الرأي

نداء إلى أعضاء أكاديمية العلوم والتكنولوجيا

لا شك أن الكثير من القراء على دراية بإنشاء هيئة في‮ ‬الجزائر سميت بـ”أكاديمية العلوم والتكنولوجيا‮” ‬على‮ ‬غرار ما هو موجود في‮ ‬البلدان المتقدمة،‮ ‬وحتى عند بعض الجيران،‮ ‬وإلى حد الآن لم‮ ‬يتم‮ “‬تدشين‮” ‬هذه الأكاديمية رسميا،‮ ‬ولم تعقد أي‮ ‬اجتماع،‮ ‬ولم‮ ‬يلتق أعضاؤها بعد،‮ ‬وذلك بسبب تكرار تأجيل الجلسة الافتتاحية‮ (‬جلسة التدشين‮) ‬لأسباب مجهولة بل واهية،‮ ‬وقد تم إعلام الأعضاء قبل بضعة أيام بأن هذه الجلسة ستكون‮ ‬يوم‮ ‬14‮ ‬نوفمبر،‮ ‬نتمنى ألا تؤجل الجلسة مرة أخرى‮.‬

لعل القارئ لا‮ ‬يعلم أن فكرة إنشاء هذه الأكاديمية كانت طرحت منذ سنوات،‮ ‬وعمل بعض الأفراد على تجسيد مشروعها خلال مدة طويلة لغاية في‮ ‬نفس‮ ‬يعقوب،‮ ‬ونظرا لإشكاليات‮ ‬يُستحسن عدم تفصيلها في‮ ‬هذا المقام،‮ ‬ولنوايا بعضهم الغامضة،‮ ‬ولنيّة البعض الآخر في‮ ‬التسلق إلى أعلى المناصب‮ -‬كما‮ ‬يفعل الغاوون في‮ ‬المجال السياسي‮- ‬تعثر المشروع،‮ ‬ثم انطلق مجددا بقدرة قادر‮. ‬

قرر المسؤولون نشر إعلان في‮ ‬الأوساط الجامعية مطلع‮ ‬2015‮ ‬يدعون فيه إلى الترشح لعضوية الأكاديمية،‮ ‬وبالفعل،‮ ‬ترشح المئات من الزملاء عبر الوطن وخارجه،‮ ‬وتفاديًا للقيل والقال،‮ ‬قرر القائمون على المشروع أن‮ ‬يتم اختيار الأعضاء من قبل أعضاء في‮ ‬أكاديميات‮ ‬غربية‮ (‬فرنسا،‮ ‬بصفة خاصة‮)‬،‮ ‬وكذلك كان الحال في‮ ‬شهر ماي‮ ‬الفارط،‮ ‬حيث تم اختيار‮ ‬46‮ ‬عضوا في‮ ‬هذه الدورة،‮ ‬منهم عدد من علمائنا العاملين في‮ ‬الخارج‮… ‬على أن‮ ‬يتم مستقبلا‮ -‬مرة في‮ ‬كل سنة‮- ‬ضم أعضاء آخرين إلى أن‮ ‬يصل النصاب إلى‮ ‬200‮ ‬عضو،‮ ‬وهو أقصى ما‮ ‬يمكن أن تتسع له الأكاديمية حسب قوانينها‮.‬

لكن نتيجة التحكيم الأجنبي‮ ‬لم تُرضِ‮ ‬الكثيرين من أساتذة الجامعات المترشحين الذين رأوا في‮ ‬أنفسهم كفاءة تفوق كفاءة من تمّ‮ ‬انتخابهم،‮ ‬وثارت ثائرتهم ووجهوا رسائل التنديد والحزن لبعض المسؤولين،‮ ‬منها المضحك‮ (‬لتفاهته‮) ‬ومنها المبكي‮ (‬لصدوره ممن‮ ‬يرى أن له باعاً‮ ‬في‮ ‬العلم‮). ‬ومن جهة أخرى،‮ ‬كانت هناك فئة ثانية ترفّعت عن الترشح منذ البداية لكونها رأت في‮ ‬طريقة الترشيح أسلوبا‮ ‬غير متعارف عليه في‮ ‬اختيار هيئة أكاديمية من هذا القبيل،‮ ‬كما أن هناك فئة ثالثة أدانت أصلا إنشاء أكاديمية في‮ ‬الجزائر،‮ ‬وتحجج أصحابها بأن في‮ ‬الجزائر اليوم ليس ثمة من العلماء من‮ ‬يستحق هذا المنصب‮ (‬عضو أكاديمية علوم بالمفهوم الغربي‮)‬،‮ ‬ومن الفئات المناوئة الأخرى للمشروع،‮ ‬فئة رابعة ترى هذا المشروع عند الاطلاع على تفاصيل قوانينه،‮ ‬أنه سيكون أشبه بالبرلمان،‮ ‬وأن المنتخَبين سيكون همّهم الأول مطابقا لهمّ‮ ‬البرلمانيين عندنا‮: ‬أي‮ ‬أن المصلحة العلمية للبلاد ليست في‮ ‬المقام الأول،‮ ‬وإنما المصالح الذاتية،‮ ‬لاسيما المادية منها،‮ ‬هي‮ ‬دافعهم الأساسي‮.‬

