-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أقواس

من الخوف على التراث إلى الخوف منه

أمين الزاوي
  • 5812
  • 9
من الخوف على التراث إلى الخوف منه

الحنين إلى الماضي قضية إنسانية، والنظر إلى الخلف جزء من النظر إلى الأمام، امتداد طبيعي للنظر إلى الأمام.

  • أعتقد أن لا وجود لنظر إلى الأمام في قطيعة بَتْريَّة ومطلقة مع الماضي.
  • الإنسان يعيش في تواصل مستمر ما بين ثلاثة أزمنة ذاكراتية: الماضي والحاضر والمستقبل، ولعل أقصر اللحظات الواقعية والعابرة التي يعيشها الإنسان هي لحظة الحاضر، فنحن في نهاية الأمر نعيش إما في الماضي أو في المستقبل.
  • والحاضر لحظة عابرة وقصيرة وغير مفكر فيها أساسا. في حياة الفرد الحاضر هو أكثر الأزمنة غيابا.
  • إننا نفكر في المستقبل بالماضي، ونفكر في الهروب أو احتضان أو تغيير الماضي بالمستقبل.
  • وإننا لا نفكر في الزمن إلا مملوءا بالثقافة والدين والأسطورة واللغة. بل إن الزمن بمفهومه المجرد لا وجود له.
  • ولأن الزمن هو الوجود الجمعي والفردي الذي كان أو الوجود الموجود أو الوجود المحلوم فإن شقاء الإنسان هو في حواره مع هذا الوجود المتعدد وفي هذا الحوار يتشكل الوعي الشقي.
  • إننا نحمل التراث أو نسحبه كما نسحب ظلنا، لكن العلاقة مع هذا التراث تختلف من أمة إلى أخرى، ومن فرد إلى آخر، ويمكن تشبيه هذا الاختلاف بظلال أشخاص في فترات مختلفة من النهار، فهناك من يرى ظله كاملا، وهناك من يراه منتصبا جهة الغرب وهناك من يراه مصلوبا جهة الشرق وهناك من يراه عند ساعة الظهيرة وهناك من يراه عند المساء أو لحظة الغروب أو الشروق.. وفي كل زمن وحسب تواجدنا أمام الشمس يتشكل الظل بشكل مختلف
  • كيف رأى العرب زمنهم المملوء بتراثهم؟
  • الخوف على التراث:
  • لم يكن الإحساس بالخوف على التراث مرتبطا بفترة تاريخية معينة، وإن كان هذا الخوف يتغير حسب تغير المحيط والعنصر الذي ينتج هذا الخوف.
  • في البدء كانت الثقافة العربية مؤسسة على الشفوي،  مع أن الكتابي لم يكن فيها معدوما، بل إنه كان هامشيا أو نخبويا. وفي هذا العهد كانت شخصية “الراوية” شخصية مركزية في تاريخ المعرفة وكانت القبائل تفتخر إذ يولد فيها شاعر أو فارس أو راوية، ولعلنا حتى الآن لم ندرس بعد الدور الذي لعبه الراوية في مسار تاريخ الثقافة العربية.
  • مع تعقد الثقافة العربية وتقاطعها بالتراثات واللغات الأخرى عن طريق تطور وتطوير التجارة وانتقال الحس الحضاري ولو بشكل جزئي من فضاء صحراوي إلى فضاء بحري، أي وصول هذه الثقافة إلى الشاطئ ببلاد الشام والأناضول، أي انفتاحها على أمواج ثقافية جديدة، إذ مع تغير مفهوم الجغرافيا تغيرت مفاهيم الذات والآخر، بدأ التفكير في وسيلة أكثر ضمانا للحفظ والتخزين الثقافيين، فكانت الكتابة، كان التدوين. وكان الخوف أيضا. خوف جديد.
  • كان التدوين بدافع الخوف من فقدان الذاكرة الجماعية، ذاكرة القبيلة والفرد، ولقد اتخذ الخوف أشكالا مختلفة: ذاتية، قبلية ودينية.
  • هذا الخوف من ضياع الأنا والنحن ببعدها الديني والدنيوي جعل التدوين يأخذ طابعا شموليا.
  •  
  • 1- التاريخ: عقلية الأنساب وعطب الدولة المدنية:
  • اهتم العرب كثيرا بمسألة الأنساب في تراثهم، حتى تشكلت لدينا طبقة من المؤرخين عرفت باسم “النسابة” وقد صُنِّفوا تصنيفا دقيقا، فظهرت لدينا طبقات من النسابة كما طبقات الشعراء وطبقات المحدثين وطبقات النحاة، وهذا الاهتمام الدقيق حد الهوس بالأنساب أنتج لدينا على المستوى المعرفي تاريخا بشريا سلاليا لمنطقة الجزيرة والعراق واليمن وبلاد الشام والمغرب الإسلامي.
  • دون شك لقد سمح لنا هذا التأريخ السلالي بمعرفة تطور تاريخ العمران البشري في هذه المناطق.
