الرأي

وقفة مع فتنة التّشكيك في وقت الإمساك ووقت الإفطار!

سلطان بركاني
  • 4751
  • 10

يروّج بض الشّباب في أيام الشّهر الفضيل لدعوى غريبة؛ مفادها أنّ وقت الإمساك يمتدّ بعد الأذان الثّاني للفجر بنحو نصف ساعة! ووقت الإفطار يتقدّم عن أذان المغرب بنحو 10 دقائق.. ويزداد الطّين بلّة حينما يستدعون الأحاديث التي ترغّب في تأخير السّحور وتعجيل الفطور لتبرير إصرارهم على تناول السَّحور بعد أذان الفجر الثّاني، وتناول الإفطار قبل أذان المغرب بسدس ساعة! هذا فضلا عن مُضيّهم قدما في إذكاء فتنة إعادة صلاة الفجر بعد أدائها مع الجماعة في المسجد!

لو كانت هذه الدّعاوى التي يشتطّ هؤلاء الشّباب المنسوبون إلى الطّائفة “المدخلية” في تبنّيها والدّفاع عنها والتّرويج لها بين أصحاب المستويات المحدودة من الشّباب؛ لو كانت مبنية على شيء من الفقه والنّظر لكان من الإنصاف تمحيصها والنّظر فيها، ومقارعة الحجّة بالحجّة، مع عذر الطّرف الآخر، لكنّها في واقع الأمر دعاوى تُبنى على التعامل مع النّصوص بظاهرية جديدة تعطّل العقول وتزري بها وتزهّد في الفقه وتقرنه بالعقلانية المذمومة التي تحاكم النّصوص إلى الأهواء والأذواق!

الإصرار على أنّ وقت صلاة الفجر -ومعه الإمساك- ووقت أذان المغرب -ومعه الإفطار- يرتبطان بالرؤية البصرية وحدها من دون اعتبار لظروف تلك الرؤية، وموقع النّاظر والعوائق الماثلة أمامه، يجعل أصحاب هذه الدّعوى مثارًا للشّفقة بين العقلاء فضلا عن الفقهاء، ولعلّه يكفي في هذا المقام أن نضرب مثلا واحدا من الواقع، يربك النّزعة الظّاهرية في تحديد وقت الإمساك ووقت الإفطار؛ قرية “وكان” العُمانية التي تقع بين جبال شاهقة؛ حيث تظهر الشّمس من خلف الجبال الشّرقية في حدود السّاعة 11 صباحا، وتختفي خلف الجبال الغربية في حدود 14:30 بعد الظّهر.. فلو أخذنا بدعوى الظّاهرية الجدد أنّ الإمساك يكون عند رؤية ضوء الفجر الصادق بالعين، والإفطار يكون عند غروب قرص الشّمس، بغضّ النّظر عن العوائق!!! فإنّ الإمساك في هذه القرية سيكون في حدود 10 صباحا، أي ساعةً قبل ظهور قرص الشّمس، والإفطار يكون عند 14:30 ظهرا، عند تواري الشّمس عن الأنظار، فيكون عدد ساعات الصيام 4 ساعات ونصف السّاعة! وحتّى لو كنّا أكثر واقعية وإنصافا، وقلنا إنّ الفجر يظهر فوق الجبال في وقت ظهوره في الأفق أي في حدود الـ5 صباحا، فإنّ الإفطار وفق منظور الظّاهرية الجدد سيظلّ في 14:30؛ فيكون عدد ساعات الصيام 9 ساعات ونصف السّاعات، في الوقت الذي يصوم فيه سكّان القرى القريبة من قرية “وكان” والواقعة بعيدا عن الجبال 14 ساعة!.. والحمد لله أنّ أهل القرية لا يلتفتون إلى هذا القول الشاذّ؛ فهم يصومون 14 ساعة تقريبا، حيث الإمساك في حدود 4:26 فجرا، والإفطار في حدود 18:37 مساء.

هؤلاء الظّاهرية الجدد، حتّى وهم يشتطّون في الوقوف عند ظواهر النّصوص، كثيرا ما يتعاملون معها بانتقائية عجيبة، فيحشدون ما يظنّونه يخدم دعاواهم ويغضّون الطّرف عمّا يهدمها، بل قد تجدهم يتعاملون مع عبارات النصّ الواحد بانتقائية، فيأخذون طرفا منها ويتركون أطرافا أخرى، فتراهم –مثلا- يركّزون في حديث النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- المشهور “إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِم”، يركّزون على شرط “وغربت الشّمس”، ويتغاضون عن الشّرطين الآخرين: “أقبل اللّيل من هاهنا، وأدبر النّهار من هاهنا”؛ فليست العبرة بغروب الشّمس فقط، إنّما بتحقّق الشّروط الثّلاثة: إقبال اللّيل من جهة المشرق، وإدبار النّهار من جهة المغرب، وغروب الشّمس، وهذه الشّروط الثلاثة تجعل النّاظر يحسب حسابه للعوائق التي تحول بينه وبين الشّمس ولارتفاع تلك العوائق عن الأفق.. وما قيل عن وقت المغرب يقال –كذلك- عن وقت الفجر، مضافا إليه أنّ رصد الفجر بالعين يحتاج إلى مراعاة الظّروف المحيطة بالنّاظر، حيث يشترط ألا يكون المكان مضاء بالأضواء الاصطناعية التي تؤثّر في رؤية العين، ويشترط أيضا أن تكون جهة المشرق صاحية خالية من الغبار والضّباب والأضواء الأخرى.

إنّ القلب ليحزن حقيقة لحال هؤلاء الشّباب المصرّين على إثارة الفتن وتشكيك النّاس في صلاتهم وصيامهم، وعلى الإزراء بدين الله في زمن تطوّرت فيه وسائل الرّصد، وأضحى الاعتماد على التقدير والتقويم أكثر من ضروري لحلّ الإشكالات التي تواجه المسلمين في مختلف الدول والقارات.. ولو تريّثوا قليلا لوجدوا في النّصوص الشّرعية ما يُستأنس به للأخذ بالتّقدير والحساب؛ فقد جاء –مثلا- في الحديث الذي أخبر فيه النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- عن زمن الدجّال، أنّ الصّحابة حينما سألوه: وما لبثه (أي الدجّال) في الأرض؟ قال: “أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة (كأسبوع)، وسائر أيامه كأيامكم”، وحين سألوا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أ تكفينا فيه صلاة يوم؟ قال “لا. اقدروا له قدره”.. فإذا كانت الشّمس تبقى في السّماء ما قدره سنة، فلا يكفي المسلمين أن يكتفوا بانتظار شروق الشّمس وزوالها وغروبها ليقيموا صلواتهم، بل الواجب عليهم أن يقدروا للصّلوات وقتها ويصلّوا في ذلك اليوم صلوات سنة كاملة.. وهكذا إذا وُجد المسلم في مكان يتأخّر فيه شروق الشّمس ويتقدّم غروبها بسبب العوائق، فإنّه يلجأ إلى التقدير والحساب.

مقالات ذات صلة