-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

هل يصلح آخر هذه الأمة بما صلُح به أولها

هل يصلح آخر هذه الأمة بما صلُح به أولها

حكمة إلهية تتمثل في الألم الشديد الذي يخرج به المولود إلى الحياة، بعد أن “حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ” فيصبح فلذة من كبدها بل جزءا أساسيا من حياتها، وليكون الألم جزءا رئيسيا وضروريا في انبعاث الحياة الجديدة.

وأتصور أن مثل هذا الألم يُعانيه من يحاول أن “يلِدَ” كلمات تواكب الأيام المريرة التي نتلظى بنارها،  فينتزع السطور من نفس تتمزق ألمًا وتنزف حزنا وتتقزم خجلا وهي تدرك عجزها عن حماية مواطني غزة من الوحشية الغربية المسلطة على شعب مسالمٍ يعيش داخل سجن كبير يحاصره الأشقاء قبل الأعداء.

ولعل أشد الآلام قسوة ذلك الذُل الذي نشعر به جميعا بعد فشلنا في استثارة التجاوب العربي والإسلامي للضغط على من يملك إيقاف المأساة، بحيث أصبح إذلال الشقيق أسوأ من بطش العدوّ واستهانة حلفائه.

وأحس الآن بأنني أعود إلى أيام ممارسة الطب  فأجد نفسي وكأنني أُعمِلُ مشرطي في جسم أعز الناس عليّ، صامّاً أذنيّ عن صراخه من جراحة تُجرى بدون مخدر، لكنني لا أملك إلا مواجهة ألمٍ هو، بكل تأكيد، أقل من ألم من يجوس مشرطي في أحشائه.

هو جهد المُقلّ العاجز وفاءً لذلك “التسونامي” الثوري الهائل الذي مثله طوفان الأقصى، بكل نتائجه وتداعياته، والذي أعطى العالم كله التجسيد الفعلي لمعنى الشجاعة والصلابة والصمود، وقبل كل هذا…الإيمان بالله وبالوطن، وأحيا فلسطين كوجود فاعل حقيقيّ بعد أن كادت تكون مجرد رفاتٍ لا تستثير أكثر من رثاء عابر.

والمؤلم والمؤسف والمخزي هو ما أكدته الأسابيع الماضية من أن الدول العربية، في معظمها، لا تملك سيادتها ولا تتحكم في قرارها، وجلّ مواقفها الذليلة هي تلبية لإرادة خارجية لا تملك أمامها إلا الانحناء بل والسجود، ثم تكليف الإعلام المرتزق بترويج تبريرات لا تقنع حتى من يصوغون عبارتها، والكل يعلم دور سيف المعز وبعض ذهبه.

لكن…ما الذي وصل بنا إلى هذه الوضعية التي يخجل منها الخجل ؟

كيف سقطت أمة كانت، منذ أقل من قرن، تتغني بأناشيد “الجيل الصاعد” وتمجد “صوت الجماهير” وتردد “أغنية عربية” وتنادي “حيّ على الكفاح” وتهتف “أمجاد يا عرب أمجاد” وترفع شعارات “وحدة ما يغلبها غلاّب” وتعتز بأنها حولت قوة دولية كبرى إلى دولة من الدرجة الثانية وأسقطت الجمهورية الرابعة لبلاد تقول إنها أم الثورات في العصر الحديث، وكلها وقائع تاريخية لا تُنكر.

ماذا حدث لأمة كنا نقول إنها “خير أمة أخرِجت للناس”، هتفنا فيها، بحماس حقيقي صادق، لتمجيد بطل العروبة والزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر والرئيس المهيب والأخ العقيد وآخرين “لا تعلمونهم الله يعلمهم”

أين هي الأمة التي تستقبل اليوم “أنريكو ماسياس” بنفس الحماس الذي استقبلت به بالأمس “جميلة بو حيرد”، والتي يهتز شبابها على النغمات الراقصة ليلا بينما يرتجف أطفال غزة من البرد ليلا ونهارا.

وهل أصبح مثقفو الأمة، ودورهم هو التوعية والريادة والقيادة (بالياء)، مغيبين إلى حدّ أنهم تركوا الشعوب تتحول إلى قطيع يقوده ضباع، أصبحوا يُمجَّدون على حساب أسود كانت مصدر فخر للأجيال.

وهل كان مثقفو الأمة من نفس نوع ذلك الأديب الذي كان أكبر مستفيد من مرحلة معينة في حياة الأمة، ثم كتب عن المرحلة التي تلتها وتناقضت معها كتابا بعنوان “عودة الوعي”.

