-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
قصة قصيدة

نحو ميلاد سياسة ثقافة في الجزائر

عمر أزراج
  • 2753
  • 1
نحو ميلاد سياسة ثقافة في الجزائر

بعد انتهاء عمل اللجنة الفرعية لإعادة صياغة الميثاق الوطني دعيت مرة أخرى للمساهمة في إنجاز مشروع ملف السياسة الثقافية وكان ذلك أيضا برئاسة السيد عبد الحميد مهري. كنت أتساءل مع نفسي كيف يمكن لمجموعة صغيرة أن تنوب عن جميع الحساسيات الثقافية في البلاد بما في ذلك الأسرة التربوية عبر الوطن بكامله.

  • صحيح بأن ملف السياسة الثقافية قد شاركت فيه قواعد المناضلين لحزب جبهة التحرير الوطني في القسمات بالدوائر والمحافظات. غير أن الملاحظ هنا هو أن الحزب هو الذي كان يهيمن على الطرح الثقافي. لا شك أيضا أن المكلفين بالشأن الثقافي قي المنظمات الجماهيرية والاتحادات المهنية والفنية قد شاركت بدورها في عملية إعداد مشروع الملف المذكور، ولكنها كانت هي أيضا جزءا من الحزب ذاته الذي يشرف عليها تنظيميا وسياسيا. وهكذا كان الطابع الحزبي في المناقشات سيد الموقف. كما أن الخطوط العريضة لمبادئ حزب جبهة التحرير الوطني كانت هي الحكم والبوصلة.
  • في تلك المرحلة الزمنية قام الدكتور محمد العربي ولد خليفة كاتب الدولة للثقافة والفنون الشعبية بعدد كبير من الندوات الميدانية بإشراك شتى القطاعات الثقافية في المدن الكبرى، والتقى وجها لوجه مع شغيلة الثقافة والفن ودارت مناقشات كثيرة بغية إيجاد صيغة جديدة لتحقيق ما كان يسميه بالإقلاع الثقافي. في هذه المناقشات برزت المشكلات المادية والتقنية والأدبية التي كانت تعرقل المشروع الوطني في مجالات الفكر والثقافة والفنون، كما غلبت على هذه المناقشات النزعة النخبوية والاقتصار على منتجي ومسيري الشأن الثقافي، حيث لم تشرك الوزارات الأساسية المعنية بالثقافة والفكر والتربية، وخاصة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة التربية والتعليم. من المتعارف عليه دوليا أن صناع الإنتاج الثقافي الفكري والفني والعلمي ليسوا هم الكتاب والأدباء والفنانين بمختلف مشاربهم فقط. فالمنظومة التعليمية بكل أنواعها تمثل بدون شك المصنع الحقيقي لبناء الرأسمال الثقافي بما في ذلك الثقافة المهنية التي هي جزء من البنية الثقافية العضوية نظريا  وممارسة.
  • في الوقت الذي كانت المناقشات ساخنة حول المشروع الثقافي المنشود، طرحت مشكلة جوهرية وهي مشكلة الرقابة السياسية والأمنية التي تمارس على الإنتاج الثقافي بكل تنوعاته وأهله. ففي إحدى الجلسات التي ترأسها الدكتور ولد خليفة بمقر الإذاعة والتلفزة الجزائرية تحدثت أغلبية الحاضرين عن مشكلة استخدام مقص الرقابة؛         ولكن الروائي الطاهر وطار سبق الجميع وقال بالحرف الواحد بأنه لا توجد الرقابة في الجزائر، ولكن المنتجين في حقل الثقافة بشكل عام هم الذين يراقبون أنفسهم بأنفسهم. إن موقف وطار مسجل في الكتاب الذي ضم أشغال هذه الندوات التي انعقدت بإشراف الدكتور محمد العربي ولد خليفة. قد كان أمرا مستغربا أن يقول ذلك الطاهر وطار، لأن الواقع الحقيقي يشهد بوجود الرقابة في مختلف المؤسسات الثقافية والإعلامية  والفنية في ذلك الوقت بالذات.
