ويسألونك عن حرّية المعتقد
يبدو أن الذين ألِفوا الجمود في قراءتهم للنصوص والمتون ممن ساهموا في تعطيل ملكة التفكير والاجتهاد بشكل أو بآخر وعكفوا على دراسة الحواشي، يعزفون عن قراءة تراث حركة التجديد والإصلاح وتأبى بصيرتُهم المريضة الاطّلاع عليها، وهؤلاء يتحمّلون مسؤولية إجهاض مدرسة الشيخين المصلحين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وتعطيل حركة النهضة وإدخال الأمة في مستنقع التخلف الذي أفرز كل مظاهر الغلوّ والتطرّف والإرهاب الذي قضى على كل منجزات الرعيل الأول من الإصلاحيين في العصر الحديث.
لكن، وبالرغم من كل هذا الإرهاب الفكري والقمع المعرفي، يظهر من حينٍ إلى آخر من يحمل راية التنوير الفكري، ومن هؤلاء الشيخ عبد المتعال الصعيدي صاحب البحث المهمّ الذي تحدى به علماء زمانه وفي مقدمتهم مشيخة الأزهر والذي حمل عنوان “الحرية الدينية في الإسلام” الصادر سنة 1956، أي في عز الأزمة والصدام الذي وقع بين عبد الناصر والإخوان والذي أفضى إلى حل جمعية الإخوان المسلمين والزجّ بالعديد من قياداتها وأتباعها في السجون والتضييق عليهم في حياتهم ونشاطهم الفكري والدعوي، كما أن هذه السنة كذلك شهدت العدوان الثلاثي (بريطانيا- فرنسا- إسرائيل) على مصر بسبب تأميم قناة السويس ودعم الثورة الجزائرية، والسؤال الذي فرض نفسه عليّ دون أن أجد له جوابا هو: هل لإصدار كتاب الشيخ الأزهري الصعيدي في هذا التوقيت بالذات علاقة بالاشتباك الإيديولوجي الذي حدث بين النظام الناصري القومي الاشتراكي وتنظيم الإخوان والذي أخذ بُعدا عقائديا في كثير من الحالات؟
إذا كان الشيخ عبد المتعال الصعيدي قد استهلّ كتابه بالثورة على جمود شيوخ الأزهر بهذا التوصيف السلبي والنقد الحاد بالقول “صار المعقّد عندهم سهلا، وصار السهل عندهم معقّدا..”، فإنه ختم بحثه القيم الذي خالف به إجماع العلماء بهذه العبارة الجريئة وهي: “إذا كان هناك عقابٌ دنيوي على الاعتقاد لم تكن هناك حرية دينية..”، وهو في هذا الخيار الصعب الذي جرّ عليه متاعب كثيرة لا يعترف ولا يخضع بسهولة لحجّية “الإجماع” التي تُعتبر عند الأصوليين والفقهاء مصدرا من مصادر الشريعة، ويرى بأن الظروف التاريخية والسوسيو سياسية تدفعنا في كثيرٍ من الأحيان إلى مراجعة هذه المسلّمات وبالخصوص تلك التي وقع حولها الخلاف، وقد يكون الصواب إلى جانب الفرد أو القلة ولا عبرة بالكثرة في القضايا العلمية والفكرية، فخيار المرتدّ بين الاستتابة أو القتل تجاوزه الزمن حتى وإن أكّدت وأجمعت عليه المذاهب الأربعة وبعض المراجع الدينية الكبيرة بما فيهم صاحب “التحرير والتنوير” الشيخ الطاهر بن عاشور، فالرأي الذي يذهب إليه الشيخ الصعيدي هو قريب من فتوى الإمام النخعي وسفيان الثوري اللذين أقّرا بأن المرتد يُستتاب أبدا ولا يُقتل، ولكن الصعيدي يرى بضرورة الإبقاء على الاستتابة الاختيارية الإرادية وليست الجبرية الإكراهية التي تسلب الشخص حريته أو يتم الزجّ به في السجن، لأن هذا الإجراء يتعارض مع قيم التسامح والحرية التي فطر الله الناس عليها، وإذا غابت قد يدفع بالناس إلى النِّفاق ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وهذا أخطر على الدين وعلى الأمة معا، وهذا الرأي هو الذي مال إليه وأيّده الدكتور سليم العوا الذي يُعتبر فقيها أصوليا وحقوقيا ودارسا للقانون كذلك، ففي قناة “اقرأ” عبر حصة “فتاوى على الهوى” وفي إجابته لأحد السائلين رد بالقول: “حرية الاختيار بدأت مع آدم.. وقد قال الله سبحانه وتعالى –”وعصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ثم اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ” – إذن الحرية مستصحبة منذ آدم عليه السلام إلى يوم القيامة.. ثم يواصل الأستاذ العوا مستشهدا بالآية القرآنية: “فذكّر إنما أنت مذكّر لستَ عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر…”؛ أي لا سيطرة لك عليهم يا محمد وأمرُهم إلى الله هو من سيعذبهم على تنكّرهم للحق..
