-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ها هي عشر ذي الحجّة أقبلت.. فهل من مشمّر؟

سلطان بركاني
  • 5015
  • 0
ها هي عشر ذي الحجّة أقبلت.. فهل من مشمّر؟
ح. م

تسعة وخمسون يوما انقضت بعد رحيل رمضان، وأصبح شهرنا الفضيل في طيّ النّسيان. طويت أخباره ونسيت أسراره، وعاد كثير منّا إلى ما كانوا عليه قبل رمضان، إلى قسوة القلوب وضعف الإيمان، ونسوا قيام اللّيل وهجروا القرآن، بل وعاد بعضنا إلى إضاعة الفرائض والواجبات وغشيان المعاصي والمحرّمات. نسي كثير منّا عهدهم مع رمضان، بل ربّما نسوا عهدهم مع الله الواحد الديّان، الذي ما خلقهم إلا ليعبدوه، ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون))، والذي أخذ عليهم العهد بأن يجعلوا حياتهم كلّها له وحده جلّ في علاه، ((قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين)).

الغفلة طبع في الإنسان، لكن أن تصل بالعبد المؤمن إلى درجة يتكاسل فيها عن الفرائض والواجبات، ويصرّ معها على مواقعة المحرّمات، فهذا لا يليق أبدا بعبد مؤمن لا يدري متى يوافيه الأجل، ومتى يزوره ملك الموت زيارة تقطع عنه كلّ أمل، لذلك كان حريا بكلّ عبد مؤمن يخاف الله والدّار الآخرة، أن يراجع حاله من حين لآخر، ويتلمس مساره من وقت لآخر، ويستغلّ مواسم الخيرات والنّفحات التي تهبّ فيها نسائم الرّحمات، وتضاعف فيها الحسنات وتغفر الخطيئات، وتلين فيها القلوب والأرواح لعالم الخفيات، ليجدّد إيمانه ويحيي قلبه، يقول نبيّ الهدى صلى الله عليه وآله وسلّم: “افعلوا الخير دهركم، وتعرّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمّن روعاتكم”؛ نفحات تهبّ في أيام ومناسبات شرّفها الله، لعلّ من أعظمها وأنفعها تلك التي تهبّ في العشر الأوَلِ من شهر ذي الحجّة، هذه العشر التي سنعيش أيامها الغالية ولياليها النيّرة بدءًا من يوم غد السّبت بحول الله؛ أيام ليست ككلّ الأيام، بل هي أفضل الأيام عند الله ذي الجلال والإكرام، يقول المصطفى صلوات ربّي وسلامه عليه: “أفضل أيام الدنيا أيام العشر يعني عشر ذي الحجة”. أيام جعلها الله أيام ذكر وطاعة فقال جلّ شأنه: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ))، والأيام المعلومات في هذه الآية هي أيام العشر الأول من شهر ذي الحجّة. أيام يجتمع فيها من العبادات ما لا يجتمع في غيرها؛ تجتمع فيها الصلاة والصيام والصدقة والحج. فيا الله، ما أشدّ حرمان من يغفل عن مثل هذه الأيام!

أيام يتوب فيها الله -جلّ وعلا- على من تعرّض لنفحاته، ويضاعف له أجور الصّالحات، يقول الحبيب المصطفى عليه الصّلاة والسّلام: “ما من أيامٍ العمل الصّالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ، يعني أيامَ العشر”. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجعْ من ذلك بشيء”.

أيام حقّق بعض العلماء أنّها أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان، بمعنى أنّ العبد المؤمن يستطيع أن يعيش نفحات رمضان في هذه الأيام، فيقضيها بين صيام وقيام، وذكر وقرآن، وصدقة ودعاء، بل ربّما تكون هذه الأيام بداية حياة جديدة يعيشها العبد المؤمن، يطلّق فيها الغفلة ويقبل على ربّه الغفور الرّحيم الحنّان المنّان.

هي فرصة لكلّ متحسّر على فوات رمضان، هي فرصة لكلّ عبد يريد أن يتوب إلى الله الواحد الديّان، ويبدأ صفحة جديدة في حياته، يبدأ صفحة جديدة مع الله في أيام هي أكرم الأيام وأفضلها عنده جلّ في علاه، ومن يصدقِ الله يصدقْه.

