-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

وقفة في أربعينية المدني حواس

وقفة في أربعينية المدني حواس
لقاء سابق بين عميمور (يسار) وحواس (يمين)

لعل أول ما أبدأ به هو تلك الأبيات الخالدة التي قالها أحمد شوقي في رثاء حافظ إبراهيم، وأراها تعبر تماما عمّا أريد قوله:  

قد كنت أوثر أن تقول رثائي   *  يا منصف الموتى من الأحياء

لَكِن سَبَقتَ، وَكُلُّ طولِ سَلامَةٍ  *  قَدَرٌ، وَكُلُّ مَنِيَّةٍ بِقَضاءِ

وَدِدتُ لَو أَنّي فِداكَ مِنَ الرَدى * وَالكاذِبونَ المُرجِفونَ فِدائي

ما حَطَّموكَ وَإِنَّما بِكَ حُطِّموا   *  مَن ذا يُحَطِّمُ رَفرَفَ الجَوزاءِ

ولعلّ البيت الأخير يمكن أن يُشير إلى الظروف التي أنهيت فيها مهام الفقيد الراحل وهو لم يصل بعد إلى سن التقاعد الرسمي، ولمجرد أن المسؤول آنذاك، والذي ضاع ذكره اليوم، رأى أو ارتأى أو رُئيَ له أن المدني حواس ممن لا يقبلون الانحناء لغير الواحد القهار.، وكان في هذه النقطة على حقا بقدر ما كان خطؤه في قرار العزل.

وكان ذلك قد تكرر بشكل مختلف، ولكنه كان يمكن أن يكون سببا في الكثير مما أصاب المدني في مساره المهني بل ومسيرته الحياتية، وهو ما أذكر به للأمانة التاريخية، ولأنه يذكر بنزاهة الراحل وباحترامه لعمله.

عندما اختارني الرئيس هواري  بو مدين لأعمل إلى جواره مستشارا لشؤون الإعلام، وكنت أحب، عند استقباله لي، أن أذكر بأسماء الرفقاء في كل فرصة مناسبة، ولاحظت يوما عند ذكري لاسم المدني أن بومدين أدار رأسه بما يشير إلى أنه لم يكن راضيا عن الرفيق.

ولعلي أزعم أنه لو كان مثل هذا الأمر حدث مع آخر يملك سلطات التأثير على المسار المهني لمن يثير غضب الرئيس لتغير مسار الرفيق بما لا يحب ولا يرتجي.

لكنني، بحكم الولاء لمن وهبني ثقته، لم أتردد في الإلحاح على الرئيس لأعرف سرّ نفوره، فقال لي ما معناه إنه لا يستطيع أن يتعاطف مع من يفرّ من أداء واجب إعلامي وطني كان قد أراد أن يُكلّفه به.

كان بومدين يعرف قدرات المدني الإعلامية، حيث كان من أعمدة الإذاعة السرية التي أنشأها سي مبروك (عبد الحفيظ بو صوف) مع مسعود زقار في الخطوط الخلفية للثورة التي احتضنتها المغرب، وكان من أهم كتاب البلاغات والأحاديث التي كان يفجرها عيسى مسعودي، والتي جعلت الرئيس بو مدين يعتبره فرقة مقاتلة من فرق جيش التحرير الوطني.

وللأمانة، تقبل الرئيس بصدر رحبٍ إلحاحي عليه لأعرف التفاصيل، فقال لي إنه طلب من وزير الإعلام في الستينيات تكليف المدني حواس بإدارة صحيفة الشعب، أمّ الصحف الجزائرية، لكن المدني رفض القيام بتلك المهمة الوطنية.

ومن حسن الحظ أن المدني كان قد أبلغني يومها بما طلبه منه وزير الإعلام، حيث روى لي بأنه قال للوزير بمنتهى البساطة إن خبرته الإعلامية هي خبرة إذاعية بعيدة عن الصحافة المكتوبة، وأنه لن يستطيع أن يكون في مستوى الثقة عندما يُكلف بإدارة جريدة تتحمل مسؤوليات وطنية بالغة الأهمية.

