-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نصف سكان المعمورة بلا تغطيةٍ صحية كافية

محمد شيدخ
  • 1132
  • 0
نصف سكان المعمورة بلا تغطيةٍ صحية كافية
ح.م

احتضنت مدينة “ٲلماتي” إحدى أكبر المدن الكازاخستانية، خلال الفترة الممتدة ما بين 06 و12 سبتمبر 1978، مؤتمرا عالميا حول العلاجات الصحية الأساسية أو القاعدية، التي توجت بما يسمى في أدبيات السياسات الصحية “توصيات ٲلماتي”، وهي عشرة بنود أساسية تؤسس لضرورة اعتبار الصحة القاعدية ركيزة رئيسة لكل منظومة صحية تتوخى تحقيق النجاعة والجودة في سياستها الصحية، باعتبار هذا المفهوم نشاطا دائما موضوعا في متناول المريض أينما كان وفعلا صحيا محوريا قائما على معايير معتمدة علميا ومقبولة اجتماعيا ويتفاعل معه المريض بيسر وليونة تلبية لاحتياجاته الصحية دون أدنى قيود مالية أو اجتماعية مهما كان نوعها.

وقد اعتبر الخبراء المجتمعون في هذا المؤتمر أن الصحة هي حالة البحبوحة والرغادة الجسمية والنفسية والاجتماعية، وأنها ليست عدم وجود المرض أو العاهة فقط، وتبقى مبتغى الإنسان وتحقيق أعلى مستوى لها هو بمثابة هدف اجتماعي عظيم يستلزم مساهمة وتضافر جهود عديد القطاعات خاصة التي بوسعها التأثير في خصائص صحة الأفراد والجماعات، ما يرسم العمل الصحي بين القطاعات كضرورة لتحقيق الصحة الجيدة في المجتمع.

ثانيا، خلص المؤتمرون إلى وجوب القضاء على الفوارق الجغرافية والاجتماعية التي من شأنها خلق عدم التكافؤ في الوصول إلى مختلف العلاجات دون نسيان دور المواطن ومساهمته في كل سلسلة علاج وسياستها تحقيقا لمبدإ التشاركية في بلورة الاختيارات والأولويات التي تؤسس لكل تدخل صحي فيكون فعلا المواطن حلقة أساسية في مساره العلاجي، فهو المساهم والمستفيد، ويجدر بأصحاب القرار وضع الميكانزمات الخاصة بهذا النمط الجديد.

وعدَّد المؤتمر ثمانية أسس فعَّالة لبلورة هذا الأسلوب العلاجي القاعدي على رأسها التوعية والتثقيف الصحي بكل الأمراض ذات الانتشار الواسع ثم التغذية الصحية السليمة إلى جانب التطهير والتنظيف الشامل للمحيط، وكذلك توفير المياه الصالحة للشرب ومراقبتها دون انقطاع، وأكد الخبراء على الاهتمام بصحة الأم والطفل على الخصوص، ولم يهمل في هذا السياق وجوب التلقيح ضد بعض الأمراض المعدية وكذلك مراقبة ومحاربة الأوبئة محليا إلى جانب علاج كل الأمراض البسيطة مع توفير كامل الأدوية الضرورية.

وقد أكد المجتمعون على وجوب إقحام ودمج هذا المفهوم في كل السياسات الصحية كقيمة أساسية لتحسين صحة الأفراد، علما أن توصيات “ٲلماتي” قد استلهمت مبادئها من تجارب مستحدثة في بعض الدول الفقيرة بعد الحرب العالمية الثانية على غرار مراكز علاج الأطفال دون الخامسة في نيجيريا ومشروع الأطباء الحفاة (مزارعون صينيون تلقوا تعليما طبيا سريعا وفضلوا العمل كأطباء حفاة كما كانوا من قبل) في الصين ومنظومة الصحة الكوبية والفيتنامية.

