من يجرؤ على دم السبع..؟
ما كنت أحسبني أحيى إلى زمن يجرؤ فيه وغد، على الدم الجزائري الغالي، دم الأسود. وما كنت أتصور، أن من غذته الجزائر بلبنها، وربته من معدنها، ودفعت في حق شهرته من ثمنها، أن يكون أول الناعقين بهدم وحدتها، والنابحين بتفكيك أواصر أسرتها.
فهل هانت الجزائر في عيون بعض المنتسبين لتربتها، إلى حد الكفر بنعمتها، وحمل الفؤوس، من أجل تقويض دعائم هيبتها، والعاملين على تعميق جراحها ومحنتها؟
وهل هان اسم الجزائر، على ألدّ أعدائها فأصبح يملك الوقاحة، حتى على مجرد النبس بالتنديد، أو التهديد، أو الترديد لعبارات المساس بأرض المليون شهيد؟
لقد تفاجأنا، كما تفاجأ كل أحرار العالم بما يحدث، فما كان همسا، خرج إلى العلن، وما كان نبسا تحول إلى العفن، وسوء الظن، ونسج الفتن.
سقط القناع _إذن- على وجوه الرعاع، وأتباع سقط المتاع، فحرّك ذيله من ضربنا رأسه، وأغطش ليله، من عتمنا فجره، فالوحدة الوطنية، التي امتدت حرب التحرير سنوات من أجل المحافظة عليها، وعدم السماح بفصل رمالها، أو تدجين رجالها، أو رهن مآلها؛ هذه الوحدة المقدّسة انبرى اليوم، عمالةً وتطوعاً، من يشكك في حقيقتها، ويقدم لسادته العربون على المساس بثمن عقيقتها.
تذكرت، والذكرى مؤرقة، الحِكَم العربية في هذا المجال، كالمثل القائل: “عجباً حتى الكُليب سبني”.
والمثل القائل:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كِلاها وحتى سامها، كل مفلس
وما الهزال الذي أصاب جزائرنا إلا بسببنا، فقد تفشت القابلية للاستعمار فينا، والقابلية للتجزيئية في صفوفنا، إلى الحدّ الذي صرنا فيه نضحي بثوابتنا المحصِّنة لوحدتنا. وتقديم التنازلات المخزية، ثقافيا، واقتصاديا، وصناعيا، وسياسيا، إلى المستوى الذي هنّا فيه على أنفسنا، وعلى أعدائنا.
أيطربكم من جانب الغرب ناعق، ينادي بوأدي في ربيع حياتي
إن ما أقدم عليه المسؤول الفرنسي السابق من تشكيك في مستقبل الجزائر، لهو الجزاء لما قدمناه بأيدينا، من تشكيك في قدرتنا الثقافية، وأهليتنا السياسية، واستقلاليتنا الاقتصادية.
إنه ليحق لنا، أن نحاكم، كل من ساهم أو يساهم، في نشر النفوذ الأجنبي من التمكين لثقافته، أو بسط نفوذ سيادته، أو الارتماء في أحضان سياسته. فقد كان جزاء ذلك كله، الموقف التنديدي المخزي بتاريخنا، وجغرافيتنا، ومستقبل سيادتنا. ويمينا برّة، لاحِنثَ فيها، لو كنت آمراً بشيء، لأمرت بعودة الجزائري إلى ذاته العميقة، فمنعت عنه الكتابة بغير ثقافته في بيئته، والتحدث في بيته بغير لغته، وتقديس قيمة عملته، وتجارته، وصناعته.
فقد بالغنا، في الاستهانة بمقوّمات كينونتنا، وهويتنا، ووجودنا، فاستخف بنا أعداؤنا، والعاقون من أبنائنا.
كتب المنسلبون منا، بغير لغتنا على محلاتنا، فقيل إنه الانفتاح الثقافي. وتشدق بعضنا بمخاطبة إخوانه، وأبنائه، بغير لغته، فاعتبرنا ذلك عنوان الحداثة والتقدم.
صادرنا إرادتنا الاقتصادية، والصناعية، والعقدية، والإيديولوجية، وأدخلنا ذلك كله في خانة العولمة والعالمية. وماذا كانت النتيجة؟ مؤامرة على وحدة وجودنا، ودس كل المكائد، على معتقدنا، بنشر التنصير، والزج بكل المصائد، على هويتنا، باسم حرية التفكير، وبث فكر التكفير، والتفجير، والتبذير.
أما آن لنا أن نستفيق من غفلتنا بعد الذي حدث ويحدث؟ ألم تدق ساعة الحسم للخروج من كل أنواع الذبذبة إلى وضوح تحديد المسير نحو المصير؟
إننا أمام محكمة التاريخ العادلة واقفون، وإن شهداءنا الأبرار لفي دهشة من أمرنا يتساءلون؟ وإن الماهدين من علمائنا ومجاهدينا، لفي حسرة من أمرنا، يتململون، _أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ_.
إننا نرسل بزفرة حارة، إلى ذاكرة التاريخ أن حذار، فقد بلغ السيل الزبى. وإن مقصلة التاريخ العادلة، لن يفلت منها أحد، فهذا الوطن ضحى من أجل حريته واستقلاله ووحدته، وثوابته، الخيّرون، ولن يخزي الله تضحياتهم، ولن يغفر لمن تهاونوا، أو تواطئوا، أو تقاعسوا عن مهمة إنقاذ الوطن مما هو فيه، وكلنا ثقة وأمل بأن في الوطن رجالاً ونساء مخلصين، لا يزالون يؤمنون بحقيقة الوجود الوطني، فهم في سبيل ذلك يجاهدون ويضحّون، مهما غيّب الباطل جهدهم، وعتم المفسدون عهدهم، وشوه المبطلون قصدهم.
بعد أن تجرأ الأعداء وأعوانهم على وحدتنا، وعلى سيادتنا، لم يعد الصمت ممكنا، وتصبح كل مداهنة أو مواربة، خيانة لله، ولرسوله، وللمؤمنين.
لذلك نتجه إلى كل ضمير حي، إلى كل مثقف، إلى كل عالم، إلى كل مجاهد، إلى كل مواطن صالح، نخاطب فيهم بقايا الوعي، بأن مجرد القول لم يعد كافيا، وأن القلم لم يعد وافيا، فقد تحولت الكلمات إلى جمرات، والعبارات إلى قاذفات.. فأمام المصير الوطني، يجب أن تذوب كل الخلافات، وتنمحي كل النعرات، وأن تتوحد حول المقدسات كل الكفاءات، وكل الجهات، وكل أنواع الثقافات واللهجات، استعداداً للخطر الذي هو آت.
ونحذر في الختام كل ضبع، من المساس بدم السبع.