-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

من أزمات الأسرة!!

التهامي مجوري
  • 387
  • 2
من أزمات الأسرة!!

في حصة تلفزيونية مع الأستاذة بن براهم المحامية الجزائرية المعروفة، تعرضت إلى مشكلة الطلاق في الأسرة الجزائرية، حتى أنها عبرت عن ذلك بصورة بيانية لافتة وغاية في الدقة عندما قالت: “عندما تدخل المحكمة وترى قاعة مكتضة فاعلم أنها جلسة خاصة بالأحوال الشخصية”، أي أن موضوع القضية فيها خاص بالأسرة، وأخطر قضايا الأسرة الطلاق الذي أصبح مخيفا في الجزائر حيث بلغ 68 ألف حالة سنويا خلال الخمس سنوات الأخيرة، وعللت الأستاذة بن براهم ذلك بخلل في جهاز العدالة؛ لأن المحاكم تستعجل البت في قضايا الطلاق ولا تتريث فيه، وإنما تعرض عليها القضية “فتصبر ثلاثة أيام للصلح وثلاثة أشهر للقضاء ثم يصدر الحكم” تلك هي العبارات المذكورة للأستاذة، ويبدو أنها استعملت لفظ ثلاثة أيام وثلاثة أشهر ليس على سبيل الحقيقة وإنما على سبيل تصوير الاستعجال الذي تعتمده المحاكم.

والسبب في ارتفاع نسبة الطلاق وغيرها من مشكلات الأسرة في تقديري، ليس فيما ذكرت الأستاذة بن براهم فحسب على أهميته، وإنما في طبيعة الأسرة نفسها وعلاقات أفرادها ببعضهم البعض في مجتمعاتنا المعاصرة؛ لأن الأسرة في التاريخ، هي كتلة اجتماعية انبثقت عنها جميع النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، حتى أن ول ديورانت صاحب موسوعة “قصة الحضارة”، يقول: إذا كانت السلطة أو الدولة تتحكم في قمة المجتمع، فإن الأسرة لا تزال تحكم قواعده. [قصة الحضارة].

وقد عاشت الشعوب والمجتمعات هذا المعنى بحيث لم يقع لها التغيير في ذلك إلا منذ قرن ونيف على الأكثر، حيث حاولت مؤسسات الدولة في النظم الحديثة تعويض هذه المؤسسة العريقة، حيث افتكت الفرد من أسرته ليتحول إلى ابن للدولة أكثر منه أبنا لوالديه، ومع النشاط الحداثي الذي لا يمل استبعاد كل قديم من الحياة، بحجة أن كل قديم فاقد للصلاحية، ومن هذا القديم نظام الأسرة التقليدي، الذي قررت “جماعة فرانكفورت” التخلص منه. وجماعة فرانكفورت كما هو معروف مجموعة يسارية معروفة في العلوم الإنسانية نشات في ألمانيا وانتعشت بعد الحرب العالمية الثانية.

وبررت جماعة فرانكفورت دعوتها إلى التخلص من نظام الأسرة، بأنه نظام قديم، بطبيعته التقليدية يعرقل مسيرة التيار اليساري الثوري، الذي يعمل على محو الطبقات والمسؤوليات خارج مؤسسات الدولة، وما دام يوجد الأب المسؤول والأم المسؤولة والأبناء الطائعين لوالديهم، لن يكون هناك عدل أو حريات… وهكذا.

وعالمنا الإسلامي ومنه الجزائر، انتقلت إليهم هذه العدوى، وحاولت النخب ولا تزال على تجسيد تلك المفاهيم، فمنهم من عمل بحسن نية على تحديث النظم المؤطرة للمجتمع، بتحجيم دور الأسرة في الكثير مما يثار حول قضاياها، كقضايا المرأة والمساواة والطفولة والحد من سلطة الرجل في البيت، وغير ذلك من أعراض المشكلة التي نتحدث عنها، المتمثلة في تحجيم والأسرة وتهميشها كمؤسسة من المؤسسات الناظمة للمجتمع، ومنهم المؤدلج الذي يعني ما يقول ويفعل، مثل الجمعيات النسوية التي ما فتئت تدعو إلى إلغاء قانون الأسرة المستمد من الشريعة الإسلامية.

وتطورت الأمور على هذا النحو إلى أن أصبحت الدول العربية والإسلامية مجبرة على تبني ما يفرضه الواقع الدولي الذي تخلص من التزامات الأسرة نهائيا وهو الآن يعمل على إنشاء صور جديدة للأسرة غير الأسرة التقليدية ومنها فكرة الزواج المثلي، واستئجار الأرحام استجابة لغريزة البنوة من غير زواج وإنما بالتلقيح الاصطناعي…إلخ.

فاليوم حكومات العالم الإسلامي تملي على شعوبها ومؤسساتها عملية “التحيين ورفع المستوى” استجابة لمقررات العالم، في كل ما يتعلق بالأسرة، لتنقل إليها الوراثة بابشع صورها.

إن الأسرة وما تحمل من قيم إنسانية نبيلة عند جميع الشعوب وفي جميع الثقافات، هي الثابت الإنساني الراقي الذي يكاد يقع عليه الإجماع، ولذلك نجد الكثير من المثقفين والقساوسة وحاخامات اليهود، يعترضون على الكثير مما يدعو إليه الغرب اليوم وتتبناه الحكومات من قضايا الأسرة.

