الرأي

هل كان مالك بن نبي مقلدا أم مجددا؟

محمد بوالروايح
  • 4593
  • 13
ح.م

سيسارع الذين يدّعون الوصاية على فكر مالك بن نبي إلى اتهامي بالتطاول على قامة من قامات علم الحضارة وإلى القول إن العنوان استفزازي له ولمحبيه وأتباعه، والحقيقة أن العنوان لا يحمل شيئا من هذا وإنما هو نتيجة قراءة هادئة لفكر بن نبي الذي أقر أنني واحد من المعجبين والمولعين به وذلك منذ فترة طويلة، لكن هذا الإعجاب وهذا الولع لا يغير من الواقع شيئا وهو أن بن نبي فيلسوف الحضارة الذي لا يشق له غبار في ذلك قد اقتبس كثيرا من الأفكار الحضارية من سابقيه، أو يمكن القول بمعنى أدق إن بن نبي قد قرأ التراث الفكري الحضاري العربي الإسلامي والغربي ثم طفق يضع تصوّراته الحضارية التي عبّر عنها في كتابيه “الظاهرة القرآنية” و”شروط النهضة” وغيرهما.

لقد كان بن نبي بارعا في هندسة مخطط النهوض الحضاري مستفيدا مما كتبه سابقوه ومضيفا إليه مسحة من التجديد جعلت أفكاره آسرة لافتة للنظر.

كيف حوّل بن نبي الرؤية التوحيدية لمحمد إقبال في صورة نظرية حضارية؟

يعترف أتباع فكر مالك بن نبي بنصف الحقيقة في حديثهم عن محمد إقبال وبن نبي، ويكتفون بالإشارة إلى أنهما ينتميان إلى عصر واحد ويمثلان قطبين من أقطاب الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي، وأنه من الطبيعي أن يأخذ أحدهما عن الآخر فالفكر أولا وأخيرا تراث إنساني تحكمه عوامل التأثير والتأثر، وتلخص عبارة من مقال منشور بموقع بن نبي ذلك: “وإذا كان محمد إقبال ومالك بن نبي من دعاة الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، ولهما مرجعية دينية وفكرية وتاريخية واحدة، فإن ما يجمع بين محاولتهما أكثر مما يفصل ويفرق بينهما، فقد عاشا في عصر واحد، وعاصر كل منهما الآخر، فبين ميلاد إقبال وميلاد بن نبي اثنين وثلاثين سنة، وبين وفاة إقبال ووفاة بن نبي خمس وثلاثين سنة، فشاهد كل منهما نفس الظروف والأحداث والتغيرات الفكرية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم المختلف، والعالم الإسلامي جزء منه بصفة خاصة وفي العالم ككل بصفة عامة كما عاشا معا مظاهر ومخلّفات الحضارة الأوروبية الحديثة والفكر الغربي، وقاسا محنة الاستعمار الأوربي للأقطار العربية والإسلامية ولشعوبها، فكان كل منهما شاهدا على العصر الحديث وعلى الحياة في العالم الإسلامي في هذا العصر”..

هذه هي نصف الحقيقة التي صدع بها أتباع بن نبي ونحن نوافقهم عليها جملة وتفصيلا، ولكننا لا نوافقهم على تغييب نصف الحقيقة الآخر، فلا شك أن التأثير والتأثر قائم ومتبادل بين الرجلين ولكن تأثر بن نبي بمحمد إقبال تجاوز هذه العتبة ومس جوهر نظريته حول الحضارة التي هي ليست في الواقع إلا إعادة صياغة للرؤية التوحيدية عند إقبال التي تتشكل من ثلاثة عناصر: العنصر الترابي والعنصر الإنساني والعنصر الزمني، وهذه العناصر الثلاثة هي التي أقام عليها بن نبي مفهومه للحضارة. لقد كان إقبال شاعرا ولكن استطاع أن يترجم هذه الشاعرية في صورة أفكار حية قابلة للتطبيق في الواقع، ومن هذه الأفكار رؤيته التوحيدية التي لخصها في كتابه “تجديد الفكر الديني في الإسلام” وتتشكل هذه الرؤية من ثلاثة عناصر: العنصر الأول هو الإنسان الذي ينظر إليه إقبال من زاويتين: من زاوية كونه الصورة الإنسانية المتحوّلة من المادة الترابية، ومن زاوية أن هذه الصورة الإنسانية لا تكتمل إلا بربط الإنسان بغايته التوحيدية، أي أنها لا تكتمل إلا بتحقيق صورة الإنسان التوحيدي القيمي التي تسمو على صورة الإنسان المادي الترابي والعنصر الثاني هو المنتوج المادي متمثلا في مختلف الابتكارات والاختراعات التي ينتجها العقل الإنساني، والعنصر الثالث هو الوقت الضروري لبناء العمران الإنساني.

وينسج مالك بن نبي على منوال محمد إقبال حيث يقتبس رؤيته التوحيدية ويطوّرها ويحوّرها في صورة نظرية حضارية يعبر عنها بطريقة رياضية تشمل مجموع الماديات (الإنسان والتراب) مضافا إليها الوقت الضروري لإنجاز مختلف الماديات التي يشارك فيها العناصر الإنسانية على اختلاف رتبها الاجتماعية، ومن هذا المفهوم الشمولي يتبلور مفهوم الحضارة عند بن نبي في المعادلة الآتية: الحضارة تساوي الإنسان زائد التراب زائد الوقت. ليس في هذه المعادلة الحضارية شيء مختلف عما ذكره إقبال إلا من حيث قدرة بن نبي على هندسة الأفكار وتصميمها على نحو رياضي فيزيائي يتماشى مع طبيعة الفكر التجديدي الذي انخرط فيه بن نبي فأخذ منه ثم أعاد صياغته وتهذيبه وتقديمه في صورة فكرية حضارية تقوم على النظرية العلمية المعقدة خلافا للصورة الفكرية البسيطة التي عبر عنها إقبال.

