأعلى للغة العربية، حين أصدر في موقعه الإلكتروني (المعجم الطوبونيمي)، وهو المعجم الذي عُني بإعداد قوائم بأسماء جديدة للمدن والقرى والأماكن، بحجة أنها فقدت هويتها الأصلية بعد الاستعمار الفينيقي والروماني والفرنسي والوجود العربي، حسبما صُرِّح به في غير مناسبة وموقف مشافهة وكتابة، ومما زاد الجدل استعارا أن قام بهذه المَهمَّةَ المجلسُ الأعلى للغة العربية، الذي أوكلت إليه مَهمَّةُ ترقية اللغة العربية وتطويرها بإصدارات جديدة في مجال البحث والدراسة والترجمة وإغناء قاموسها اللغوي والاصطلاحي  بالمبتكرات العلمية والفنية والتكنولوجية، إضافة إلى استكمال مسيرة التعريب التي مازالت تراوح  مكانها منذ عقود خلت، ويكون عمل المجلس في إطار تكاملي مع الجامعات ومراكز البحث والاستشراف.

والشعب يعرف أن مهمة ترقية اللغات المحلية، وما يتصل بها من قضايا الثقافة والتراث، أسنِدت إلى المحافظة السامية للأمازيغية وليس إلى المجلس الأعلى للغة العربية، ولو صدر هذا المعجم عن هذه الهيئة لالتمس الناسُ بعض العذر، لأنه يدخل إلى حد ما في اختصاصها في حالة ما إذا سمح بذلك القانون الداخلي لهذه الهيئة، بحكم العلاقة بين وظيفتها وموضوع الطوبونيمية، مع أن البحث في هذه الموضوعات هو من اختصاص الدولة وصلاحياتها، من طريق تقديم مشروع متكامل إلى المجلس الشعبي الوطني لإثرائه ومناقشته والمصادقة عليه، لأنه يمس قضية وطنية كبرى مختلفا فيها اختلافا كبيرا، وحلها يكون بالاستفتاء الشعبي العامّ الذي يقترحه رأس السلطة التنفيذية أو البرلمان، وليس الأمر من اختصاص الهيئات والجمعيات والأفراد والأحزاب السياسية، لأن الاضطلاع بتغيير هوية أسماء المدن والقرى والأماكن من غير استشارة شعبية، ومن غير ما ضرورة تدعو إلى ذلك، سيؤدي إلى اضطرابات وقلاقل اجتماعية وثقافية وحتى أمنية نحن في غنى عنها، وسيؤدي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وفتق اللحمة التي تربط العلاقات البينية ووشائج المجتمع، وهي الوشائج التي ما فتئت الدولة تعمل على تنميتها وتوثيقها في خطابها السياسي ومواثيقها الثورية والدستورية، وفي المقابل يخدم مشروع تغيير هوية المدن والقرى والأماكن أجندة أجنبية وانفصالية وصهيونية ومتصهينة، وهي داخلة في مخططاتهم وبرامجهم وأهدافهم وغاياتهم البعيدة، والعالم كله يعرف ذلك ويعيه جيدا.

وهذه الجهاتُ المعادية بتآمرها مع الحركات الانفصالية، يعمل بعضُها بالتنسيق مع بعضها الآخر ليلا نهارا، وهي لا يهدأ لها بالٌ ولا يسكن لها متحرك، ولا يرفّ لها جفن إلا بعد أن تزرع بذور الشك والارتياب والتفرقة والعداوة والشقاق والخصومة والمنازعة بين الجزائريين، بما تبدعه من أساليب مخادعة وماكرة، ظاهرها يبدو فيه الإصلاح، وباطنها مغشوش يراد به الفتنة والتفرقة والشنآن.

ولو كانت عندنا أسماء خادشه للحياء، أو مسيئة للذوق العامّ أو قبيحة النطق أو ناشزة وبها استثقالٌ وركاكة وإعياء لأمكن تغييرها، ولكن بمراسيم تنفيذية وليس من هيئات استشارية أو إدارية أو ثقافية أو جمعوية أو سياسية، أما أن نستبدل أسماء جميلة وخفيفة النطق والروح، ألفناها وتمرّسنا على نطقها وكتابتها، فهذا عملٌ غير حكيم ولا يخدم المصالح العليا للدولة، وسيُدخل البلاد في منازعات عرقية وإثنية، لأن الطرف الآخر من السكان لا يقبل تغييرَ أسماء ورثها عن أسلافه واعتاد عليها منذ زمن بعيد، إضافة إلى أنَّ أسماء مدننا وقرانا وأماكننا جميلة وجذابة، ويستسيغها الذوق الشعبي العامّ.