وإلى جانب هذه الضغوط الدولية “المعرفية”، توجد نظم سياسية مهزوزة اجتماعيا وثقافيا، ساعدت المجتمع على التفكك والانهيار.

والمجتمع الذي لا يشعر بوجود مؤسسات قوية تحقق له ضمانات اجتماعية تمكنه من التغلب على مصاعب الحياة، لا يسعه إلا الانتقام من هذا الواقع بتضخيم أناه على على حسان محيطه الذي يبدأ من الأسرة والجيران ثم الأبعد فالأبعد، ليساهم في تفكيك المجتمع، باصطناع الأزمات والتفنن فيها.

لا شك أن العالم سائر في طريق القضاء على بقايا الأسرة التقليدية بما يطلع به بين الحين والآخر من بدع منكرة في حق الإنسانية، ولكن في عالمنا الإسلامي، لا تزال الكثير من الخيوط اللعبة بأيد النخب الفاعلة، من سياسيين وإعلاميين وأئمة وعلماء اجتماع وعلماء نفس…إلخ.

ولعل أهم ما يمكن التركيز عليه هو العمل على إنشاء مؤسسات جديدة خاصة بمعالجة قضايا الأسرة، وفق منطق الأسرة وقضاياها، وليس بمنطق القضاء والشؤون الإجتماعية؛ لأن الأسرة تتميز بطابع خاص مختلف تماما عن علاقات أفراد المجتمع فيما بين بعضهم البعض؛ لأن العلاقات الاجتماعية تعاقدية، بينما العلاقات الأسرية علاقات تراحمية.

فمن يتتبع نصوص القرآن الكريم المتعلقة بالأسرة، يجدها تتكلم عن طبيعة هذا النظام ونشأته ومعالجة خلافاته بطريقة تختلف عن معاجة غيرها من الخلافات التي تقع فيها التكتلات والتنظيمات البشرية الأخرى.

“ففي العلاقة بين الزوجين قال الله تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم 21]، وأطلق على عقد الزواج مصطلح الميثاق الغليظ وليس أي ميثاق (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء 21]، وعند الخلاف بين الزوجين قال (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء 35]، ولم يقل إذهبوا إلى القضاء والمحاكم، وفي حالة الطلاق (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، [البقرة 229] وقال أيضا محذرا من سلبيات تعدد الزوجات (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ۖ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء 129] وعند استحالة استمرار الحياة الزوجية (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة 237]، وفي علاقة الأبناء بوالديهم (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء 23 – 24]، وعند اختلاف الدين بين الوالدين وأبنائهم قال تعالى (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) [لقمان 15]، وقال في الميراث (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) [النساء 7]، ثم تكلم بعد ذلك عن هذه الأنصبة لذوي الحقوق من الورثة بالتفصيل، وكأني بالميراث هو المسألة المادية الوحيدة التي بين أفراد الأسرة، فلم يترك الله التفصيل فيها للناس حتى لا تعكر عليهم صفو العلاقات الودية والتراحمية البريئة.

ففي جميع هذه الإشارات القرآنية، لا يوجد ما يوحي بالاهتمام إلا بالجانب العاطفي ومراعاة العلاقات التراحمية الموجودة أصلا في أفراد الأسرة الواحدة، وذلك بتوظيف ما جبل عليه الإنسان من قيم، بعيدا عن الحقوق والواجبات المادية، وإذا ذكرت المادة فإنما تذكر كمسألة تابعة وليس كأصل منفصل عن غيره من القيم الأرفع والأنفع للإنسان” [فلسفة الإنتماء وأثره في إنتاج القيم، لكاتب المقال]، ولم يكن هذا التتبع والتفصيل في القرآن الكريم إلا للأسرة، وكأن الله أراد حصر كل ما يتعلق بالأسرة من النشأة ومرورا بما تنتج من واقع لم يكن في مسائل محدودة ذكرها، مما يوحي بعدم وجود صورة أخرى قد يتوهمها الإنسان في التاريخ، مثلما تدعي مدرسة فراكفورة التي ترى أن الصورة المتوارثة للأسرة وهي الأسرة التقليدية، لا تمثل الصورة النهائية، وإنما يمكن تغييرها وتحويرها؛ لأن صورتها الحالية تكرس التسلط الأبوي والرجولي ومفاهيم الاستعباد والطاعة، وهي قيم مضادة لحرية الإنسان وقيم الحداثة، ومن ثم راحوا يبحثون عن بديل للأسرة التقليدية.

ولذلك أرى من الضروري أن تُنْشَأ مؤسسات خاصة بالأسرة، واعتمادات خاصة بالتدريب والتكوين للشباب ما قبل الزواج، ومؤسسات الصلح من غير لجوء للقضاء إلا في الحالات الاستثنائية جدا؛ لأن ما للأسرة والعلاقات بين أفرادها من خصوصيات، تضفي نوعا من الأمهية الخاصة والقداسة على تلك العلاقات ما ليس لغيرها من الناس… ولعل عبارة “لو تنسوا الفضل بينكم” التي نص عليها القرآن لمن استحالت العلاقة بينهم فاضطروا للطلاق، أدق تعبير عن طبيعة العلاقات الأسرية حساسيتها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • بن بولعيد

    اولا وقبل كل شيء يجب توفر وايجاد الرجال والمسؤولين والوزراء ذوي النوايا الحسنة والطيبة والنقية والطاهرة والشريفة .

  • Tayeb

    (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)