-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ونحن،‮ ‬ألا‮ ‬نعمل؟

ونحن،‮ ‬ألا‮ ‬نعمل؟

إنه‮ ‬ليحزنني‮ ‬أن‮ ‬يذهب‮ ‬كثير‮ ‬من‮ ‬علم‮ ‬علمائنا‮ ‬بذهابهم؛‮ ‬لأنهم‮ ‬لم‮ ‬يكتبوا‮ ‬مقالات‮ ‬فضلا‮ ‬عن‮ ‬أن‮ ‬يؤلفوا‮ ‬كتبا‮ ‬وأسفارا‮.‬

وقد يعود عدم كتابتهم إلى مبالغتهم في التواضع، ومبالغتهم في تقدير الآخر الذي قد يتلقّى مايكتبون. فقد سألت في عام 1964 أستاذي عبد الحفيظ بدري ــ رحمه الله ــ وهو الذي حبّب إليّ العلم والأدب وزيّنهما في قلبي، وكنت أعتبره أسوة حسنة لي في الإقبال على القراءة؛ سألته‮ ‬بعدما‮ ‬قرأ‮ ‬علينا‮ ‬بعض‮ ‬أشعاره‮: ‬لماذا‮ ‬لاتنشر‮ ‬هذه‮ ‬الأشعار‮ ‬وغيرها؟‮ ‬فأجابني‮: ‬أَأَكْتُبُ‮ ‬ليقرأ‮ ‬العقاد،‮ ‬والزيات،‮ ‬وطه‮ ‬حسين‮..‬
اقتنعت يومها بجواب أستاذي عبد الحفيظ بدري، فلما شرّقت، وقضيت بضع سنين في الكويت، أتيح لي أن أقرأ كثيرا مما ينشر في الجرائد والكتب والمجلات، وأن أسمع كثيرا مما يلقى في الإذاعة، والتلفزيون، والمنتديات؛ أنكرت جواب أستاذي؛ لأن ماكنت أسمعه منه أعلى مبنى وأعمق معنى‭ ‬مما‮ ‬سمعته‮ ‬من‮ ‬بعض‮ ‬الكُتاب‮ ‬والأدباء‮ ‬وما‮ ‬قرأته‮ ‬لهم‮.‬
وممّن عرفتهم من عُلمائنا، الشيخ العباس بن الحسين ــ رحمه الله ــ الذي لم أعرفه إلا في عام 1984، ولكنّني سمعتُ عنه كثيرا ممّا يُعجب ويسرّ، فلما التقيته وعاشرته تمثّلت ببيتي الشاعر الأندلسي ابن هانئ في القائد جعفر بن فلاح الكُتامي، وهما:
كانت‮ ‬مسألة‮ ‬الرّكبان‮ ‬تُخبرني‮  ‬عن‮ ‬جعفر‮ ‬بن‮ ‬فلاح‮ ‬أطيب‮ ‬الخبر
حتّى‮ ‬التقينا،‮ ‬فواللّه‮ ‬ماسمعت‮  ‬أذني‮ ‬أحسن‮ ‬مما‮ ‬قد‮ ‬رأى‮ ‬بصري
لقد كتب الله لي أن أعمل في مسجد باريس حولين كاملين تحت رئاسة الشيخ العباس، فاستفدت كثيرا من عمله، وقصّ عليّ كثيرا من ذكرياته مع العلماء والسياسيين الذين عرفهم من الجزائريين كالإمام محمد البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني، ومحمد العربي التّبّاني،  ومن السعوديين‮ ‬كالشيخ‮ ‬محمد‮ ‬نصيف‮.‬
ومما‮ ‬رويته‮ ‬عن‮ ‬الشيخ‮ ‬العباس‮ ‬بيت‮ ‬من‮ ‬الشعر‮ ‬للإمام‮ ‬محمد‮ ‬البشير‮ ‬الإبراهيم‮ ‬قاله‮ ‬في‮ ‬السياسي‮ ‬الجزائري‮ ‬أحمد‮ ‬مزغنّه،‮ ‬وهذا‮ ‬البيت‮ ‬لم‮ ‬أسمعه‮ ‬إلا‮ ‬من‮ ‬الشيخ‮ ‬العباس،‮ ‬وهو‮:‬
وأمّة‮ ‬يقودها‮ ‬مزغنّه‮   ‬يقُودها‮ ‬للنار‮ ‬لا‮ ‬للجنّه
كان الشيخ يتمتع ــ إضافة إلى العلم في اللغة العربية والفقه المالكي ــ بشخصية جذابة وقوية، تفرض احترامها، وأشهد أنني حضرت معه بعض اللقاءات مع سفراء عرب، وبعض زوار باريس من العلماء، وبعض رجال الدين النصارى واليهود، وبعض المسؤولين الفرنسيين، وبعض الصحفيين، فرأيت‮ ‬طغيان‮ ‬شخصيته،‮ ‬لا‮ ‬بفضل‮ ‬منصبه‮ ‬ــ‮ ‬عميد‮ ‬مسجد‮ ‬باريس‮ ‬ــ‮ ‬ولكن‮ ‬بغزارة‮ ‬علمه،‮ ‬وسرعة‮ ‬بديهته،‮ ‬وجمال‮ ‬بيانه،‮ ‬وقوة‮ ‬حجته،‮ ‬وشجاعته‮..‬