غير أن الوزير لم يقُلْ للمدني أن فكرة تعيينه مديرا لجريدة الشعب هي بأمرٍ من بو مدين، واكتفى بأن نقل الرفض للرئيس بدون أي تفاصيل، ربما لأنه كان قد قرر تعيين آخر في المنصب، وفوجئ بو مدين عندما بينت له حقيقة ما حدث، وتغير موقفه من المدني على الفور.

اليوم، وبعد الترحم على المدني حواس والرفيق فنيدس بن بله الذي غادرنا منذ أيام وغادرنا قبلهما الأخوان عثمان سعدي ومحمد الشريف خروبي، أرى أن من أول واجباتي تسجيل الشكر والتقدير للسيدين العيد ربيقة وزير المجاهدين ومحمد بوسليماني وزير الاتصال اللذين سارعا لزيارة المدني وهو في أيامه الأخيرة، يعاني من قسوة المرض وعبء السنين ويتعرف بصعوبة على من حوله.

 ولا أنسى وقفة الأخ محمد يعقوبي وتحركه السريع بمجرد سماعه بالمحنة المرضية التي كانت في واقع الأمر سكرات الرحيل الأخير، وكذلك  مبادرة الزملاء في جريدة “الشروق” للفت نظر السلطات إلى حالته الحرجة، مثلما فعلوا سابقا مع المرحوم عثمان سعدي.

ولقد حرصت على تسجيل التحية والتقدير للوزيرين لسبب بسيط قد يختلف عما يمكن أن يتوقعه كثيرون، وهذا السبب هو الأثر الإيجابي الهائل لذلك الاهتمام على محيط الأسرة، كبيرا وصغيرا، والذي خفف من الآثار السلبية لسنوات وسنوات من التهميش التي عانى منه المدني حواس منذ أنهِيت مهامه الإعلامية بشكل تعسفي كان له أثره السلبي على كل الكرام.

ما عانى منه المدني كان صورة مما عانى منه الكثيرون، ولم يكن للأمانة مجرد تقصير من مصالح الدولة أو مسؤوليها، وإنما كان أيضا تقصيرا من كثير من الرفاق والزملاء، وخصوصا من جلّ الذين كانوا يتعاملون معه كرائد إعلامي ومثالا يُحتذى.

وهكذا، ومنذ أنهيت مهامه، بدأ المدني حواس مسيرة طويلة في الصحراء، وحيدا إلا من ذكرياته التي امتزجت بالألم المتزايد من الإهمال الذي تعرض له من كثيرين كان من أصحاب الفضل عليهم، ولم يقف إلى جانبه في أيام مرضه الأولى إلا قليلون من بينهم الرفيق حمراوي حبيب شوقي، وأنا على ذلك من الشاهدين.

يومها كنت حملته إلى مستشفى مصطفى إثر خلل في ضربات القلب، حيث تلقى علاجا ظل يتابعه حتى لحظاته الأخيرة، وينفق من مرتبه التقاعدي على متطلبات الإصابة القلبية، وعلى ما جدّ أمراض الشيخوخة، التي زاد من وطأتها الفراغ والوحدة.

فالمرض لم يكن هو المعاناة الرئيسة، بل هو الفراغ الهائل الذي كان المدني يواجهه بخطوات يمشيها وحيدا في منطقة بن عكنون، ثم يعود إلى الشقة المتواضعة ذات الغرفتين، وهو الذي كان قادرا على أن يحصل على واحدة من أجمل فيلات العاصمة، لو قبل أن يدفع ضريبة الخنوع، وكان يردد لي أحيانا …كما ترى، أنا أعيش في “زيغو”..

وقد يبدو هنا أني أخرج عما ألفه الناس في تأبين رفيق عزيز غادرنا إلى دار البقاء، لكنني أحسست أن الوفاء الحقيقي للفقيد الراحل قد يفرض علينا وقفة نقد ذاتي، تنبهنا إلى ضرورة مراجعة النفس في تصرفاتنا تجاه من لا يزالون على قيد الحياة ممن همشتهم الوظيفة أو همشهم صغار ظنوا أنفسهم كبارا بحكم المسؤولية الإدارية التي أتت بها إليهم اعتبارات يمكن تخيلها.

