-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

نقاباتُ التربية.. هل يكون غدُها كأمسِها؟

لمباركية نوّار
  • 5785
  • 0
نقاباتُ التربية.. هل يكون غدُها كأمسِها؟

تكشف تجربة النشاط النقابي في حقل التربية، ويوما بعد يوم، أنها ليست في مستوى تطلعات العاملين في هذا القطاع الواسع الذي يضم نحو مليون إلا ربع مليون فرد. وأنها لا يستجيب لطموحات المدرسة الوطنية وهي تواجه ريحا صرصرا غاضبة في خضم التحولات المعرفية والتكنولوجية والفكرية والتقنية العظمى التي تهز العالم وتغزو الأوطان من كل منافذها المفتوحة. وتريد، وبتوجيه مقصود، أن تصهر كل الثقافات والخصوصيات في بوتقة واحدة وفق رؤى القطبية الواحدة المتسلطة والبالعة. ولا يُخفى أن نقابات التربية قد عملت منذ نشأتها، من حيث أرادت أو لم ترد، على توطين الهشاشة والهزال في جسم المدرسة، وزرع الوهن في أضلعها، وكسر صلابتها، وإفقادها تماسكها، وانتزاع مناعتها، وتجريدها من حصانتها.
يختلف الفضاء المدرسي بكيانه المادي وعناصره البشرية عن أي فضاء عُمَّالي آخر؛ فالمدرسة برقَّتها وفرط حساسيتها وشدة ارتباطها بالمجتمع القريب منها وكثرة تراكماتها تختلف في درجة تأثرها عن المعمل أو المشغل أو الورشة أو المصنع. وإن أدنى اهتزاز غير محسوب العواقب يترك في جسمها أثرا بالغا يصعب ترميم تصدعاته، أو تصليح ندوبه، أو رتق فتوقه. وتبدو بصمات هذا التأثير مرتسمة على حاضر المدرسة وعلى نوع مخرجاتها كالبثور الطافحة، ومشوِّهة لسحناتها المستقبلية بالدمامل والخراريج المتقيحة؛ لأن المدرسة هي المؤسسة الوحيدة التي يُصنع فيها مستقبل الأوطان، ويُعدُّ فيها الرجال والنساء الذين يسافرون إلى عالم الغد، فهل حسبت نقابات التربية لهذا التشويه المفسد حسابه؟.
إن مدرسة كالمدرسة الجزائرية التي عانت كثيرا، ولكنها استطاعت أن تحافظ على أدنى صور وجودها وبقائها في ليل الاستدمار الطويل من خلال الكتاتيب القرآنية والزوايا والمساجد وبعض المدارس المتواضعة عددا وعدّة، إن هذه المدرسة لا يجوز التلاعب بمصيرها ومصير من يؤمُّونها. والاستهانة بهذه المدرسة الصامدة يحمل ضمنيا استهانة بمصير الوطن واستخفافا بأبنائه الغيورين عليه.
لم تضع نقابات التربية الدفاع عن المدرسة الوطنية على رأس أولوياتها وفي قمة أهدافها. ولم تسر في طريق الاستقامة بعيدا عن إملاءات الهوى والميول، ولم تقهر في حركتها زلل التعنت والتعصب. فماذا يعني أن تعج ساحة المدرسة بهويات نقابية عديدة بلغت أربعا وثلاثين نقابة، أي ما يقرب من نسبة خمسين في المائة من النقابات التي تنتمي طبقتها الشغيلة إلى الوظيف العمومي؟ فهل توجد حقا، ومن ناحية الخطاب والممارسة الفعلية، أربع وثلاثون وجهة نظر للدفاع عن المعلم والأستاذ؟ لقد أنجب هذا التعدُّدُ الكمي التمييعي تنافسا غير نزيه تحركه المصالح الخاصة والمنافع الضيقة على حساب النشاط المسؤول والملتزم. وتبعه تشتُّت واحتراب وفرقة وخلاف ومشكلات أجهدت المدرسة وأفشلتها. وضاع التعدد الفكروي المكتمل أمام الصراعات الانتفاعية التي استفادت منها قلة على حساب الأكثرية.