وتغيير الطوبونيمية العامّة للبلاد من غير مسوغ ضروري أو استشارة شعبية عامة، ينجرُّ عنه منازعاتٌ ومشاحنات بين فئات الأمة الواحدة، ولو كان ذلك مفيدا وله أثرٌ جميل على العباد والبلاد والتنمية الشاملة والتطور العلمي والفني والثقافي والتكنولوجي، لسبقتنا إليه الأممُ الكبرى التي تغيرت تركيبتها الاجتماعية والثقافية والجغرافية، بعد الاندماج بين السكان الأصليين والوافدين بحكم العوامل التاريخية من غزو واستعمار وهجرات كبرى، مثلما وقع في الأمريكيتين واستراليا وجنوب إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وغيرها من البلدان الكبرى…وحتى فرنسا التي لا يأتينا منها إلا الشر والبلاء والفتن المستعرة، وهي التي أصبحت تنظِّر لتقسيم الجزائر ونشر الفوضى فيها وفي بلدان شمال إفريقيا، وقع لطوبونيميتها تغييرٌ كبير في كثير من المواقع والمدن والقرى عبر مراحل تاريخية طويلة، اقتضتها ظروفٌ وتغيُّرات اجتماعية وجغرافية وبيئية وثقافية معقدة كما سائر البلدان، فلماذا لم تقُم بتصحيح أسماء مدنها وقراها وأماكنها، وتوعز لغيرها من وراء الستار بتغيير أسماء مدنهم وقراهم، والعالم كله يعرف أن ما يتأسس في فرنسا من هيئات وتنظيمات ومراكز بحث أنثروبولوجي، هو محل شك وارتياب وشبهة، ولاسيما إن كانت له صلة بالهويات العرقية والثقافية والتاريخية.

وأسماء المدن والقرى والأماكن، فيها ما يُعلَّل وفيها ما لا يُعلَّل، لأسباب بنيوية وثقافية وتاريخية ولسانية، وهي لا تُؤخذ من الأماكن فحسب، كما ذهب بعض الباحثين والدارسين، وإنما تُؤخذ -إلى جانب ذلك- من الحوادث والوقائع والكوارث والمظاهر الطبيعية، ومن الأعلام والصفات والألوان والروائح والطعوم والأصوات والقُبح والجمال والنحت والاشتقاق، أو من دمج كلمات ذات صلة في تراكيب مزجية أو إضافية، ومن المظاهر البيئية والجغرافية، كالجمال والقبح والانبساط والاستواء والاعوجاج والوعورة والارتفاع والانخفاض، والخصوبة والجدب والجفاف والقحط… وغير ذلك.

ولو ذهبنا إلى بلدٍ خليجي كبير، معروف بخصوصيته العرقية والثقافية والدينية، وتأملنا في طوبونيميته، لوجدنا تغييرا كبيرا وقع على تسمية بعض مدنه وقراه وأماكنه ووديانه وأنهاره وجباله، كما هو الأمر في جميع بلدان العالم، وليس هذا فحسب، وإنما شملت ظاهرة تغيير الطوبومينية كل بلدان المنطقة من غير استثناء، وهناك بَلدان كبيران كإيران المتمسّكة بثقافتها الفارسية، وتركيا ذات الأعراق المتعددة، فيهما بعض الأسماء لا تمتُّ إلى جذورهما الثقافية، كديار بكر واسطنبول المحرَّفة عن إسلام بول وغازي عنتاب وتل أرمن في تركيا، وجعفر أباد ومشهد وفخر أباد في إيران، وهذه أمورٌ طبيعية اقتضتها ظروف تاريخية معروفة، تمازجت فيها الثقافات واللغات والعادات والأخلاق والأعراف، ولا غضاضة في ذلك ما دام شائعًا أمرُه في بلدان العالم كله، ولاسيما في البلدان الإسلامية حيث مزجت بينهم العقيدة، وجعلتهم أمة واحدة إلا من سلك سُبل الشطط والخروج عن إجماع الأمة، من الانفصاليين الذين صنفتهم الدولة في خانة الخارجين عن القانون، ممن اختاروا الفوضى والتشغّب على بلدهم وشعبهم وأمتهم الواحدة.

وأنا أعرف أسماء أماكن في منطقتنا، مازالت تحتفظ بأسمائها الأمازيغية، والسكان لا يعرفون ذلك لكونهم عربا، ولم يغيِّروها أو يستبدلوها لعدم وجود ضرورة، من ذلك مثلا أسماء هذه الأماكن: (تاسة، تماردوس، تسلي، فرغلايل..)، استخلصتُ ذلك من خلال النغمة الموسيقية لهذه الكلمات ومن بنياتها التركيبية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!