‭ ‬نحن لا نناقش اليوم كل هذه الآراء بل نفضل أن نتساءل‮: ‬ما الفائدة الآن من ترديد هذا الكلام الناقد،‮ ‬سواء كان صائبًا أو مغرضًا بعد أن تم إنشاء الأكاديمية،‮ ‬وتم انتخاب أعضائها،‮ ‬وهم على وشك الشروع في‮ ‬مباشرة مهامهم؟ أليس من الأفضل أن نهنئ هؤلاء جميعًا ونحثهم على العمل بجدية في‮ ‬سبيل إعلاء كلمة العلم؟ نحن مقتنعون بأن من بين المنتخَبين أناسًا جديين‮ ‬يريدون الإسهام الفعلي‮ ‬في‮ ‬ترقية العلوم في‮ ‬البلاد؛ ونعلم أيضا أن من بين الأعضاء من لا‮ ‬يشرّفه حتى أن‮ ‬يعلن في‮ ‬الغرب بأنه جزائري،‮ ‬إلخ،‮ ‬غير أننا نأمل أن تتغلب في‮ ‬أعمال الأكاديمية كفة الفئة الأولى على الفئة الثانية التي‮ ‬نأمل أن تستحي‮ ‬وتضع‮ ‬يدها في‮ ‬يد الفئة الأولى‮.‬

ويسأل سائل‮: ‬ما المنتظر من هذه الهيئة من خدماتٍ‮ ‬تقدمها للمجتمع وللبلاد؟ وهل حددت مهامها بالتفصيل؟ وهل هي‮ ‬قادرة على التأثير في‮ ‬سياسة البلاد في‮ ‬حقل العلوم والتكنولوجيا؟ بل هل هي‮ ‬قادرة على أن تكون القاطرة في‮ ‬هذا المجال؟‮…‬

‭* ‬نحن مقتنعون بأن من بين المنتخَبين أناسًا جديين‮ ‬يريدون الإسهام الفعلي‮ ‬في‮ ‬ترقية العلوم في‮ ‬البلاد؛ ونعلم أيضا أن من بين الأعضاء من لا‮ ‬يشرّفه حتى أن‮ ‬يعلن في‮ ‬الغرب بأنه جزائري،‮ ‬إلخ،‮ ‬غير أننا نأمل أن تتغلب في‮ ‬أعمال الأكاديمية كفة الفئة الأولى على الفئة الثانية التي‮ ‬نأمل أن تستحي‮ ‬وتضع‮ ‬يدها في‮ ‬يد الفئة الأولى‮. ‬

عندما ننظر إلى دور بعض الهيئات المماثلة التي‮ ‬أنشأتها سلطاتنا منذ نحو‮ ‬15‮ ‬سنة أو‮ ‬يزيد،‮ ‬فسنميل إلى الإجابة عن السؤال الأخير بـ”لا‮”‬،‮ ‬ولعل أفضل دليل على ذلك مجمع اللغة العربية الجزائري‮ ‬التابع لرئاسة الجمهورية،‮ ‬والذي‮ ‬أنشئ في‮ ‬بداية هذا القرن،‮ ‬ولم‮ ‬يقم بأي‮ ‬عمل أكاديمي‮ ‬ذي‮ ‬شأن‮ ‬يخدم المهمة التي‮ ‬أنشئ من أجلها،‮ ‬وهي‮ ‬ترقية اللغة العربية،‮ ‬فهو خال من الأعضاء الذين‮ ‬يقع على عاتقهم الإسهام في‮ ‬هذه الترقية‮… ‬إذ لا وجود لأي‮ ‬عضو في‮ ‬هذا المجمع لأن أصحاب القرار‮ ‬يرون أن لا أحد بلغ‮ ‬درجة من العلم تجعله‮ ‬يستحق الانتساب إلى هذا المجمع،‮ ‬لا من الداخل ولا من الخارج‮! ‬وإن كان الأمر كذلك،‮ ‬فلِمَ‮ ‬أنشئ المجمع،‮ ‬إذن!؟ لا مجال للإطالة في‮ ‬موضوع مجمع اللغة العربية لأنه ليس موضوعنا الآن،‮ ‬ولأن المهتمين‮ ‬يدركون أن قتل المشاريع‮ ‬يتم في‮ ‬بعض الحالات بهذه الطريقة بالذات‮.‬