يعرف القاصي والداني أنَّ النشاط النقابي هو عملٌ مهموز، ويتعفَّف عن مزاولته أصحاب المبادئ والهمم، ولا تدنو منه إلا فئة استغلالية معروفة المواصفات والسمات يُظهر أصحابها ما لا يضمرون. وتتخذ هذه الفئة من تقدم الصفوف وسيلة للكسب السهل والسير في سلم الارتقاء بما في ذلك الوصول إلى تبوإ أماكن في المجالس المنتخبة الدنيا والعليا. ومن أجل التكتل تُزرع بذور الفرقة، كأن يجعل التمثيل جهويا على المستوى الوطني، أو وقفا على منطقة واحدة في مستوى الولايات. وهذا ما يفسِّر قبول رؤوس النقابات البقاء في مناصبهم لأكثر من أربع عهدات متتالية بالتعيين والمبايعة، ومنهم من أكمل طي السن القانوني العمري والمهني وأبى الذهاب إلى التقاعد. فأين مبدأ التداول وتدوير مناصب المسؤولية للتجديد والتحديث؟.
وفي غياب المكاشفة والشفافية، لا تُكشف الحصائل المالية أمام الجمعيات العامة، ولا يتم إخضاعها إلى قواعد المحاسبة، ولا تُنشر ليطلع عليها كل راغب. ولا نقرأ في شعاراتها ما يشير إلى الجدية والتوق إلى الأحسن والأمثل، ويحضرني شعارٌ فارغ المضمون لإحدى هذه النقابات رفعته يوم الإعلان عن ميلادها فحواه: (سندافع عن أنفسنا، ولا نحتاج إلى وصاية من أحد، فقد بلغنا سن الرشد)؟!.
ما يحز في الأنفس هو أن نقابات التربية لم تنظر إلى المدرسة كرأس مال مشترك بين كل أبناء الوطن، وأننا نستثمر فيها أغلى ما نملك، وهو صقلٌ وتهذيب المادة الرمادية لكل من يقضون سنوات جالسين على كراسي الأقسام، والاعتناء بتربيتهم، وراحت تضخم قائمة مطالبها التي تنظر إليها كحقوق في كل الحالات، وتؤكد على الظفر بها ولو بالإقدام على قتل الحياة في المدارس، وحرمان المتعلمين من نعمة العلم، وهو حق يسبق كل الحقوق الأخرى، ويتفوّق عليها شرائعيا ودستوريا وقانونيا. ولم تكن تتوقف عن الدخول في الإضرابات التي تعني تجميد الحياة المدرسية في صرود من غير النظر إلى الحلقة الضعيفة التي تدفع الثمن باهظا في كل مرة، وهي المتعلم الذي وجدت المدرسة من أجله. ولم تعمل هذه الإضرابات على إسقاط ولو وزير واحد من الذين تعاقبوا على رأس وزارة التربية الوطنية؛ لأن الأمر عصيٌّ، وليس الوزير كالمتعلم. ولم تكن هذه الإضرابات التي تحركها قناعات تعنّتية، والتعنت لم يكن من صفات المربين الحازمين والمضحّين رأفة بمن يعلمون، لم تكن تنقطع. واللجوء إلى الإضراب الذي يكون مفتوحا أحيانا كوسيلة من وسائل المغالبة في كل مرة باستغلال الكتلة العددية، يُظهر عجزا عن البحث لتعيين وسائل وسبل أخرى مشروعة ومجردة من التأثيرات السلبية المرافِقة للاحتجاجات. ولو كانت المغالبة بالعدد لمالت الكفة إلى جهة المتعلمين الذين يزيد عددهم عن ثمانية ملايين. وقد تسببت هذه الإضرابات في ضياع أكثر من موسمين دراسيين كاملين من عمر المدرسة في السنوات الأخيرة، وجلبت عيوبا مذمومة كاللجوء إلى العتبة في الامتحانات الرسمية.