فكرة القابلية للاستعمار عند بن نبي خلدونيةٌ بالأساس

يرى مالك بن نبي أن الحضارة الإسلامية قد أدركت نهايتها واستكملت دورتها بسقوط الدولة الموحدية، فيما كانت الحضارة المسيحية تحقق أكبر نجاحاتها وانتصاراتها وتكتسح بعد نهاية الحروب الصليبية مفاصل مهمة من جغرافيا العالم الإسلامي. لقد كشف بن نبي عن نظرية (القابلية للاستعمار) في كتابه “الصراع الفكري”، يقول: “الاستعمار جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا، هو القابلية للاستعمار.. وهو نتيجة الصراع الفكري الذي خطط له الاستعمار وأحسن إحكام الخطة.. لقد سلط الاستعمار الأضواء على المشكلات الهامشية، بينما ترك في الظلام كل رؤية منهجية سليمة.. تفتح الطريق أمام حركة التاريخ”.

إن نظرية “القابلية للاستعمار” التي تلقفتها كثيرٌ من التيارات الفكرية المهتمة بتاريخ وتطوّر الحضارة وتبنتها بعض المدارس الفكرية القائمة على فكر بن نبي وأصبحت تباهي بها المدارس الغربية إنما هي في الحقيقة فكرة خلدونية عبر عنها ابن خلدون في “المقدمة” باقتداء الغالب بالمغلوب، وعبَّر عنها بن نبي بالقابلية للاستعمار، فالخضوع والخنوع هو سلوكٌ قسري أو طوعي يسلكه المغلوب تجاه الغالب فيقبل طوعا أو كرها مشاريعه وخططه ولو كانت مخالفة لوجهته الدينية وتوجهاته الحضارية، فسلوك التقليد هنا تفرضه قوة الغالب وضعف المغلوب. لقد تحدث ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين من “المقدمة” عن سبب هذا الاقتداء، إذ يقول: “.. والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أولما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به وذلك هو الاقتداء أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس لم إنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدان والمصانع والبيوت”. ماذا أضاف مالك بن نبي إلى ما قاله ابن خلدون؟ إنه لم يضف في الحقيقة إلا ثلاثة أشياء: أولها أنه استبدل فكرة اقتداء الغالب بالمغلوب بفكرة القابلية للاستعمار، وثانيها أنه استبدل الأمم الغازية المستبدة التي ذكرها ابن خلدون بالاستعمار الذي شهده القرن العشرين، والثالث أنه أضاف إلى فكرة ابن خلدون بعض “الأفكار التقنية” التي اكتسبها من تخصصه في الهندسة الكهربائية.

لا بد في النهاية دفعا لكل تأويل أو تهويل لما جاء في هذا المقال من أن أسجل الملاحظات الآتية:

1- أن مالك بن نبي كان من حيث العموم مقلدا وليس مجددا في الفكر الحضاري الذي سبقه إليه كثيرون، ولكنه تقليدٌ بطعم التجديد لأن بن نبي يمتلك قدرة فائقة على استيعاب الأفكار وقراءة التراث، وهو ما لا يمتلكه كثيرٌ من المفكرين فيقلدون ويغرقون في التقليد حتى يصبح فكرُهم صورة طبق الأصل لفكر غيرهم في الأصول والفروع والجزئيات والكليات.

2- أن بن نبي رغم تكوينه التقني، إلا أنه وفق كثيرا في الحديث عن الأحوال السياسية التي مرّ بها العالم الإسلامي، ووفق أكثر في تفصيل واقع العالم الإسلامي بعد العهد الموحدي.

3- أن بن نبي لا يخفي في كتبه وخطاباته ولعه بفكرة الإصلاح الحضاري التي يجب أن تبنى في الأساس على الهدي القرآني الذي يرسم معالم التغيير الحضاري مع ضرورة تكييف ذلك وإنزاله على الواقع وما يعيشه المسلم المعاصر، وقد عبر عن كل ذلك في كتابيه “الظاهرة القرآنية” و”شروط النهضة”. إن فكر بن نبي إنما هو امتدادٌ للفكر الحضاري الإسلامي الذي بدأ قبله واستمر بعده، ومن ثم فلا غرابة من أن يشكل الفكر الحضاري الإسلامي قاعدة انطلاق لفكر بن نبي.

4-  إن مظاهر التقليد في الفكر الحضاري عند بن نبي لا تقف عند ما ذكرته عن تطويره للرؤية التوحيدية لمحمد إقبال وتطويره لفكرة الغالب والمغلوب عند ابن خلدون بل تتعداها إلى قضايا أخرى متصلة بمشكلة الأفكار وغيرها.

5-  إن بن نبي مقلدٌ من جهة ولكن فكره كان لمن بعده منطلقا لفكر حضاري اقتبس من نظرياته شيئا كثيرا كما فعل المفكر البوسني علي عزت بيغوفيتش التي تلمح في مؤلفاته مسحة من أفكار مالك بن نبي.

مقالات ذات صلة