لماذا أصبحنا، منذ نهايات القرن الماضي، في وضعية لا يشبهها، في نظري كطبيب قديم، إلا حالة البرود الجنسي.

وأنا لا أعتذر عن استعمال هذا التعبير الذي جاء في سطور كتبتها بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عندما بدأت أحس بالانهيار الذي أصبحنا على مشارفه، بعد أن قال لنا بعض علمائنا، بتعليمات ممن تعرفون: “وإن جنحوا للسلم فاجنحوا لها”، وبعد “دعاء الشرق” و”قسما بالنازلات الماحقات” فُرضت علينا “إدي إدي” (التي أتعفف عن ذكر معناها الحقيقي) ومثيلاتها من أمثال “السحّ الدحّ امبو”.

أصبحنا نعيش وضعية لا مبالاة دفعتني لاستعمال ذلك التعبير الطبي لأنني لم أجد غيره، وقلت يومها عنه إنه أساسا يُمثل ” حالة نفسية لا عضوية، حيث نجد أن الأنثى في سن الخصوبة (بالتعبير الطبي) يستثيرها من تحبه، فتتفاعل معه، وقبل أن تصل إلى القمة يتخلى عنها الرفيق، ضعفا وخورا أو جهلا وأنانية.

وتكبت مشاعرها، حياء وعفة، لتنتظر محاولة أخرى، ولكن ما حدث يتكرر…مرتان …ثلاثة …أكثر …

وفي لحظة معينة يتوقف تفاعلها، ولا تفيد أي إثارة أو استثارة، فقد ماتت المشاعر وتجمدت الأحاسيس، وتحولت الأنثى إلى رخام بارد كرخام القبور (كتاب انطباعات 1985 – ص 361)”.

وقلت يومها حرفيا ما لا أعتذر عن اجتراره لأنه كان من النتائج التي وصلنا إليها بعد الزيارة اللعينة التي دمرت سورا كنا نحتمي وراءه من أطماع الكيان، قلت: “كان يكفي في الخمسينيات أن يلقى القبض على مناضل لكي يلتهب الوطن العربي ويُلهب العالم معه، وأما في الثمانينيات (نعم …في الثمانينيات) فلم يعُد مئات الشهداء من الأطفال والنساء والعجزة في مستوى استثارة شارع واحد (فماذا عن 2023، حيث لم تضع تلفزة عربية واحدة على شاشتها، فيما تابعت، مجرد شارة حداد خجولة والشهداء يتساقطون في فلسطين بالآلاف)”.

ولعلي اليوم أستطيع القول بأننا كنا مخترقين إلى درجة لا تصدق، وهو ما يجب أن نتوقف عنده بالتحليل الدقيق الذي لا يحتمل أي غرور قومي.

فما عشناه، والذي كان يتطلب فعلا “سيف الحجاج”، تمت مواجهته بتهاون ولا مبالاة متصورين أنه مجرد مواقف فردية لا تستحق عقابا أو تجريما، في حين كان أمرا دُبّر بليل.

كانت جلّ الأنظمة ترفع شعارات الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية التي كانت تلهب حماسنا في الخمسينيات والستينيات،  ثم أجهض كل شيئ لأن تلك الأنظمة، في معظمها، اعتمدت “المنطق الأمني” في التعامل مع “ما هو سياسي”، وتولى الإعلام المرتزق تلميع الرجال والمواقف والإنجازات، وراحت الجموع تعيش وضعية من يجمعها طبلٌ وتفرقها عصا.

وتسرب إلى مجتمعاتنا من حاولوا تقزيم كل إنجاز وطني، وتسفيه كل ما يبعث على اعتزاز الشعب بماضيه وبرجاله.

وأتذكر أنه ظهر عندنا في الجزائر من راح يدعي بأن من الخطأ أن نطلق تسمية “الشهداء” على الملايين الذين روت دماؤهم أرض الجزائر، وحجته أنهم ماتوا من أجل قضية دنيوية وليس في سبيل نصرة دين الله، وكان ذلك الدعيّ يرفض استعمال صفة “الجهاد” لمن واجهوا أقوى قوى المتوسط، والذي كان من أبسط نتائجه أن كاتدرائية “كيتشاوة”، في قلب العاصمة الجزائرية، عادت مسجدا من جديد لتسجل الوفاء لثلاثة آلاف قتلتهم السلطات الفرنسية داخل جدرانه لتجعل منها كنيسة.

وكان من إنجازات شهداء نوفمبر أن العلم الأخضر والأبيض حامل الهلال والنجمة حل محل علم اللائكية ثلاثي الألوان، وأن الأذان يرفع خمس مرات عبر أكبر بلد عربي إفريقي، وإذا لم يكن هذا نصرة لدين الله فكيف تكون النصرة.