 ماذا يعني أن تعج ساحة المدرسة بهويات نقابية عديدة بلغت أربعا وثلاثين نقابة، أي ما يقرب من نسبة خمسين في المائة من النقابات التي تنتمي طبقتها الشغيلة إلى الوظيف العمومي؟ فهل توجد حقا، ومن ناحية الخطاب والممارسة الفعلية، أربع وثلاثون وجهة نظر للدفاع عن المعلم والأستاذ؟.

ويشار إلى أن الدروس اللصوصية التي ترى بعض النقابات أنها واقعٌ مفروض لإرضاء من يقدّمونها وكسبهم إلى صفوفها أو خوفا من انفراط عقد المنتسبين إليها والمشدود بخيط رثّ تزدهر كلما أوصدت المدارس أبوابها مرغمة، وتتضاعف قيمة حصصها بقدر يٌرهق جيوب الأولياء وينهكها. وظلت هذه النقابات تتنافس فيما بينها في القدرة على فرض إضراب لمدة أطول لإبراز قوتها، فإذا نادت نقابة بوقفة احتجاجية لمدة ساعتين مثلا، تأتي نقابة أخرى لنسف مطلبها واستعراض عضلاتها، وتفرض إضرابا يدوم يوما كاملا. وهذا ما رأيناه حتى في آخر إضراباتها الذي صادف آخر يوم من شهر فيفري الفارط. وكم من مرة ضربت هذه النقابات بأحكام العدالة، وهي هيأة دستورية عليا، لما تقضي ببطلان الإضراب وتحكم بتوقيفه، ولا تعبأ به!.

يعرف القاصي والداني أنَّ النشاط النقابي هو عملٌ مهموز، ويتعفَّف عن مزاولته أصحاب المبادئ والهمم، ولا تدنو منه إلا فئة استغلالية معروفة المواصفات والسمات يُظهر أصحابها ما لا يضمرون. وتتخذ هذه الفئة من تقدم الصفوف وسيلة للكسب السهل والسير في سلم الارتقاء بما في ذلك الوصول إلى تبوإ أماكن في المجالس المنتخبة الدنيا والعليا.

لم يجد المتعلمون من يقف إلى جانبهم مؤيدا ومؤازرا كلما كان هناك إضرابٌ يشل المدارس. وكانت موجات الغضب والتذمر تكبر مع مرور الوقت في صدور المتعلمين وأوليائهم وكل الغيورين على المدرسة الوطنية، بعد أن صعُب عليهم تقبّل سلسلة الإضرابات المفتوحة التي تفرض غلق أبواب المدارس بغير وجه حق. فهل هناك جور يعادل هذا الجور؟ ونجم عن ذلك الإساءة إلى قداسة رسالة التعليم وتشويه نظرة الإكبار التي كان ينظر بها أفراد المجتمع إلى المعلم كمواطن محاط بالاحترام ومهاب الجانب وصاحب كلمة لا تردّ، وأنزلته من علياء مكانته، حتى أصبح غرضا مرميا بالتنكيت الجارح في المجالس وفي المقاهي.
يبدو أن نقابات التربية سنّت لنفسها قانونا تحتكم إليه، ومن مواده التي يقوم عليها أن المناصرة تكون دوما للمعلم حتى وإن ظلم أو تعدى، أو ارتكب خطأ فادحا. وفي كل الحالات، يكون المتعلمون هم الضحايا، ومن بعدهم مديرو المؤسسات التعليمية غير المنتسبين. وتنوّعت الابتزازات التهديدية التي ما انفكت بعض نقابات التربية تمارسها والمتمثلة في مقاطعة تأطير الامتحانات الرسمية والإعراض عن تصحيح أوراق الممتحَنين. وتواصل الأمر إلى حد امتناع الأساتذة عن نشر العلامات الفصلية للمتعلمين أو تسليمها لإدارات المؤسسات، واعتبروا هذا التصرف طريقة لتحقيق مطالبهم ولو كانت تعجيزية.
لم يخفِ رؤوس بعض نقابات التربية مخالفة المبادئ والقيم والتوجهات التي ترتكز عليها المدرسة الوطنية، ومحاولة إفراغها منها، والنيل من مكنوناتها لتعطيل مسيرتها. فلما نظمت وزارة التربية الوطنية ندوة وطنية في شهر جويلية 2015م لتقويم الإصلاحات التي شُرع فيها منذ سنة 2003م، أعلن المفتش العامّ للوزارة بأن التعليم الابتدائي سيجرى باللهجات العامية بدل اللغة العربية الفصحى تحت مبررات ذات نيّات خبيثة، لم يتردد أحد القياديين في نقابة تدّعي لنفسها اكتساح الساحة بكثافتها التمثيلية في الإدلاء بتصريح لجريدة تصدر باللغة الفرنسية مفاده: (إنه قرارٌ شجاع)؟!. ولم نقرأ ردودا أو اعتراضات أو تعقيبات من المنضوين تحت سقف هذه النقابة لرفض هذه الطعنة المسمومة التي ترمي إلى تجريد المدرسة الوطنية من أهم ركائزها وهي اللغة العربية.
هناك مؤشراتٌ وعلائم تُظهر أن السحر قد انقلب على الساحر الذي تجاوز الحدود في معاملاته. وإننا نقرأ في موقف المعلمين والأساتذة من الإضراب الأخير الذي جرى في الثامن والعشرين فيفري من العام الجاري، والمتمثل في التجاهل وقلة الاستجابة وعدم الإذعان له، نقرأ مقدمات للحالة التي سيكون عليها واقعُ هذه النقابات في المستقبل من ناحية التمثيل. ويؤكد انصراف النقابات كلّيا عن الحديث عن نسبة التجاوب وعجزها عن التعبئة القاعدية أنها أصيبت بخيبة وخسران لم تتوقعها، وامتلكتها الحيرة والحسرة. ونستشفُّ مما كتبه بعض القياديين النقابيين من كلمات وسطور شحنوها بقذائف اللوم والعتاب ورموها على المعلمين والأساتذة الذين خذلوا توقعاتهم، نستشف أن غد هذه النقابات لن يكون زاهيا ومزهوا كما كان حاله في سنواتها السابقة، وستكون عاجزة عن المواجهة وعن صناعة الأحداث كما كانت تفعل. ولن يكون في وسعها الرفل إعجابا والرقص غبطة بفضل وسيلة الإضراب التي لم يعد الطريق الموصلة إليها ممهَّدا ومعبَّدا وسهلا كما كان في السابق بفضل التعديلات التي أدخلت على قانون النشاط النقابي.

