الرأي

هذا شهر الأحزان

محي الدين عميمور
  • 3147
  • 6

فبعد أقل من شهر عن وفاة رائد من شباب الصحافة الوطنية الجزائرية، وهو الأخ بشير حمادي، وبعد وفاة الفنان الشعبي عمار الزاهي، وفي نفس اليوم الذي ينتقل فيه رائد المألوف، الحاج محمد الطاهر الفرقاني، يغادر دنيانا الفانية رجل يمكن أن يعتبر الرائد الأول للصحافة الجزائرية في مرحلة الاستقلال وهو الأستاذ محمد الميلي.

وقد كنت اعتذرت عن الكتابة في هذه المناسبة الأليمة، لأنني خشيت أن يعتبر الأمر نوعا من النفاق الاجتماعي، حيث أن علاقتنا لم تكن دائما علاقة ود متبادل، لكنني اقتنعت بما عبر عنه العزيز سعد بو عقبة، الذي نجح في تخليصي من عقدة كانت حاجزا بيني وبين كتابة هذه السطور، ووصلت إلى اليقين، وأنا أعرف بأن كثيرين سيكتبون عن الفقيد الراحل، بأن ما أكتبه أنا قد يكون له معنًى خاص وقيمة معينة، لأنني كنت من بين من اختلفوا كثيرا مع سي محمد.

وأسجل أولا أنه هو الذي فتح أمامي أبواب مجلة المجاهد، لسان حال حزب جبهة التحرير الوطني أنذاك، وفي مرحلة كنت فيها مجرد طبيب يمارس مهنته بتفرغ كامل، وكان الفضل في ذلك للسيدة الكريمة حرمه.

وإثر اختيار الرئيس هواري بو مدين لشخصي الضعيف للعمل إلى جانبه في رئاسة الجمهورية، حرصت أنذاك على أن أضع تحت تصرف الكاتب القدير أهم العناصر التي يحتاجها كاتب الافتتاحيات المرجعي لصياغة ما كان يعتبر أنذاك صوت الجزائر المكتوب الذي تتابعه كل المراجع الداخلية والخارجية، ولأن العمل على مستوى القمة يحتاج جهدا خاصا في التعامل مع تناقضات ترتبط بتكوين كل فرد وبنظرته إلى مختلف المعطيات على الساحة الوطنية، تطورت علاقتنا بين صعود وهبوط طوال المراحل التالية، غير أن كلا منا واصل احترامه للآخر، لأن هذا كان عنصرا أساسيا في تكوين معظم أبناء جيلنا الذي يتآكل يوما بعد يوم، لأن هذه هي سنة الحياة.

وتاريخ النشاط الإعلامي في الجزائر يسجل أن الميلي هو رائد الرواد في مجال الصحافة الوطنية، فهو من صنع من جريدة الشعب اللسان العربي القادر على تجسيد أهداف الثورة الوطنية، وهو من استطاع، خلال إدارته لمجلة المجاهد، أن يحشد لها وفيها أهم الأقلام الوطنية، وأن يستفيد من كفاءات مشرقية كان لها دور كبير في تكوين صحافيي الغد، ومن هنا يمكن القول أن معظم شباب الصحافة في مرحلة الاستقلال تخرجوا على يد محمد الميلي وفي مدرسته، وتجاهل هذا جحود ترفضه كل روح وطنية، ونسيانه عيب تتضاءل بجانبه كل العيوب.

وكان الميلي، ككاتب سياسي متميز، أقدر من يستطيع استيعاب خطب القيادة الثورية في مرحلة الانطلاقة التنموية، ليجعل منها مقالات يسجل فيها أهم الرسائل السياسية التي يجب أن تتناولها افتتاحية مجلة الحزب الواحد أنذاك، وكان أسلوبه من نوع السهل الممتنع، وخصوصا فيما يتعلق بالقضايا السياسية، في مرحلة كانت أهم مشاريع الرئيس الجزائري الراحل، وهي الثورة الزراعية، في حاجة لمن يحسن تقديمها للجمهور، ومن يقدر على تجنيد العناصر الإعلامية الفاعلة في الدعوة للتفاعل الإيجابي معها.

وأستطيع القول، بناء على تعاملي مع سي محمد، أنه كان أقدر الكتاب على تلخيص أي خطاب سياسي مطول، ليحوله إلى موجز لا تضيع منه أهم المعطيات التي تهدف القيادة السياسية إلى تجنيد الجماهير حولها.

كان ذلك في مرحلة الرئيس هواري بو مدين، أما في مرحلة الرئيس الشاذلي بن جديد فقد انصرف محمد أساسا إلى العمل الخارجي، حيث اختطفه العمل الديبلوماسي، الذي اختتمه بتولي عهدتين على رأس الأمانة العامة للمنظمة العربية للثقافة في تونس، مع مرور عابر في وزارة التربية، لم تتح لها خلاله وضع بصمات على مجال التربية تعادل بصماته في المجال الإعلامي وفي ميدان الصحافة المكتوبة باللغة العربية.

ويظل اسم محمد الميلي مرادفا لتعبير الإعلام في الجزائر المستقلة، ووفاته هي إنذار بانتهاء عصر عمالقة الإعلام، ولعل ما يمكن أن يخفف من الشعور بالفراغ هو آلاف الإعلاميين الذين يعود لمحمد ولبعض رفاقه فضل تكوينهم وتكوين من كونوهم لبناء مؤسسة الإعلام الجزائري، ومن هنا، ومع كل تألق للإعلاميين الجزائريين في الخارج والداخل يجب أن نتذكر محمد الميلي ودوره الريادي ومدرسته القديرة.

رحم الله الفقيد وألهم أسرته الصغيرة وعائلته الإعلامية الصبر والسلوان، ولا يمكن للمؤمن إلا أن يردد قوله تعالى، “كل نفس ذائقة الموت”، ويسترجع التحذير الإلهي الدائم ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا))

ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.

مقالات ذات صلة