-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

.. ويترجل الفارس الثالث

.. ويترجل الفارس الثالث

..كانوا ثلاثةَ أطباء سوريين من مناضلي حزب البعث العربي الاشتراكي، تفاعلوا عمليا مع الثورة الجزائرية فالتحقوا بجيش التحرير الوطني في النصف الثاني من الخمسينيات، والتقيتهم آنذاك في قرية “تاجروين” الحدودية حيث كانوا عاكفين على علاج جرحى الجيش ومرضى اللاجئين.

وتستقلّ الجزائر، ويعود الأطباء الثلاثة إلى بلادهم لممارسة النضال الحزبي على ضوء شعار البعث الذي لم يتحقق أبدا، ولم تتحول الأمة العربية إلى “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، خصوصا بعد أن تفجر الصراع بين البلدين الجارين الوحيدين اللذين يرفعان شعار البعث.

وتولى الدكتور الطبيب نور الدين الأتاسي رئاسة الجمهورية، والدكتور يوسف زعين رئاسة الوزراء، وهما من السنة، وتولى الدكتور إبراهيم ماخوس، وهو من العلويين، وزارة الخارجية، وكان الثلاثة يستندون إلى حد كبير على اللواء صلاح جديد، أقوى ضباط الجيش آنذاك وطليعة الضباط العلويين.

وعرفت العلاقات الجزائرية السورية آنذاك عصرها الذهبي، فقد كانت سوريا ملاذا للأمير عبد القادر وفتحت أبوابها للمهاجرين الجزائريين، بل وفتحت أمامهم أبواب المراكز العليا في الدولة وفي الجيش، وهكذا وصل اللواء خليفاوي، وهو قبائلي من منطق عين الحمام، إلى مرتبة رئاسة الوزارة.

وكان موقف حزب البعث من الجهاد الجزائري مبعث تقدير قيادة الثورة الجزائرية، خصوصا عندما عُرف أن قيادة البعث منعت مناضليها من أي محاولة لتجنيد جزائريين، على أساس أن الالتزام الوحيد أمامهم هو جبهة التحرير الوطني، وهو ما كنت سمعته من الدكتور ماخوس منذ سنوات وكتبته في حينه.

غير أن ذلك لم يكن كل شيء، فقد دعمت العلاقات بين البلدين شعارات الحرب الشعبية التي رفعها البعث، وهو ما كان منسجما مع الرأي الجزائري القائل بأن الحرب النظامية لن تنجح وحدها في إسقاط العدوان الإسرائيلي، وتزايد التنسيق إثر هزيمة 1967، برغم أن كثيرين كانوا يرون أن القيادة السورية كانت، وغالبا بدون أن تدرك ذلك، وراء الفخ الإسرائيلي الذي قاد جمال عبد الناصر إلى سلسلة من المواقف انطلاقا من المعلومات عن وجود حشود إسرائيلية تهدد سوريا.

ويقدر الجنرال البعثي صلاح جديد أن تنظيم العمل الداخلي يتطلب منه أن يتفرغ للعمل السياسي فينسحب من الجيش ويركز على نشاطه الحزبي، بنفس منطق الكتلة الاشتراكية، ولم يدرك أن قاعدة السلطة ودرعها وقوّتها الضاربة هي القوات المسلحة، وهكذا يواجه الأحداث عاريا من مصدر قوته الرئيسي ويقوم الجنرال حافظ الأسد، قائد الطيران العلويّ وأكبر ضباط حزب البعث رتبةً بانقلابه في 1970، ويوضع صلاح جديد والأتاسي وزعين في السجن في ظروف تتضاءل أمامها كلُّ بشاعة، بينما ينجح ماخوس في الفرار والالتحاق بالجزائر، التي فتحت له ولعائلته صدرها، باعتباره كان مجاهدا في صفوف الثورة الجزائرية، لكنه رفض كل امتياز توفره له سنوات جهاده وأصر على أن يعمل كطبيب جرّاح في مستشفى مصطفى الجامعي، مساعدا للجراح الجزائري الدكتور بشير منتوري.

ويصاب الدكتور يوسف بمرض خبيث في رأسه ويقول الأطباء أنه سيموت قريباً، ولكي لا يموت في السجن أفرج عنه في 1981 وذهب إلى بريطانيا ثم إلى السويد للعلاج, حيث أجريت له عملية جراحية خطيرة، تماثل على أثرها للشفاء، وانتقل إلى العاصمة المجرية “بودابست”، ثم استقرّ عند ابنه في السويد.

وكانت للدكتور زعين آراؤُه عن الانشقاق بين البعث السوري والبعث العراقي، ويروي الكاتب المصري الهامي المليجي بأن زعين قال له إن  ميشيل عفلق ليس ثوريا، وإنما إنسان حالم يجلس في “الحمام” 3 ساعات. ويقول إن “حزب البعث العراقي تأسس على قاعدة نضالية، لكن تصفية مناضليه الحقيقيين حوّلته إلى إدارة قمع وسلطة، وتلك نتائج سيادة خط ميشيل عفلق، الذي أزحناه واعتقلنا طارق عزيز في 1968“.

ويشير إلى أن حافظ الأسد كان يخشى من طموحات صدام حسين.

ويتكلم زعين بحزن شديد عن هزيمة 5 يونيه “حزيران” 1967 والانكسار النفسي الذي تسببت فيه متهما الملك حسين بأنه “وضع قشرة موز أمام قدم عبد الناصر وورّطه في حرب 1967، مستطردا بأن “عبد الناصر قال لي في ذلك العام: لدينا جيشٌا من الكشافة” ويوضح أن الجيش السوري انهار عندما سمع بالانهيار على الجبهة المصرية، وبعد ذلك ينتقل بالحديث إلى قرار مجلس الأمن 242 الذي يطالب اسرائيل بالانسحاب إلى حدود ما قبل 5 يونيه “حزيران” قائلا إن “عبد الناصر هو صاحب صيغته”.