ومما كلّفني به الشيخ العباس أن أخطب في الناس وأؤمّهم يوم الجمعة في مسجد باريس، فتهيّبت، وألقيت معاذيري، ولكنه أصر على ذلك، وأخبرني بسبب إصراره، فأسلمت أمري إلى الله، وتوكّلت عليه، واستعنت به..
لقد كنت أجد العنت عندما أعدّ الخطبة، فهي تنقل على أمواج “إذاعة الشرق”، فلتلتقطها آذان المسؤولين الفرنسيين، فكان عليّ أن أظهر ــ قدر الاستطاعة ــ عظمة الإسلام، وسمو قيمه، وقوة مبادئه، وصلاحيتها للبشرية جمعاء، وكان عليّ ــ في الوقت نفسه ــ أن لا أشط في الخطاب،‮ ‬ولا‮ ‬أتطرف‮ ‬حتى‮ ‬لا‮ ‬أعطي‮ ‬أي‮ ‬مبرر‮ ‬لانتقاد‮ ‬المنتقدين‮ ‬وتدخل‮ ‬المتدخلين،‮ ‬وما‮ ‬أكثر‮ ‬هؤلاء‮ ‬وهؤلاء‮ ‬في‮ ‬باريس‮.‬
وكنت أحرص على سلامة اللغة؛ لأن الشيخ ــ رحمه الله ــ لايتردد في توجيه النقد لأي شخص ــ كانا من كان ــ إذا أخطأ في اللغة العربية، نحوا، أو صرفا، أو وضعا لكلمة في غير موظعها، وبقدر ما أعنتني ذلك وأرهقني من أمري عسرا، فقد أفادني كثيرا.
لقد أوتي الشيخ العباس حبّ العمل، والقدرة عليه، وكان ــ كما يقال ــ “لايعرف أحدا من اثنين أو خميسا من جمعة”؛ فأيام الأسبوع عنده كلها عمل، رغم ما في ذلك من إفراط؛ لأن لبدنك عليك حقا، كما قال رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم.
إن دروس الشيخ دروس حية؛ لأنه يتناول فيها واقع المسلمين، ومايعيشونه من مشكلات، فيتجاوب معه الناس، ويقبلون عليه لما يجدونه في كلامه من صدق، وشجاعة.. وبعدما أنهى درسا ذات يوم بدأ يدعو: اللهم.. ثم توقف عن الكلام، وأجال بصره في الناس وقال: إن الله لايقبل دعاء بلا عمل.. إننا نردد: اللهم أعطنا، اللهم آتنا، اللهم هب لنا، هل الله ــ عز وجل ــ هو فقط الذي يعمل، ونحن ألا نعمل.. ألم يقل ربُّنا ــ عز وجل ــ: (وقل اعملوا.. )، ألم يردد ربنا سبحانه وتعالى الحديث: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات). إن إبراهم واسماعيل ــ عليهما السلام ــ دعوا الله وهما يرفعان القواعد من بيت، وإن أحد الصحابة سأل رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ أن يدعو الله له ليكون معه في الجنة، فقال له رسول الله ــ عليه الصلاة والسلام ــ أعني بكثرة السجود.. (أي بالعمل).. ثم أمر بإقامة الصلاة.
رحم‮ ‬الله‮ ‬الشيخ‮ ‬العباس‮ ‬رحمة‮ ‬واسعة،‮ ‬وغفر‮ ‬له‮ ‬وللمسلين،‮ ‬وفقهنا‮ ‬في‮ ‬دينه‮ ‬القويم‮ ‬لنكون‮ ‬أهلا‮ ‬للانتساب‮ ‬إليه‮…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!