الرأي

هكذا ينبغي أن تُعامَل أدمغتنا المفكِّرة…

محمد سليم قلالة
  • 564
  • 3

كثيرة هي الأدمغة التي ما زالت مُرابِطة بداخل الوطن رغم الإغراءات الخارجية الكثيرة، وبفضلها مازالت عدة قطاعات ومؤسسات واقفة، ينبغي أن نوجه لها التحية والعرفان، وأنْ نَرفَع النداء عاليا للسلطات العمومية لتمنحها التقدير الواسع والاعتراف الكامل، ولترعاها حق الرعاية معنويا وماديا.

تم السبت، الإطلاق الرسمي لخدمات التصديق الإلكتروني ببلادنا، وهي خدمات تتطلب التحكم في أرقى ما توصَّلت إليه المعلوماتية وبخاصة التشفير الإلكتروني من تقدم.

وقد أشرف على هذه المهمة لسنوات خبراء جزائريون من خيرة كفاءات هذا الوطن. ورغم الصعوبات الجمة التي يعرفونها أولا ككافة المواطنين، وثانيا ككفاءات عليا، إلا أنهم أصروا على البقاء والاستمرار في البذل والتضحية إلى أنْ أنجزوا المهمة كاملة غير منقوصة.

لقد كان بإمكان أي منهم، وبمجرد اتصال بسيط، أن يجد نفسه في أكبر الشركات العالمية التي تشتغل في مجال التشفير والمعلوماتية في آسيا وأمريكا وأوروبا، خاصة أن جميعهم من المتفوقين في هذا المجال. وكان بإمكانهم أن يفوزوا بأجور تفوق عشرات المرات ما يتقاضونه في الجزائر، فضلا عن التقدير الكبير والمحيط الاجتماعي الملائم من سكن ونقل ووسائل راحة وترفيه…الخ. وما كان أحد ليلومهم على ذلك، نظرا للصعوبات الجمة وأحيانا التي لا تُطاق التي تعترضهم داخل وطنهم، إلا أنهم فَضَّلوا الصبر والإصرار على إتمام مهمتهم على أحسن وجه خدمة لمواطنيهم وبلدهم واقتصاد بلدهم، وبعدها لكل حدث حديث…

كم سَمِع هؤلاء للعبارات المُثَبِّطة التي تُلاحقهم في كل مكان، وأحيانا من مسؤوليهم المباشرين: “لو كنت مكانك لغادرت هذه البلاد”! “ما الذي تفعله في هذا البلد؟”! “مكانك ليس هنا”!، “تظلم نفسك بالبقاء هنا”!… بل تَحَلُّوا بالثَّبات، وأصَرُّوا على رفع التحدي، ولعلهم اليوم يكونون قد أنجزوا مُهمتهم على أحسن وجه.

هل يكفي أن نوجِّه لهم خالص التحية والعرفان؟ أم أنه علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال الأهم: كيف نجعل منهم قدوة للآخرين لكي لا يغادروا ومثالا يحتذى به لمن اضطروا اضطرارا للمغادرة ليتعاون الجميع من أجل الانتقال العلمي والتكنولوجي والصناعي والاقتصادي لهذا البلد؟

يبدو لي أنه ينبغي على الدولة الجزائرية، ألا تكتفي اليوم بواجب التحية والعرفان، بل أن تُسارع إلى إصدار قانون يحمي هؤلاء ويُمكِّنهم من الحياة الكريمة بالنظر إلى الخدمات الجليلة التي يقدمونها للوطن، ليس فقط في هذا المجال المعلوماتي الحسّاس، بل في جميع المجالات التي تتطلب خبرات رفيعة المستوى، بل إني أرى أنه من واجب الدولة أن تُنشئ لهؤلاء إقامات خاصة، وتُمكِّنهم من كافة الشروط المادية والمعنوية التي توفر لهم المُحيط المناسب للبقاء.

إن الذين يحتلون مناصب مرموقة في الدولة باسم السياسة أو المسؤوليات العليا، ليسوا أبدا أفضل منهم حتى يحظوا بامتيازات عدة، بل إن الأولوية ينبغي أن تكون لهذه الكفاءات قبل غيرها، وأن يُمكَّنوا من الحصانة اللازمة لأداء عملهم، من أي تحرش من مسؤوليهم الإداريين، أو غيرهم من المسؤولين.

إنه لمن الأولوية بمكان أن تُسارع الجهات المعنية باتخاذ إجراءات فَعَّالة واستباقية للحفاظ على هذا الرأسمال البشري الذي لا تُقَدَّر قيمته بثمن، قبل فوات الأوان. ومهما كانت الميزانية التي ستُخصَّص لذلك فإنها ستعود على المجتمع بالخير العميم، ذلك أنها لن تساهم في تطوير بناء الاقتصاد الوطني فحسب بل ستوفر بمثل هذا الاهتمام بالداخل الشروط اللازمة لكي تضع الكفاءات الجزائرية في الخارج، بما اكتسبت من خبرات جديدة، يدها في يد كفاءات الداخل، ومنه تحدث الانطلاقة النوعية التي طال انتظارها وفي جميع المجالات…

مقالات ذات صلة