  • ونظرا للحرص المبالغ فيه على هذا التاريخ السلالي، حرصٌُ يسكنه ويحركه الخوف على ضياع النسب والقبيلة وما يتبع ذلك من ثقافة الإعلاء لهذه القبيلة والحط من تلك الأخرى، ونتجت على هوامش هذا التاريخ السلالي ثقافة عمقته.
  • وكان الشعر بوصفه الثقافة العربية الأكثر تأثيرا والأكثر رواجا حارسا من حراس هذا التاريخ السلالي من خلال “فن النقائض” بما في هذا الشعر من فنون أساليب الذم والمدح والقدح والكذب والتهويل والتفخيم.
  • هذا الحس السلالي الطائفي الذي أكدته ثقافة الشعر، وهي أقوى الثقافات وصاغته في شكل فخر وجمال لا يزال العالم العربي يعيشه حتى يومنا هذا.
  • إن العقل العربي لم يتخلص بعد من هيمنة ثقافة الفكر السلالي القبلي التي كرسها، في البدء، الخوف على ضياع الهوية، وهو ما لم يسمح له، أي للعقل، بالولوج إلى زمن النظم المدنية الجديدة.
  • وهذا العقل الخاضع تحت هيمنة الفكر المعرفي السلالي لم يسمح، حتى الآن، بتأسيس مجتمع مدني معاصر في كل العالم العربي.
  • ولعل الأحداث التي يعرفها هذا العالم العربي اليوم وهو يدخل الألفية الثالثة كشفت لنا سقوط أوهام الدولة المدنية وانهيار الخطابات السياسية والفكرية والاجتماعية التي شُيِّدت من حولها، وعدنا للحديث عن الدولة القبيلة والسلالة (أبناء فلان وفلان).
  •  وأصبحنا نخوض حرب داحس والغبراء بأسلحة عنقودية وطائرات الميراج وصواريخ الغراد، وسقط الخطاب المعاصر أمام خطاب الحمية والنعرة والسيف والمبارزة. لنقرأ جيدا وفلسفيا رمزية أحداث ليبيا واليمن وسوريا ومصر (حالة قبائل سيناء ومعركة الجمل في ميدان التحرير) لندرك الظل السلالي القبلي على الواقع السياسي والاجتماعي.
  • فبقدر ما كان الإنسان العربي يخاف على نسبه وقبيلته في مرحلة تاريخية معينة فإننا نخاف اليوم من هذا الذي كرسناه في عقلنا وسلوكنا جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، وهو ما لم نستطع التنازل عنه ولا يزال يلاحقنا ويعيش في وعينا ولا وعينا، وبالتالي يقطع علينا الطريق في اتجاه تأسيس مجتمع مدني ودولة مدنية.
  •  
  • 2- العرب واللغة: الخوف المقدس
  • مع أن اللغة العربية زمنيا وتاريخيا سابقة عن الإسلام، أي أنها لغة جاهلية في بنيتها وذاكرتها الأولية، إلا أن رؤية العرب للغتهم لا تخرج عن ربطها بالدين والتقديس.
  • وقد بدأ العرب بجمع لغتهم خوفا على ضياعها، وقد حققوا في ذلك عملا جبارا واستطاعوا أن يقعدوا اللغة العربية في ظرف قياسي، وقد أضاف نزول القرآن الكريم بها كثيرا من الخوف عليها، وهو ما عزز وحمّس ثقافة جمع اللغة، كل اللغة، ولكن هذا الجمع على أهميته لم يخل من نعرات تكريس سلطة قبيلة على أخرى من خلال تغليب لهجة هذه القبيلة على تلك.
  • أنا هنا لا أريد العودة إلى ما قيل وما كتب في باب جمع اللغة العربية فهناك كتب بالآلاف تناولت هذا الأمر، ولكني أريد أن أقرأ ظلال هذه الظاهرة كما تبدو اليوم في واقعنا اللغوي المعاصر، فالخوف الذي رافق جمع اللغة العربية في بعده الديني والقبلي السلالي لا يزال حاضرا حتى الآن.
  • لقد أصبح الخوف المرضي على اللغة العربية عقبة في وجه تطورها، فكلما جاء الحديث عن فكرة تطوير اللغة العربية ينزلق الخطاب من فضائه العلمي ليتموقع في الخطاب التقديسي المتلبس بالدين.
  •  فالعبرية التي يقال إن الله كلم بها موسى عليه السلام عرفت تطورا مذهلا، مع أنها أكثر اللغات حسا لاهوتيا، وهي الآن تستعير من اللغات الأجنبية ومن العربية نفسها دون عقدة ودون الخلط ما بين البعد الديني لهذه اللغة وبعدها أو طموح ذويها في تطويعها وتطويرها.