الرأي الذي يذهب إليه الشيخ الصعيدي هو قريب من فتوى الإمام النخعي وسفيان الثوري اللذين أقّرا بأن المرتد يُستتاب أبدا ولا يُقتل، ولكن الصعيدي يرى بضرورة الإبقاء على الاستتابة الاختيارية الإرادية وليست الجبرية الإكراهية التي تسلب الشخص حريته أو يتم الزجّ به في السجن.
ويختم العوا موضحا أن الخروج من الإسلام يترتب عليه الأثر المدني دون العقوبات، وهو بذلك يقصد ما له علاقة بالرابطة الزوجية والعائلية، وبالميراث، وغيره من هذه المسائل التي قنّنها وحدّدها قانون الأسرة الخاص بكل بلدٍ إسلامي، وإن كان الشيخ الصعيدي يجد بأن أكبر عقاب دنيوي قد يتعرّض إليه المرتدّ هو أنه لا يُصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وهذا هو المقصود بجهاد المنافقين المشار إليه في الآية الكريمة “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير“، فجهاد المنافقين يكون باللسان وإقامة الحُجّة والبرهان وبالحوار والجدال بالتي هي أحسن وبكل الوسائل المعنوية المتاحة، أما جهاد الكفار المعتدين فيكون بالسِّنان وبالوسائل المادية لمقاومتهم ورد عدوانهم.
كان الشيخ الصعيدي يجد بأن أكبر عقاب دنيوي قد يتعرّض إليه المرتدّ هو أنه لا يُصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وهذا هو المقصود بجهاد المنافقين المشار إليه في الآية الكريمة “يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير“.
إذا كان الله تعالى قد توعّد المنافقين بأن مصيرهم في الآخرة هو في الدرك الأسفل من النار، فهذا يعني بأن خطرهم وضررهم أكبر، وأن مكانتهم ومقامهم عند الله أسوأ من المرتد والكافر، ومع ذلك صبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المنافقين الذين آذوه وكانوا يكيدون له العداوة والبغضاء، ولم يُقدم على قتلهم حتى لا يقال ويؤَوّل فعله بأنه يقتل أصحابه، وقد يلحق ذلك الضرر به وبدعوته وبالرسالة السماوية ويستغلها الأعداء لتشويه سمعته بين الناس ليردوهم ويصدّوهم عن رسالته، وهذا ما استدلّ به الشيخ الصعيدي لإثبات صواب مذهبه في إسقاط حدّ الردة، اللهم إلا إذا سعى المنافقون أو المرتدّون بلغة العصر الحديث إلى الإخلال بالنظام العام وبالسلم الاجتماعي وبالأمن الديني وبسلامة ووحدة الوطن والمساس بالدستور وبالقانون، فهنا تتغيّر طريقة وإجراءات المعاملة والتعامل معهم ويمكن أن يقعوا تحت المتابعة القضائية بتهمة الخيانة العظمى والتمرد على السلطة الشرعية أو ما يسمى بـ”تطبيق حد الحرابة”، وهذه تضبطها التشريعات الوضعية للدولة من المنظور السياسي الذي يقدّر الأمور حسب قدرها، والله تعالى هو الذي يتولى السرائر، يثيب أو يعاقب كل بما يستحق حسب إيمانه وعمله: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”.