الرأي

وأخيرا .. كرة الثلج في صحراء العرب

بشير مصيطفى
  • 4227
  • 10

اهتزت القاهرة ومدن أخرى على وقع الاستبداد والظلم والفقر، ليؤكد المشهد المصري مرة أخرى مضامين “سوسيولوجيا الثورة” التي تعني أن الظلم إذا اتسعت رقعته هوى بالسلطان وخرب العمران. وها نحن نشهد السلاطين الظلمة يتهاوى الواحد بعد الآخر، ولكن العمران أيضا يدفع الثمن لأن فرصا ذهبية للتنمية تضيع بفعل الفساد والتمييز وغياب المسؤولية الاجتماعية. فماذا يعني أن تطالب مصر برحيل حاكمها ومحاكمة نظامها أياما قليلة بعد فرار حاكم تونس من أرض “القيروان”؟ وهل تترشح دول أخرى لنفس المصير كي تواصل كرة الثلج المتدحرجة طريقها عبر صحراء العرب؟

علم  اجتماع  الثورة  أو  نهاية  الظلم
 
 تختزن النفس البشرية قدرة هائلة على مقاومة الظلم وتتسع الحكمة أيضا لكثير من الصبر قبل أن تعبر تلك القدرة عن نفسها، هذا ما وقع في فجر الدعوة الاسلامية عندما أذن الله للمظلومين في مكة أن يحولوا تلك القدرة الى منهج مقاومة يرسم نهاية مهلة الصبر بالتعبير القرآني المعجز “أذن” في قوله تعالى: “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير”، ولم يشرع الاسلام “الجهاد” إلا بعد فترة طويلة من التحمل والصبر والتصابر سما خلالها اسم “بلال بن رباح” كضحية حي للتمييز، الاستبداد، والظلم، ثم تحول مبدأ الثورة على الظلم إلى قاعدة  أسست  لسوسيولوجيا  الثورة .
 وتبدأ مشاهد الثورة في “اللاوعي” خلال فترة الصبر والصمت، وعندما تنتقل الى “الوعي” بفضل ظروف تاريخية تتخلص من امكانية الرجوع لصالح “اللارجوع” حيث يفقد الظالم كل أدوات المراجعة ولا تجدي بين يديه آليات الاصلاح أو التغيير إلا بتغيره هو وتحوله إلى هدف حقيقي للثورة. هذا بالضبط ما حصل مع “جهلة قريش” ومع “حاكم تونس الأسبق” ويحدث حاليا مع “رئيس مصر” وربما مع حكام عرب آخرين. عندما تنتقل إرادة التغيير إلى الوعي الشعبي انطلاقا من اللاوعي المكبوت تفقد السلطة سلطتها فتتلاشى.
 
المشهد  العربي  على  سلم  الظلم
 
مرت الشعوب العربية في أغلبها بفترة الصبر والتحمل وفق النموذج الذي مر به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في “عام الرمادة”، ولم تتأخر جل الحكومات في الوطن العربي التي حكمت تلك الشعوب بعد مرحلة “الاستعمار الأجنبي” في ممارسة الفساد، التهميش، الإرهاب الإداري،  القمع،  التزوير  الذكي  للانتخابات،  الإدارة  البوليسية  لشؤون  الدولة،  مصادرة  الرأي،  احتقار  الطبقات  المحرومة،  تشجيع قيام  البرجوازية  الصغيرة .
وهي تفعل ذلك موازاة مع عملها الطبيعي الذي هو إقامة المشروعات، نشر التعليم، حفظ الأمن، الدفاع عن الحدود، الخدمات الصحية. ولكن عندما ترى الشعوب أو تحس بأن منافع تلك الإنجازات والخدمات توزع على غير عدالة بين المواطنين أو أن المظالم المنجرة عن توزيع ثمار النمو أكثر من المنافع ذاتها يصبح الشعور بالظلم شعورا عاما، أما إذا تجاوبت درجة الوعي السياسي مع حالات “الاستبداد” وتراجع الحريات ومنسوب المشاركة في إدارة الحكم، فإن سقف المطالب يطال نظام الحكم ذاته الذي يبدأ في فقدان أوراقه الضاغطة كلما استمرت المظالم في التوسع  والتجذر  حتى  تنتهي  تلك  الأوراق  جميعها .
 