وإذا ما عدنا إلى موضوعنا،‮ ‬نقول إننا لسنا هنا لننير الطريق للأكاديميين‮.. ‬فهم أوْلى بأن‮ ‬ينيروا الطريق للآخرين،‮ ‬وذاك من أوجب واجباتهم،‮ ‬وإنما نريد التأكيد على أن الجزائر ونهضتها العلمية وجامعاتها ومسألة إصلاح تعليمها بكل مستوياته في‮ ‬وضع لا تُحسد عليه،‮ ‬وأن أعضاء الأكاديمية مهما كانت قيودهم ومشاغلهم قادرون على الدفع لتغيير هذا الوضع نحو الأحسن‮: ‬

1‮ ‬‭. ‬بتوعية الرأي‮ ‬العام عبر كل الوسائل،‮ ‬وتوعية أصحاب القرار الذين لا‮ ‬يزالون‮ ‬يؤمنون بأن ترقية البلاد في‮ ‬مجال العلم‮ ‬يتم عبر تشييد مبانٍ‮ ‬ومقاعد دراسة‮.‬

2‮ ‬‭. ‬بإيجاد السبل الكفيلة بإنقاذ المنظومة التربوية في‮ ‬جميع المجالات،‮ ‬بما فيها الانفتاح على اللغات العالمية كافة لكسر القطبية الثنائية المقيتة‮ “‬معرب‮/ ‬مفرنس‮” ‬التي‮ ‬أضرت بمجتمعنا كثيرا‮.‬

3‮ ‬‭. ‬بفتح الأبواب أمام النخب العلمية في‮ ‬شتى المجالات ليكونوا القاطرة الفعلية التي‮ ‬تسهر مستقبلا على تسيير شؤون البلاد‮.‬

4‮ ‬‭. ‬باستعادة دور الجامعة حتى تكون فعلا،‮ ‬وفي‮ ‬آن واحد،‮ ‬ناشرة للعلم ومُنتِجة له‮.‬

5‮ ‬‭. ‬برسم خطة جادة،‮ ‬بعيدة عن التهريج وعن العمل الذي‮ ‬من شأنه بث الرماد في‮ ‬العيون،‮ ‬لبعث البحث العلمي‮ ‬الحقيقي‮ ‬بشقّيْه العملي‮ ‬والنظري‮.‬

6‮ ‬‭. ‬بإرغام السلطات بشتى الوسائل المتاحة على تنفيذ تلك الخطط التي‮ ‬تصبّ‮ ‬في‮ ‬ترقية البلاد في‮ ‬حقل العلوم،‮ ‬ولا ترمي‮ ‬لأي‮ ‬هدف آخر‮ ‬غير هذه الترقية‮.‬

كلّ‮ ‬ذلك‮ ‬يتطلب دراسات ميدانية ذات مصداقية عالية،‮ ‬ودراسات نظرية عميقة ومتأنية تستشرف المستقبل،‮ ‬ومقارنات دقيقة مع ما‮ ‬يجري‮ ‬من حولنا في‮ ‬شتى بلدان العالم‮. ‬كما‮ ‬يتطلب دعما من شرائح كثيرة في‮ ‬المجتمع،‮ ‬لا نشكّ‮ ‬في‮ ‬أنها ستستجيب بقوة إذا ما لمست في‮ ‬هيئة الأكاديمية الجد والإخلاص والصدق ونصيبا من نكران الذات‮.‬

يقول بعض الناقدين للأكاديمية ومشروعها إن أعضاء الأكاديميات في‮ ‬البلدان المتقدمة لا تدفع لهم لا رواتبَ‮ ‬ولا علاواتٍ‮ ‬ولا دينارًا ولا فلسًا‮.. ‬ولا بد أن‮ ‬يكون الأمر كذلك عندنا أيضا حتى‮ ‬يبتعد عن الهيئة كل من قصدها أو تشرح لها من أجل الكسب المادي،‮ ‬نحن نقول لهؤلاء النقاد من الزملاء‮: ‬إذا تمكّن أعضاء الأكاديمية من تلبية النداء أعلاه،‮ ‬ونجحوا في‮ ‬مسعاهم على مرّ‮ ‬السنين،‮ ‬فليأخذوا نصف ميزانية الدولة حلالا طيبًا‮.. ‬لأننا سنكون،‮ ‬في‮ ‬تلك الحال،‮ ‬قادرين على أن نقدّم للخزينة أضعاف ما أخذوا منها‮! ‬

مقالات ذات صلة