  • وهنا أقدم مثالا واحدا من بين الأمثلة الكثيرة الأخرى: في الفترة ذاتها قامت الأمانة التنفيذية للإتحاد بسلسلة من الندوات حول موضوع “إعادة كتابة تاريخ الثورة الجزائرية”، حيث بدأناها بمحاضرة للسيد لخضر بن طوبال، أحد قادة حركة التحرر الوطني وعضو جماعة 22 التي فجرت الثورة التحريرية، وشاركت في مؤتمر الصومام التاريخي، وذلك في قاعة الموقار بالعاصمة. مرت ندوة بن طوبال بسلام رغم الشجاعة النقدية التي تحلى بها هذا الرجل، وبعدها مباشرة زرته في بيته، وأجريت معه حديثا مطولا ونشرته على صفحات مجلة المجاهد الأسبوعي، ثم نظمنا ندوة للسيد علي محساس وهو معروف أيضا كقائد من قادة الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، ولم تثر ندوته كذلك الزوابع، وبالتالي لم تكن لها توابع. واصلنا العمل وعقدنا ندوة أخرى في مدينة البويرة وحضرها عدد من المؤرخين وبعض الأسماء القيادية في الدولة الجزائرية منهم السيد توفيق المدني السفير والمؤرخ المعروف والكاتب والإعلامي، والناقد التاريخي “الطاهر بن عيشة”، والدكتور العربي زبيري بصفته أمينا عاما لاتحاد الكتاب الجزائريين، وأستاذ التاريخ الحديث والمعاصر وغيرها من الأسماء التي طواها النسيان وتبخرت من ذاكرتي.
  • إلى جانب هؤلاء، حضر في تلك الندوة عدد من الصحفيين العاملين في وسائل الإعلام الجزائرية. كانت إقامتنا في مصيف تيكجدة، وأذكر عدم رضا توفيق المدني بسبب ضيق غرفته، علما أنها لم تكن تختلف عن الغرف الأخرى التي نزلنا فيها. لكي أخفف من الوطأة، قلت له مازحا بأنه من عادة بلادنا أن تضع السمك الكبير في الحوض الصغير. ابتسم توفيق المدني، ثم أشار إلى الجبال المحيطة التي تتخللها الأشجار الباسقة وتردد فيها الطيور أغانيها، وكأن الحال عرس قدمته لنا الطبيعة على طبق. قي اليوم التالي تم افتتاح الندوة بحضور ما كان يسمى بمجلس التنسيق الولائي  وألقيت الكلمات الافتتاحية السريعة ذات الطابع الترحيبي. عندما بدأت أشغال الندوة، قدم الدكتور الزبيري مداخلة أشار فيها أن البحث التاريخي الموضوعي قد قاده إلى ملاحظة حصول التزييف في بعض وثائق الثورة التحريرية المعتمدة رسميا ودعا إلى تصحيحها.
  • بعد هذه المداخلة، توالت مداخلات أخرى وتفجر النقاش الشجاع الذي مس بوضوح بعض الممارسات السلبية التي قام بها بعض مسؤولي وقادة الثورة على أيام حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار الفرنسي. في اليوم التالي جاء الأمر من الأمانة الدائمة للجنة المركزية للحزب الحاكم ومن جهات أمنية بإغلاق الندوة، مثلما أمرت هذه الجهات الصحف بعدم نشر أي شيء حولها. لقد دهشنا لهذا التصرف المعادي للنقاش الموضوعي ولحرية التعبير وعدنا إلى العاصمة مخيبين. ونحن في الطريق رحنا نفجر النكت، وقال أحد الصحفيين بأن الكتابة الحقيقية للتاريخ الوطني سوف تكتب في الجنة فقط. عندما دخلنا بوابة العاصمة، التفت إلى السيد توفيق المدني وقلت له ها نحن أعدناك أيها السمك الكبير إلى الحوض الكبير. ضحك الرجل المسن، ثم واصلت السيارة التي تنقلنا زحفها عبر جسر وادي الحراش النتن دائما وأقفلنا أنوفنا بعد ما أقفلت أفواهنا في مدينة البويرة.
    أضف تعليقك

    جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

    لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
    التعليقات
    1
    • العيـد

      ألخير آ الدّا عمر...أعتقد، ولعلّ الكثيرين يعتقدون معي، أن التاريـخ الحقيقي لجزائر الثورة لن يُكتب إلى أن يرث الله الأرض وماعليها...وكيف نكتبُ التاريخ ومن كان واجبهم فعل ذلك أصبحوا في خريف أعمارهم يهذون فازداد الخلطة اختلاطًا والكبّة تعقّدًا، ودونك هذه الكبّة يا من تملك أن تسلّ الخيط الأبيض من الأسود من الرمادي مما لا أعرفه من ألون....