عن  المشهد  الجزائري
 
 كتب إلي أحد القراء يقول: “في الجزائر العميقة مشاهد للفقر والتهميش لا توصف” فكتبت له: “وأزيدك من الشعر بيتا، ففي المدن الكبرى أيضا مشاهد لليأس والتمييز والظلم لا تخطر على بال”، والحياة في جزائرنا الحبيبة صعبة والكل يشكو من تدني الخدمات وضعف الاستقبال والطرق المهترئة ومن العنف والانحراف والمخدرات والسرقات. وبالفعل أعقب فترة الاستعمار بالجزائر فراغ كبير في مجال الديمقراطية والحريات وجودة الحكم، ثم حلت مرحلة السبعينيات فارتمت الجزائر في أحضان الحكم الاشتراكي بسلبياته المعروفة وفقد الاقتصاد روحه الخلاقة والتعليم روحه الأصيلة، ثم حلت مرحلة الثمانينيات، لتتنفس الجزائر بعض التغيير ولكن على سلم السوق فقط، مما أسس لنشوء “البرجوازية الصغيرة”، وفتحت مرحلة التسعينيات عينيها على أمل في التغيير الشامل، ولكن كل شيء تراجع تحت ضغط عوامل نفسية واقتصادية وسياسية يعرفها الجميع، وفقط باب الاقتصاد ظل مفتوحا للتغيير باتجاه تحرير السوق ولكن بمنهجية المؤسسة الدولية وبرنامج التعديل الهيكلي ودون دراسة اجتماعية أو أخلاقية أو تربوية، مما ساهم في تجذر البرجوازية الصغيرة وصناعة تحالف جديد بين المال والسلطة وجد في تسهيلات الادارة وضعف الأداء  القضائي  والحكومي  والبرلماني  معا  وتزايد  الريع  المناخ  الملائم  لتحقيق  الثروة  ولكن  على حساب  التوازن  الاجتماعي  والجهوي . 
وهكذا، لم تواكب السياسة الاقتصادية للبلاد التطورات التي حدثت في ديمغرافية المجتمع ولا احتياجات السكان ولا تحديات الأسواق، فنزلت القدرة الشرائية للمواطنين بسبب جمود سياسة توزيع الدخل، ونزل أداء المؤسسة المنتجة بسبب تساهل السلطات مع منظومة التجارة الخارجية، وزاد الفارق بين الطلب على السكن الاجتماعي والمعروض منه بسبب ارتفاع عدد المستحقين من جهة وسوء توزيع الوحدات السكنية من جهة ثانية، وظل سوق الشغل هشا بسبب ضعف السياسة الاقتصادية المبنية على الريع بدل الانتاج وعلى التعليم لأجل التعليم بدل التعليم لأجل الحياة والعمل. وساهمت الإدارة البيروقراطية في تعطيل عجلة التنمية من نواح عدة: طرد الكفاءات، سوء تخصيص الموارد، تعطيل المشاريع المنتجة، إضعاف الجهازين المالي والبنكي للدولة، إفراغ السياسات النقدية والمالية من محتواها الاقتصادي وأخيرا تيسيير سبل الفساد أمام الفاسدين  وعلى  رأسها  سلوك  الرشاوي  والمحسوبية  واستغلال  النفوذ . 
والنتيجة  بكل  تأكيد : تكون  طبقة  اجتماعية  هشة  وغاضبة،  توسع  عدد  العاطلين  عن  العمل  والفقراء،  ازدياد  شريحة  المهمشين  وتراجع مؤشرات  التنمية  وجودة  الحياة  كما  يؤكده  آخر  تقرير  دولي  نشر  السبت  الماضي .
 
هوامش  الاصلاح
 
 يتمتع النظام السياسي الجزائري بهامش متقدم – مقارنة بكثير من الدول العربية ذات الميزات المتشابهة – على سلم التغيير الحقيقي، فهو نظام لا يوصف بالدكتاتوري ولم يستهلك جميع أوراقه في التدخل حتى الآن، ومازالت الثورة عالقة في “لاوعي” الشعب ولكنها مرشحة لتنتقل إلى “الوعي” إذا لم تبادر السلطات إلى إطلاق رسائل تفيد بإرادة الاصلاح في أقرب وقت. ويمكن للسلطات أن تعبر عن ذلك باعتراف سياسي على ضرورة التغيير ليس لضعف في النظام ولكن بسبب طبيعة التحول وضرورة التطور والحكمة أيضا. وسيتفهم الشعب بكل تأكيد أية رسالة جدية وحقيقية في هذا الاتجاه. ولقد شرعت بعض الدوائر فعلا في ذلك من خلال تعليمات الوزير الأول ومبادرات بعض الولاة، ولكنها تعليمات مشتتة ومبادرات جزئية والمطلوب الآن خطاب سياسي يبشر بجزائر مختلفة وعادلة حيث ينال كل مواطن حقه في العيش الكريم، وكل إطار حقه في التصنيف الاجتماعي وكل مظلوم حقه في استرداد مظلمته، وكل صاحب حق حقه في إسماع صوته، وكل صاحب رأي حقه في التعبير عن رأيه، وكل ناشط سياسي أو حقوقي حقه في ممارسة الديمقراطية كما تمليها مبادئ الحرية، وكل مثقف أو مفكر حقه في استرداد مكانته ضمن السياسة الثقافية للبلاد، وكل مستثمر  حقه  في  حماية  الدولة  له،  وكل  موظف  أو  عامل  حقه  في  التأمين الوظيفي  والاجتماعي،  وكل  مسؤول  حقه  في  ممارسة  صلاحياته  وفق  القانون  والضمير  والأخلاق .
عندما تستعد السلطات لإطلاق رسائل في هذا الاتجاه يكون عليها إذن توفير الآليات والوسائل للشروع في التغيير المنشود حيث لم تترك التجربة السابقة للمواطنين فرصة لتصديق الوعود بحياة أفضل وخاصة عندما تأتي تلك الوعود من جهة يصنفها الجميع في خانة السلطة أو في الموقع  المعرض  لكرة  الثلج  المتدحرجة  في  صحراء  العرب .

 
 
 

مقالات ذات صلة