وأنا ممن يعرفون حقيقة ما يُحسّ به الإطار السامي، الذي كان يعمل 15 ساعة في اليوم ثم يجد نفسه فجأة وحيدا في منزله بلا عمل ولا رفيق، يردد كلمات النابغة الذبياني : كأَنَّني * إلى الناسِ مَطْلِيٌّ به القارُ أَجْرَبُ.

وأتذكر هنا كلماتٍ مريرة صدرت عن واحد، ممن كان يُقال عنهم  أنه “يذبح بشعرة”، قال في أواخر أيامه وهو يعاني من التهميش والفراغ والوحدة: ليت جرس الهاتف يدق ولو بطريق الخطأ حتى أحسّ بأنني لا زلت حيا.

ولا أنسى أن شاعرا كبيرا فضل المنفى الاختياري في بلد شقيق، عندما لاحظ أن كثيرين أصبحوا يديرون له ظهورَهم، بعد أن تردد أن رئيس الدولة كان غاضبا منه لأنه مدح رئيس دولة أخرَ كان يناصبنا العداء، في حين أشهد أن الشاعر كان من بين ضيوف الشرف في الاحتفال الذي أقامه الرئيس تكريما لضيوف مؤتمر الأدباء العرب في منتصف السبعينيات، وأتذكر مداعبة الرئيس له بطريقته الخاصة.

ولعلها فرصة لأقول إن كثيرين من الذين لم تنلهم أنياب الأيام ومخالب المنافسين يتساءلون أحيانا عن سرّ تمسك البعض بمواقع المسؤولية، وخصوصا في الزمن الرديء، وكثيرون هم من يتساءلون بنشوة المخمور: لماذا لم يستقِلْ فلان ولماذا لم يحتجّ فلتان، وهم لا يدركون معنى أن يُعتبر المعني بالأمر خصما للسلطات العليا في البلاد، عندما لا يستطيع أن ينال أبسط حق من حقوقه.

وأتذكر كلمات قالها لي يوما أحد المغضوب عليهم من السلطات العليا وهو يعلق على من ينتقدون صمته: الأبناء مجبنة.

وأتذكر تعليقا طريفا لرفيق كان من بين من هُمشوا لسبب لا أعرفه، إذا قال لي عن رفيق له كان يحتل مسؤولية عليا في الدولة، وفشل في الاتصال به: أنا أشهد بأن هذا المسؤول رجل مشغول جدا وإن كنت لا أعرف سبب إصابته بالإسهال.

ولما سألته متعجبا عن خلفية تعليقه قال: في كل مرة هاتفت سكرتاريته لأتحدث معه كان يُقال لي إنه في اجتماع، أو لم يصل بعد، أو غادر في زيارة تفتيشية، أو يستقبل ضيفا أجنبيا.

ولما رأيت أن أطلبه في بيته قيل لي في كل مرة إنه…في الحمام.

هذا كله هو ما دفعني لأبدأ حديثي بشكر الوزيرين ويعقوبي وبعض الرفاق على وقفتهم التي أعادت الثقة لعائلة الفقيد الراحل بأن الخير في الأمة إلى يوم القيامة.

فالأيام بل السنوات المريرة التي مر بها المدني حواس كانت إلى حدّ كبير وراء خيبة أمل أصابت بعض أبناء العائلة، ففضل بعضهم الفرار إلى إسبانيا أو فرنسا أو بريطانيا، وأعتقد أن منهم من راجعوا أنفسهم اليوم وهم يتابعون ما قام به الوزيران وبعض الرفاق في مصاحبة الفقيد الراحل إلى مثواه الأخير.

وأعتذر إذا كنت خرجت عن الأسلوب المألوف في كلمات التأبين، لكنني أردت أن أقول للرفاق بكل تواضع أن التضامن مع كل من يمر بظروف صعبة، مرضا أو تهميشا وظيفيا أو معاناة عائلية، هو من أوجب الواجبات، خصوصا في الزمن الرديء، حتى لا نعتبر من أهل الرداءة كما قال عبد الحميد مهري.

وستبقى مواقف الرجال دينا علينا حتى نردها لمن يحتاجونها، وليتنا نتعظ بكلمات: لو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!