كما روى أن عبد الناصر قال ليوسف زعين: “إن هيكل وحمروش والعالم وغيرهم يأخذون مني مرتّبات”. ويؤيد النظرية التي تزعم أن عبد الناصر مات مسموما، قائلا: “إن هيكل يعرف الكثير لكنه صامت، وكتب عن أشياء غير حقيقية، وهو ملغوم ويتلاعب بالمعلومات، ويجب أن تنتبه الأجيال وهي تقرأ له”، ثم وضع هوامش كثيرة على كتاب “الانفجار” لهيكل، مضيفا أنه “أورد وجهة نظري محرّفة ومضحكة”، ويقول زعين إن “ما قاله باتريك سيل حول البروتوكول مع ديغول ليس صحيحا، هو ملفق للأحداث، كما لفق قصة اختبائي، وأن الفرنسيين في عهد ديغول كانوا أكثر تفهما”.

وهكذا، وبعد صمت طويل، كتب يوسف زعين مذكراته التي نشرها الصحفي المصري، وكان بالتالي أكثر وجودا من رفيقه إبراهيم ماخوس، الذي كتب مذكراته في مئات الصفحات وسلمها لمركز البحوث التاريخية في الجزائر، ولكن المركز لم يقم بنشرها، وأعيدت الأصول إلى أرملة الدكتور ماخوس، ليضيع جانبٌا هاما من التاريخ.

وينتقل الدكتور نور الدين الأتاسي إلى رحاب الله في سوريا بينما يواصل ماخوس نضاله في الجزائر، وبإمكانياته الخاصة، إلى أن توفاه الله منذ نحو عامين.

وبالأمس تبلغني أرملة الدكتور ماخوس بوفاة الدكتور يوسف زعين في السويد، وأبلغ من رأيت أنهم قادرون على إخطار من يهمهم أمر الوفاء الجزائري، وأكتب هذه السطور تحية للفارس الثالث الذي ترجّل بعد صراع طويل مع ظروف الحياة ومعاناة المرض.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • ahmedzane

    كالعادة لم تبخل علينا من روائح الرجال رحمهم الله وترحل بنا ميدان كل الجزائريين يشتاقون إليه زدنا بارك الله فيك شهادتك تهذب النفوس

  • capital dz

    أخيرا يا خالد مشعل!! .. هل تأخرت كثيرا مواسم الزيتون؟

  • capitaldz

    إننا في حركة المقاومة الاسلامية حماس نشهد أنه لا مسلم قدم لفلسطين ما قدمه لها بشار الاسد ولا سني ضحى وخاطر بحكمه وببلده من أجل فلسطين ورفضا للتضييق على المقاومة الفلسطينية كما فعل بشار الأسد وعلى الشيخ القرضاوي إن لم يكن لديه معطيات حقيقية عن سورية أن يستمع إلى الشعب السوري وإلى علماء الدين من أبنائه ليعرف ان في هذا البلد يملك أهل السنة من الحرية والكرامة والعزة بالله ما لا يملكه غيرهم في بلاد يحكمها سنة ولكنهم ضعفاء أمام الامريكي ومتخاذلون عن نصرة فلسطين" ..

  • capitaldz

    إن الشيخ القرضاوي يتحدث عن الاحداث في سوريا كما لم يتحدث عن الاحداث التي جرت في مصر فهناك دعى إلى الوحدة بين الاقباط والمسلمين وبين السلفيين والاخوان وبين المذكورين وبين العلمانيين وهنا في سوريا يدعو إلى القتال بين السنة والمسلمين العلويين ؟؟ سبحان الله ..

    إننا في حركة المقاومة الاسلامية حماس نشهد

  • capitaldz

    " إن حكام السنّة في العالم العربي باعوا قضيتنا .. وأبرز شيوخ السنة تخلوا عن أهلنا ..ولم تجد حركة حماس سوى الرئيس بشار الاسد ليحميها ويدعمها ويقف إلى جانبها، وحين طردنا الحكام العرب السنة آوتنا سوريا وبشارها، وحين أقفلت ابواب المدن في وجهنا فتحت لنا سوريا قلبها وحضنت جراحنا ، لذا اقول للشيخ القرضاوي من منطلق المحب العاتب ، إتق الله يا شيخ بفلسطين فسوريا هي البلد الوحيد الذي لم يتآمر علينا ويدعمنا وما تقوله عن عن وحدتها الدينية يصيب قلب كل فلسطيني بالحزب ويخدم إسرائيل ولا احد غير إسرائيل..

  • ماهر عدنان قنديل

    نحييك الأستاذ محي الدين عميمور على هذا المقال الجميل والمهم الذي يعرف أبناء الشعبين الجزائري والسوري مدى التلاحم والتوافق بين البلدين.. ونترحم على الفارس الثالث الزعين كما نترحم على ماخوس والأتاسي هؤلاء الثلاثة الذين أعطيا الكثير للبلدين

  • سعد

    السلام شكرًا يا أستاذ و الله أني احبك في الله

  • mourad skikda

    Allah yarham el fourssane et grand merci, votre honneur amimour

  • س س

    و نحن نقرأ التاريخ بعد الترجل.

  • Observer

    Une vraie encyclopédie comme vous êtes... Mr Amimour, avec respect et gratitude.

  • فخور

    الفرسان هم وحدهم يترجلون متى شاء الله بعد الصراع المرير مع الشر و الغدر .و ليست الحدود تثنيهم . رحمه الله و اسكنه جناته