وزارة الارتجال والتخبّط
يبدو أن وزارة التربية ستحطم الرقم القياسي في التراجع عن قرارات تتخذها ثم تصر عليها إصرارا، وفي نهاية المطاف تتراجع عنها تحت ضغط التلاميذ أو الأساتذة أو المجتمع، فمنذ وصول الوزيرة الحالية إلى رأس قطاع التربية، تميزت قراراتها بالارتجال والتسرع الدال على عدم إدراك لكثير من الحقائق التربوية والاجتماعية، والسياسية أيضا.
في ظرف شهر واحد، تراجعت الوزيرة عن قرارين اتخذتهما، ورضخت لرغبة التلاميذ الذين غدوا -على ما يبدو- أصحاب الكلمة العليا تقريبا داخل هذا القطاع، في وضع أشبه بممارسات المنظمات الطلابية داخل الجامعات في العقدين الآخرين، ما حوّل الشأن التربوي وقرارات الوزارة إلى مجال للسخرية، وأفقد هذا القطاع الحيوي البقية الباقية من هيبته.
ومنذ أسابيع تراجعت الوزارة عن قرار ارتجالي وغير بيداغوجي، عدلت بموجبه رزنامة الباكلوريا. هذا القرار الذي أخرج تلاميذ الأقسام النهائية في عدة ولايات إلى الشارع، وجعل الوزارة ترضخ لمطلب التلاميذ المشروع والمنطقي. وهاهي الوزارة الآن تتراجع مرة أخرى عن قرار متسرِّع وارتجالي آخر، اتُّخذ من دون استشارة أو دراسة ميدانية أو دراية بتبعاته؛ فمنذ أسابيع أعلنت الوزارة عن تقليص العطلة الشتوية من أسبوعين إلى أسبوع واحد.
وبما أن التلاميذ أدركوا لعبة القط والفأر مع الوزارة، فإنهم عرفوا أن الفوضى والشغب والشارع هو الحل، وكان لهم ذلك. وبشكل مفاجئ قررت الوزيرة أن العطلة ستكون ابتداء من 20 ديسمير إلى غاية 8 جانفي، وبقدرة قادر أصبحت المعايير الدولية تسمح بـ 18 يوما عطلة!
وعلى الأرجح، أن القرار جاء من جهات أعلى من الوزيرة خشية انفلات الوضع، بعد توسُّع حالات الشغب إلى عددٍ من الولايات، فمنطق أولوية السياسي على التربوي حسم القضية، ولو كان ذلك على حساب هيبة وزيرة التربية وقراراتها.
في الواقع يقف المرء عاجزا عن وصف هذا العبث والارتجال في تسيير الملف التربوي، ويبدو أن الوزيرة لا تكفُّ عن تقديم مبررات مجانية لمعارضيها وخصومها، للتهجُّم عليها وعلى خياراتها، ففي كل مرة تكشف الوزيرة عن مدى افتقادها لأي رؤيا إصلاحية حقيقية، فلا الوزيرة مدركة لحجم الدمار الذي لحق بالقطاع التربوي وذهنية التلاميذ والأساتذة معا، خلال العقود الأخيرة – نتيجة في الواقع لإصلاحات بن زاغو التي كانت الوزيرة أحد أهم مهندسيها بالإضافة إلى السياسات العامة للدولة- ولا مستشاروها والمحيطون بها قادرون على تقديم الاستشارات والدراسات الميدانية اللازمة، قبل اتخاذ مثل هذه القرارات.
الأمر الذي يعنينا أكثر في هذا الشأن، هو أنه لا الوزيرة ولا مستشاروها درسوا إشكالية العطلة وقرارهم جيدا، ومدى نجاعة هذا الخيار في هذا الظرف. لأن العام والخاص، وخاصة الأساتذة والمعلمين، يعرفون جيدا أن العادة جرت أن تُجرى امتحانات الثلاثي الأول والثاني أسبوعين قبل العطلة، ولكن الشاهد أن الأسبوعين الأخيرين قبل العطلة، يشهدان في واقع الأمر حالة من التراخي والاسترخاء من دون تحصيل علمي فعلي، خاصة في الإعدادي والثانوي، فخلال هذين الأسبوعين، يكتفي أغلب الأساتذة بتسليم العلامات وتصحيح الامتحانات والتفرُّغ لمجالس الأقسام.. بعبارة أخرى: أسبوعان بتحصيل علمي شبه منعدم.