وكان السؤال الذي طرحتُه يومها: من يقف وراء تلك الأقاويل، التي تكامل معها فحيح إعلامي يستنكر المبالغة في إنتاج أفلام عن الثورة، في حين أن عدد تلك الأفلام لم يتجاوز بكثير أصابع اليد الواحدة، وتمكنت عناصر معينة من إخفاء فيلم “الليل يخاف من الشمس” لأنه يفضح العناصر الانتهازية التي راحت تتغنى بالثورة بعد أن بُحّ صوتها في تمجيد الاستعمار.

ورحنا نسمع من نفس المُعممين في أكثر من بلد عربي كان يعمل لتحقيق التنمية الوطنية اتهامات مبتذلة لقادتها ممن رفعوا شعارات بناء الوطن ومواجهة التسرب الأجنبي، وكان الغريب في الأمر أن “الدعاة” راحوا يكررون نفس ما يقوله المستعمر من أن القادة هم دكتاتوريون متسلطون، ومنهم، للأمانة من كان كذلك، وهو ما يتطلب الدراسة والتحليل، ليستفيد الحاليون من الغابرين.

وكان أحد أولئك يخطب، علنا ومهيجا المصلين، محذرا الطغاة الجبابرة من مصير أمثالهم البائدين، ويصرخ …أين هامان …أين طالوت …أين قيصر …أين هولاكو ؟؟ ولا يجرؤ أحد على أن يقول له، خوفا من أن يضربه المصلون المتحمسون، إن الموت حقّ على الجميع، وإن الخلفاء الراشدين أنفسَهم هم في رحاب الله، وعند الله يلتقي الخصوم.

ووصل الأمر بأحد الدعاة، وهو للأمانة من أروع من فسروا القرءان الكريم، لكن ولائه السياسي كان لغير من ينص عليه كتاب الله، فقال بأنه “عندما سمع بهزيمة الجيش المصري في حرب 1967 صلّى ركعتين شكرا لله، لأن النصر لو حدث لكان الفضل فيه للشيوعيين”.

في المقابل لم يكن اليساريون، وكمجموع عقائدي وبرغم أفرادٍ منهم كان لهم إنجازهم المتميز، لم يكونوا أقل سوءا، فقد رفضوا الانسجام مع الحركة الوطنية بحجة أن المعركة هي ضد الرأسمالية التي تفرض علينا أن نلتحم مع “البروليتاريا” الفرنسية لا أن نحاربها.

وكان الغريب العجيب هو صراع أنظمة رفع كل منها نفس شعار النظام المعادي، وقاتل رافعو علمٍ معينٍ من يرفعون نفس العلم، وحارب من يقرءون الفاتحة آخرين يقرءون نفس الآيات الـ14، ولا حديث عن تصاعد التناقض بين مقرئي رواية ورش وآخرين يفضلون رواية حفص، وأصبح “الفاروق”، في وقت واحد، رمزا يمجده مسلمون وينتقص من قدره مسلمون آخرون.

وحُقنت الشعوب بجرعات هائلة من الشوفينية العمياء الحمقاء، اعتمدت على ماضٍ لا شك في عظمته، وراحت أجيال تنسب لنفسها فضل أجيال صنعت التاريخ لكنها لم تورث أحفادها عناصر عظمته، وهكذا أصبح عندنا من يتعالى عمن حوله بل عن واقعه نفسه، ناسيا أومتناسيا أن اليونان كانت يوما عظيمة وأن روما كانت يوما جبارة وأن إسبانيا والبرتغال فتحتا العالم وتركتا بصمات وجودهما في كل مكان، لكن أين محل أي منها اليوم من الإعراب.

هل نفهم الآن لماذا أصبحنا في عالم اليوم كغثاء السيل، وهل ندرك أن سبب ذلك هو أن الوطن العربي كان مخترقا إلى درجة لا تصدق، وهو اختراق نفذته من بيننا، عن وعي أو عن جهل أو بدافع تصفية حسابات، قامات من مختلف الاتجاهات والتخصصات والانتماءات.

هل نقول، كالعامة، أن “عينا” أصابتنا، أم نعترف، بتواضع أكثر من ضروري، أنه كان في صفوفنا ألف ألف “إيلي كوهين”، وهل ندرك أن هذا يفرض أن نفكر كيف نقوم بتطهير الصفوف، انطلاقا من وقفة نقد ذاتي نراجع خلالها مسيرتنا، أفرادا وحكومات وشعوبا، وأن نتذكر مقولة البشير الإبراهيمي الرائعة:   لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

وفي غير هذا يتحتم علينا أن نقول…غطيني يا صفية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!