  • بقدر ما كان خوف الأولين على العربية إيجابيا إذ جمعوها ورتبوها لزمنهم المعرفي والأيديولوجي فبالمقابل يمارس العرب المعاصرون أو الذين من المفروض أن يكونوا معاصرين بحكم انتمائهم إلى زمن جديد علميا وتكنولوجيا يمارسون خوفا سلبيا تجاه لغتهم وبالتالي يمارسون اغتيالها من حيث أنهم يعتقدون أنهم يجبونها.
  •  
  • 3- هل قتل العرب شعرهم بحبهم له؟
  • “و  من الحب  ما قتل”،
  • يعتقد العرب أنهم أمة الشعر، ويؤمنون أن لا أمة على وجه البسيطة لها شعر في مستوى شعرهم، هذه القناعة الإيمانية غير المؤسسة جعلتهم يعيشون حالة من الخوف على ضياع هذا الموروث، ما في ذلك شك فهناك تراث شعري عربي مهم ومتميز، ولا أحد ينكر الخصوصية الشعرية عند العرب، شأنهم في ذلك شأن التراثات الشعرية الإنسانية الأخرى، كشعر الفرس والهند واليونان والصين.
  •  إن الخوف على ضياع الشعر القديم جعل العرب يبذلون مجهودا معرفيا جبارا في الحفاظ عليه، وهذا الخوف من الضياع هو الذي جعلهم يصنعون لكل شاعر راوية أو أكثر.
  •  لقد وصل بالعرب في تقديسهم لمرتبة لشعر أن كانوا، كما يقول القدامى، يقرؤونه على موتاهم، ولعل عقلية التقديس هذه هي التي جعلت من العرب أمة تخاف على شعريتها ولم تدخلها في حوار مع الشعريات الأخرى حتى الحرب العالمية الثانية، (تجربة نازك الملائكة والسياب والبياتي وأدونيس وخليل حاوي وآخرين).
  •  إن الخوف على الشعر العربي جعل العرب يعيشون شعريا حالة من الانفصال الثقافي عن ثقافات الأمم الأخرى، ولم يشعروا أبدا بهذه العزلة، لأنهم ظلوا لقرون ولا يزالون يعيشون نوعا من حالة أسميها: وهم الاكتفاء الشعري.
  • ولعل هذا الوهم، وهم الاكتفاء الشعري المخلوط بالخوف الناتج عن كون الشعر شاهدا من شواهد الصحيح في لغتهم إلى جانب القرآن الكريم، فالتقديس الذي يساوي الصحيح يلتقي في تقييمه والحكم عليه كل من الشعر والقرآن عند العرب، وهذه التاريخية التقديسية هي التي ضخمت الذات الشعرية العربية وحاصرتها في الوقت نفسه.
  • هذا الشعور الواهم والموهوم بالاكتفاء الذاتي في الشعر الذي لخصه القدامى في المقولة الخطيرة المعروفة والمتداولة والمتوارثة دون تمحيص والقائلة: “الشعر ديوان العرب”، هو الذي جعل العرب لا يترجمون الشعر اليوناني واكتفوا بترجمة العلوم والفلسفة فقط.
  • فحب العرب لشعرهم والخوف عليه لأنه شاهد على “الصحيح” وحامل “ثقافة السلالة” جعلهم يقطعونه عن كل علاقة مع الشعرية اليونانية، وبالتالي لم ينتج العرب ملاحم شعرية كما هو حال الفرس والهنود. أنتجوها لاحقا باللغات العامية.
  • جاء عند ابن النديم صاحب الفهرست، أن خليفة المؤمنين المأمون رأى مناما، ولم تكن هذه الرؤية أو الحلم  منسجما مع ما درج عليه الخلفاء في أحلامهم، إذ كان أغلب أحلامهم تتلخص في رؤية الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المنام، إلا أن المأمون شذ عن ذلك، فكان حلمه غريبا وجديدا، لقد رأى الخليفة في المنام شخصية بلحية بيضاء وعينين زرقاوين ووجه عليه علامة السكينة، وقد عرفه وإذا هو الفيلسوف أرسطو. وفور رؤية هذا الحلم أمر الخليفة، على الفور، بإرسال بعثة إلى بيزنطة لاقتناء المخطوطات العلمية والفلسفية اليونانية بغية ترجمتها إلى العربية للاستفادة منها.
  • وإذا كان خليفة المؤمنين المأمون وهو صاحب بيت الحكمة قد وصل به انشغاله بالثقافة اليونانية أن رأى في الحلم رمزا من رموزها “أرسطو”، إلا أن خوفه على الشعر العربي وانسياقه في فكرة “وهم الاكتفاء الشعري” جعل تأثير اليونان ضعيفا لا يكاد يذكر على الشعرية العربية.
  •  لذا سنجد الثقافة الشعرية العربية على الرغم من هذا الحلم خالية من فني الدراما والملهاة. تلك ضريبة العاشق القاتل.
  • ومن الحب ما قتل.
  •  
  • الحلقة القادمة:
  • 4- التراث العربي الإسلامي خوفنا عليه وخوف الآخر منه
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • بدون اسم