في الحقيقة كان بإمكان الوزيرة ومستشاريها أن يعزِّزوا التحصيل العلمي من دون تقليص العطلة بهذا الشكل غير المدروس، وهذا كإجراء أوَّلي. فكما أشرنا أن الأسبوعين الأخيرين بعد الامتحانات وقبل العطلة عادة ما يكونان بتحصيل علمي شبه معدوم، ولهذا كان يُفترض كخطوة أولى أن يتمّ تخصيص الأسبوع الأخير قبل العطلة للامتحانات، وبمجرد انتهاء الامتحانات، يدخل التلاميذ في عطلتهم. وبهذا الشكل نكون عمليا أضفنا أسبوعين من التحصيل العلمي الحقيقي من دون أن يؤثر ذلك على مدة العطلة، ولن يثير القرار حفيظة التلاميذ، بل سيثير استحسانهم. كما ستسمح فترة العطلة للأساتذة بتصحيح الأوراق في سعةٍ من أمرهم، ويمكنهم التواصل حتى مع التلاميذ أثناء الأسبوع الأول للعطلة وخاصة في ظل وجود وسائل اتصال حديثة، وتُعقد مجالس الأقسام بمجرد عودة التلاميذ والأساتذة من العطلة.
إن ضغوط الامتحانات بطبعها تجعل التلاميذ يشعرون بحاجة إلى الراحة والاسترخاء، ومن الطبيعي أن يجدوا صعوبة في العودة إلى جو الدراسة مباشرة بعد الامتحانات، والأفضل أن تكون فترة الاسترخاء هذه ضمن العطلة، وهذا هو الهدف من العطلة في نهاية المطاف.
إن مسألة العطل والتحصيل العلمي المعياري قضية تستحق مراجعة ودراسة، ولكن الخطأ الذي ارتكبته الوزارة لا يتمثل فقط في التسرُّع في مراجعة مدة العطل بين الثلاثيات، ولكن عدم إدراك خطورة بقاء التلاميذ لمدة أسبوعين تقريبا في حالة من الاسترخاء بتحصيل علمي شبه معدوم منذ سنوات عديدة. وكان الأفضل -في ظل الوضع الحالي- تأخير الامتحانات إلى آخر أسبوع، واسترجاع أسبوعين من الدراسة في كل ثلاثي، أي شهر دراسة في السنة من دون تقليص العطل.
الأغرب أن تعتقد الوزيرة أن إشكالية التربية والتعليم اليوم هي إشكالية زيادة أو نقصان أسبوع، فحتى لو ألغينا العطل تماما، فإن نوعية التحصيل العلمي في مدارسنا لن تتغير، لأن إشكالية التربية والتعليم أعمق من مجرد حذف أو إضافة ساعات تدريس أو تغيير كتب.. وهو الأمر الذي يبدو أنه استعصى على الوزيرة فهمه إلى حد الآن.
إن أي عملية إصلاح أو تغيير في جميع القطاعات، وبالأخص قطاع التعليم الحيوي، تحتاج إلى استجابة مجتمعية كبيرة، وأي تغيير أو إصلاح لا يتفاعل معه القطاع الأغلب من الشعب، يكون مصيره الفشل، مهما أنفقت عليه من أموال أو بذلت فيه من جهود. وهذا لن يتأتى إلا إذا شعر المواطن بصدق المسئولين وقربهم منه في كل شيء من خلال ممارساتهم، فلا يمكن مثلا أن يتحدث المسئول عن محاربة المحسوبية والفساد وهو يمارسها في أبشع صورها. ولن يشعر التلاميذ وأولياء الأمور بأهمية التعليم والتحصيل العلمي، وهم يرون أبناء مسئولي القطاع يتبوءون مناصب في أعلى المستويات وفي هيئات دولية، قبل حتى أن يتموا نيل شهاداتهم! ولن يستقيم الظل والعود أعوج.
********************
* إن مسألة العطل والتحصيل العلمي المعياري قضية تستحق مراجعة ودراسة، ولكن الخطأ الذي ارتكبته الوزارة لا يتمثل فقط في التسرُّع في مراجعة مدة العطل بين الثلاثيات، ولكن عدم إدراك خطورة بقاء التلاميذ لمدة أسبوعين تقريبا في حالة من الاسترخاء بتحصيل علمي شبه معدوم منذ سنوات عديدة.