وخلال سنة 2008، اعتبر تقرير المنظمة العالمية للصحة حول واقع الصحة في العالم العلاجات الأولية أو القاعدية حجر الزاوية لكل السياسات الصحية من خلال رفع شعار “العلاجات الأولية.. اليوم أكثر من غد” وأحصت خمسة عناصر رئيسة لتحقيق هذا المبتغى; أولا محاربة الفوارق الاجتماعية والتهميش في الوصول إلى العلاج ثم إدماج المفاهيم الصحية في كل الميادين والقطاعات مع إنشاء وتنظيم الوحدات والمؤسسات الصحية بالطريقة الأمثل لتقديم العلاجات وتوفيرها جغرافيا وتحقيق الكفاية ديمغرافيا وإرساء فضاءات للنقاشات والمساهمات الفكرية وحتى السياسية حول الصحة تنشط دوريا مع تبرير مساهمة كل المتدخلين استشعارا بوجوب التفافهم حول الصحة كهدف ذي بعد إنساني سام.

ومن هذا المنطلق تكون كل الاصلاحات في ميدان الصحة مجبرة على مراعات هذه المعادلة أو المقاربة القائمة على أولوية العلاجات القاعدية وضبط وتكييف كل عملية هيكلة أو تحسين في القطاع مع مكانة هذا النمط العلاجي بصفة عامة. ونظرا لكون الطلب على هذه العلاجات كبيرا ولا ينتهي، ينبغي السهر على استمرارية تقديمها وتيسير الوصول إليها وإيجاد التمويل الكافي لتغطيتها على المدى البعيد.

وبمناسبة أربعينية توصيات “ٲلماتي” نظمت حكومة كازاخستان برعاية المنظمة العالمية للصحة واليونيسيف يومي 25 و26 أكتوبر 2018 مؤتمرا دوليا حول العلاجات الصحية الأولية تدعيما لتلك التوجيهات، وفي هذه المناسبة أكد الخبراء أن هذه البنود هي بمثابة ورقة طريق تتبع من أجل الوصول للتغطية الصحية الشاملة والعالمية وكل الإرادات السياسية مجندة لذلك، ومع ذلك بعد مرور اثنتين وأربعين سنة على هذا المؤتمر يبقى نصف سكان المعمورة دون تغطية صحية كافية، ما يستعجل إعادة النظر في الأنماط السياسية المتبعة في إطار المنظومات الصحية لغالبية الدول.

 وفي نفس السياق أصدرت المنظمة العالمية للصحة في 22 سبتمبر 2019 توجيهات تطلب فيها من جميع الدول رصد ما لا يقل عن واحد بالمائة من الناتج الداخلي الخام للعلاجات الصحية الأولية لسد النقائص والاختلالات الملاحظة في هذا المجال، وناشدت المنظمة كل الدول بذل كل الجهود اللازمة لجعل الريادة لهذا الشكل من العلاج وتنسيق كل النشاطات قصد التوفيق في ذلك.

وعلى كل، فإن صحة الإنسان مرتبطة بنمط معيشته وبكل ما يتعلق بحالته في بيئته إذ تكون معرفة الفرد بفوائد وأضرار بعض المأكولات وإدراكه مدى أهمية الرياضة وقناعته بضرورة محاربة القلق والتوتر والنوم الجيد في الوقت المناسب وفي الظلام إلى غير ذلك من السلوكيات الصحية قد توفر له حتما مستوى صحيا راقيا، وسوف يجد المواطن في إطار النشاطات العلاجات الصحية الأولية حيزا معتبرا لهذه الأمور الهامة، التي تدخل في إطار التوعية والتثقيف الصحي، وأملنا ألا نتخلف في المستقبل القريب عن الاقتراب من هذه المفاهيم البسيطة والعصرية في تشكيل نمط وطني للصحة العمومية بتعريفات أوسع في إطار منظومة وطنية متكاملة نصبو إلى تحقيقها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!