    من الاحسن ان تتوجه للنقد الكروي قربما تجد زاوي سمير سندا لك

  • Akli

    الدكتور أمين الزّاوي روح متّقدة وثّابة و عقل متنوّرٌ وهّاج، يتألّم لما آلت إليه هذه الأمة من ركود و انطفاء و يتوجّع من دائها الحضاري. فهذا الرّجل العامل الصادق يقضي حياته مكافحا مجاهدا، يحاول علاج جراحنا وإزالة مخاوفنا و يشحذ هِمَمَنَا و يدعونا إلى المٌضِيِّ قُدُماً بشجاعة، و النَّطر إلى المستقبل لأنَّ ذلك هو السبيل الوحيد للحفاط على كنوز الماضي . فحبّذا الرَّجُل وحبذا ما يكتبه. اللّهم وفقه في جهاده و أكثر من أمثاله في الجزائر، يا رب.

  • باي

    الى صاحب التعليقين -5 و-6 وكأنك محنك في قرأة اللغة العربية حتى استوعبت مابين سطور المقال والتعليقات ,فهل ابهرتنا بكتابة تعليقك بالعربية بدل......او العربية ناقصة في الكتابة ايظا على رأي امين الزاوي (الشروق زودتك لوحة مفاتيح عربيarab keyboard

  • Aboug

    je n'arrive pas à comprendre pourquoi nos commentateur qui ne partagent pas l'avis du Docteur Amine Zaoui se dérige vers sa personne avec ironie et violence. nous dit on pas que la violence est le dernier refuge des ignorants. Merci au docteur Amine zaoui pour son courage.

  • Aboug

    Messieurs, à mon avis, il est temps d'avoir le courage de remettre en questions toutes nos soit disant les valeurs que nous prônons. regardons nous , nous faisons que consommer comme si la créativité est l'affaire des autres. oh je m'excuse, seul dieu est créateur. Grand Merçi au docteur Amine Zaoui pour son courage.

  • sam

    توالم !!

  • الطاهر

    - مرة تريد ان تضيف احرف للغة العربية واتهمتها وانتى في الصف الاول الابتدائي بأنها عاجزة عن نطق كلمة peugeot رغم انها تحوي على احرف تعجز كل اللغات عن نطقها(خاصة الفرنسية.....) ض,ح,ه,خ,غ,ق,ث,ذ,ظ,ع
    -والان تتهم اهلها الجزائرين بأنهم منغلقون على تراثهم الشعري (و كأن العربية لم تبدع الى في الشعر ......او تريد ان تقول شئ اخر يالزوي).
    - وما هو القادم يا سي الزاوي ... التراث الاسلامي .... وتراث الثورة الجزائرية ....
    التراث الامازيغي...... تنشري ياشروق

  • ناصح

    ـ أرجو من الأستاذ أن يحاول الكتابة من إبداعه، ولا يترجم فكر المستشرقين موهما أنه من إنشائه.
    ـ فهمت كذلك أن هذا الموضوع داعم للموضوع السابق، فبئس الداعم والمدعوم.

  • محمد الجزائري

    المتطرف المنغلق المتعصب المتحجر ...الخ أحد رجلين:
    1 - من يعيش في الماضي ولا يريد الخروج منه الى واقعه البائس.
    2 - من حاول أن يعيش زمن غالبه بماضيه وحاضره ومستقبله... ورحم الله ابن خلدون القائل: المغلوب مولع بتقليد الغالب.
    إنك يا دكتور الزاوي مثل الجموع الكثيرة التي تاهت بين " مشية " الغراب والحجلة، فأنت بلا لون، تحاول أن تكون غيرك رغم التاريخ والجغرافيا والفيزياء.