إنّ الحرمان منتهى الحرمان أن يضيّع العبد المؤمن أمثال هذه الأيام، وترحل يوم ترحل وحاله هي حاله، وقلبه هو قلبه.

ليسألْ كلّ واحد منّا نفسه: ما الذي يجعلني أغفل عن مثل هذه الأيام؟ ما الذي يجعلني أزهد وأرغب عن هذه الفضائل وهذه الخيرات؟ لماذا تمرّ بي هذه الأيام كلّ عام ولا أحدّث نفسي بصيام ولا قيام ولا ذكر ولا دعاء؟

لو أحسّ الواحد منّا بألم بسيط في جسده لسارع إلى الطّبيب وترجّاه أن يدقّق الفحص ويكتب له من الأدوية ما ينفعه ولو كلّفه ذلك أمواله كلّها، بل ولو كلّفه ذلك أن يبيع أثاث بيته، بل ولو كلّفه أن يريق ماء وجهه ليستدين أو يستعطف المحسنين. فلماذا لا نهتمّ بمداواة قلوبنا وأرواحنا كما نهتمّ بمداواة أجسادنا؟

نفحة من النّفحات ونسمة من النّسمات ستهبّ علينا هذه الأيام، وفرصة سانحة لمداواة القلوب والأرواح، فيا ترى من منّا سيتعرّض للنّفحات ويجتهد في استغلال هذه السّاعات التي لا شكّ أنّها ستمرّ سريعا كما مرّت ساعات رمضان الغالية؟.. هي فرصة، مَن أحسن استغلالها سيكسب بإذن الله خيرا كثيرا. لربّما ينظر الله -تبارك وتعالى- نظرة رحمة إلى أحدنا وهو يجتهد في القرب منه -جلّ في علاه- في هذه الأيام ويرى منه الصّدق والحرص على رضاه، فيكتب له رضوانه ويتقبّله في الصّالحين ويفكّ أسر قلبه من سجن الدّنيا.

أيّام ذي الحجّة أيّام صلوات ودعوات، أيّام صيام وتسبيح وتهليل وتكبير ومشاركة للحجّاج في دعائهم وابتهالهم، فلنحرص على الإكثار من الطّاعات والقربات عسى الله أن يتقبل منّا ويغفر ذنوبنا. من كان متهاونا في صلاته فلتكن هذه الأيّام بداية له لإصلاح حاله مع هذا الرّكن العظيم من أركان الإسلام، ومن حرم قيام الليل فيما مضى فلتكن هذه الأيّام بداية له ليذوق حلاوة القيام بين يدي الله في وقت السّحر، ومن حرم لذّة الصّيام في غير رمضان فلتكن هذه الأيّام بدايته ليذوق لذة الجوع طلبا لمرضاة الله، ومن حُرم لذّة الإنفاق في وجوه البرّ والخير فلتكن هذه الأيام بداية له لينعم بلذة الإنفاق طلبا لفضل الله.

إذا كان الفرح في عيد الفطر ما شرع إلاّ ليشكر العبد المؤمن ربّه على التوفيق لصيام شهر رمضان وقيام لياليه، فإنّ الفرح في عيد الأضحى أيضا ما شرع إلاّ ليشكر العبد المؤمن ربّه على التوفيق لفعل الطّاعات والقربات في أيام العشر من ذي الحجّة، فبماذا سيفرح من غفل عن هذه الأيام؟ بماذا سيفرح من غفل فيها عن الصّدقة والصّيام والقيام؟ بماذا سيفرح من تزوّد فيها من الأوزار الآثام؟.

إذا كنّا قد حرمنا أن نكون هذه الأيام هناك في البقاع الطّاهرة المكرّمة مع حجيج بيت الله، نحرم ونلبّي وندعو ونسبل الدّمعات، ونطوف ونسعى ونقف بعرفات ونرمي الجمرات، فلا ينبغي أبدا أن نُحرم روحانيات ونسمات الحجّ هنا. إذا كنّا قد حرمنا أن نكون هذه الأيام هناك بين الحجيج بأجسادنا، فلنكن معهم بقلوبنا. إذا كنّا قد حرمنا الوصول إلى البيت العتيق، فلا ينبغي أبدا أن تحرمنا أنفسنا الوصول إلى ربّ البيت العتيق. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!