لما نظمت وزارة التربية الوطنية ندوة وطنية في شهر جويلية 2015م لتقويم الإصلاحات التي شُرع فيها منذ سنة 2003م، أعلن المفتش العامّ للوزارة بأن التعليم الابتدائي سيجرى باللهجات العامية بدل اللغة العربية الفصحى تحت مبررات ذات نيّات خبيثة، لم يتردد أحد القياديين في نقابة تدّعي لنفسها اكتساح الساحة بكثافتها التمثيلية في الإدلاء بتصريح لجريدة تصدر باللغة الفرنسية مفاده: (إنه قرارٌ شجاع)؟!.

جاء القانون المنظم للنشاط النقابي في نسخته المعدَّلة لإنهاء سياسة ترك الحبل على الغارب التي عمرّت طويلا، وأصابت مدرستنا الوطنية بأمراض لم تكن تعرفها من قبل. ولا يرى في مواده وبنوده تقييدا للحريات وخنقا للنشاط النقابي وتضييقا عليه كما يروَّج. وإنما نلمح فيها ضوابط تنظيمية لكبح الانفلات الملاحَظ في النشاط النقابي. ولا شك أن هذا القانون الذي تأخر مجيئه يمثل امتحانا حاسما للفرز بين النقابات من ناحية صدق التمثيل وسلامة الأفكار ومتانة طرح الحلول الموضوعية للمشكلات المواجَهة والوفاء المستديم للمحافظة على حرمة المدرسة الوطنية ومكانتها حتى تظل مشكاة تضيء سماء الوطن، وتسطير حدود لكل التجاوزات التي تتجاهل معطيات الواقع المدرسي وتُخرج المتعلم من دائرة الحساب، وقد تعيد للمعلم ما فقده من مهابة وإكرام واحترام.
من أهمّ التوقعات المنتظرة في قادم الأيام أن يلجأ أغلب القياديين الحاليين في نقابات التربية إلى الاستقالة لعدة أسباب، ومنها أنهم استنفدوا طاقة العطاء التي لم نر فيها ما يُلهم ويغري، إضافة إلى أنَّ المرحلة القادمة من الحياة النقابية لن تكون ميسَّرة من ناحية التسيير وجلب المنخرطين والتجنيد والمناورة وابتكار طرق أخرى للنشاط والحركة وإثبات قوة الحضور بعد أن سُدَّت في وجوههم الوسيلة الوحيدة التي استعملوها حتى تورّمت وانغلاق مصراعي الباب الانتفاعي بصدره وعُجُزِه. ومن المتوقع، أيضا، أن تبرز قيادات جديدة من المعلمين الشباب يملكون من الاستعداد النفسي للحوار والمرونة وروح المسؤولية وقوة الاقتراح والتمييز بين الحقوق والمطالب ما يجعل الفعل النقابي فعلا وطنيا قلبا وقالبا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!