-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ويسألونك عن قيود الأوهام

أبو جرة سلطاني
  • 1280
  • 2
ويسألونك عن قيود الأوهام

في عقل كل إنسان قيود وهمية موروثة عن بيئة موبوءة تحرم “سجناء الإشاعة” نعمة التّفكير الحر. مصدر  بعض الإشاعات عنصريّ، وبعضه ديني، وبعضه حزبي/ سياسي، وبعضه عرقي أو جهوي أو تاريخي أو ثقافي… وأخطر مصادر الإشاعة الحسد والغيرة والأحكام المسبقة والسّماع من طرف واحد. مع أن الله خلق للإنسان أذنين ليسمع من طرفين. وأكثر الإشاعات تدميرا للأفراد ما كان من بنات السماع التي تُحكى في “الكواليس” ولا دليل على صحَّتها عند قائلها وناقلها سوى مصدر “راهم يقولوا..!” رواية عن عشاق تلويث أسماع الناس بالغيبة والنّميمة.. وعن المتلذّذين بأكل لحوم الأموات، ولو كانوا إخوانهم في الدّين والوطن والإنسانية.

من ذكريات أيام الجامعة أنني كنتُ اشتغل معيدا في قسم الآداب بجامعة قسنطينة منذ سنة 1981، وأقطن بقرية صغيرة تسمى “سيقوس” تابعة لولاية أم البواقي، وأصلي في مسجدها الوحيد بالناس الجمعة متطوّعا. ذات صبيحة باردة من شتاء سنة 1984 تعطلت سيارتي في الطريق الرابط بين سيقوس ومدينة “الخروب”، فوقفت على حافة الطريق أحاول إيقاف من يتطوَّع بتوصيلي إلى الجامعة، لأدرِك طلبتي وأجري لهم امتحان الفصل الأول المقرَّر الساعة الثامنة. كانت الساعة تقترب من السابعة صباحا، والجوّ شديد البرودة. توقفت سيارة فارهة وفتح صاحبُها فتحة صغيرة من زجاج النافذة وأشار عليَّ بالركوب، سلمت عليه، ولما سألني عن وجهتي. قلت: الجامعة من فضلك فعندي امتحانٌ لطلبتي الساعة الثامنة. ولم يكن يعرفني، فكان طول الطريق يحدِّثني عن نفسي. نعم: عني أنا.. ! ويروي لي عنِّي حكاياتٍ غريبة تشبه علوم الخيال، منها أنني أشرف على تدريب ميليشيا تؤدِّب غير المصلين..! وتفرض لبس الحجاب بالقوة على النساء..! وتحرق سيقان المتبرّجات بروح الملح..! و..و.. ولمَّا بلغنا محطتنا النهائية شكرته على الخدمة. فقال لي: والله أنت إنسانٌ تحسن الاستماع ولكني لم أسمع رأيك في ما حكيتُه لك، ونسيت أن أسألك من أنت؟ قلت: أنا من كنت تتحدَّث عن مغامراته. فصُعق!

تركتُه ومضيت إلى طلبتي، وبعد أيام قليلة جاء مع خاله (وكان صديقا لي) يعتذر عما بدر منه، ويقسم بالإيمان المغلّظة أنَّ ما سمعه هو كلامٌ متداول في أوساط شبه رسمية في كثير من ولايات الشرق..! وقد سمعه من شخصيات نافذة في أروقة نظام الحزب الواحد..

لم أصدِّقه ولكن أحداث 05 أكتوبر 88 كشفت لي عن بعض خلفيات ما كان يتحدث عنه..! وقد أعود إلى بسط تفاصيل “حرب الإشاعة” إذا كان في العمر بقية من صحّة ومن رغبة في البوح ببعض ما دوّنته في معالم مذكرات لم يحن بعد زمنُ نشرها.

أردت التّمهيد لما سأذكره بهذه الحادثة لأنبّه الجيل الذي لا يعرف شيئا عن تاريخ الصّحوة الإسلامية في الجزائر أن معركة “الضرب تحت الحزام” لم تبدأ اليوم، وأن سلاح الإشاعة والدّعاية ليس اختراعا “فايسبوكيّا”؛ فقد سبق إليه من كانوا يعرفون أن أقصر طريق لقتل الأمل في نفوس الناشئة هو إفراغ السّاحة من الرّموز بتشويه السّمعة ووضع كل “البيض الإسلامي” في سلة واحدة ورميه من شاهق، فإذا انكسر خلا الجوّ للمُكاكي فتبيض وتفقّص..!

كان العلاج المتّفق عليه هو إعادة تشكيل عقلية ذلكم الجيل بإفراغه من ملوّثات السمع، فإذا تخلّص من الإشاعة والدّعاية استراح ضميرُه. وإذا تحرّر من الأحكام المسبقة أدرك الحقيقة واكتشف أنه كان ضحية مرتزقة يقتاتون على ترويج ما يسيء إلى خصوم عجزوا عن مواجهتهم بأساليب الرّجال فقلّبوا لهم ظهر المجن. وكم لهم من ضحايا قبضوا ثمن تشويه سمعتهم من أنذال أمثالهم، أكثرهم لقي جزاءه في الدنيا، والبقية على رفوف الانتظار: “وما ربّك بظلام للعبيد”  فصّلت: 46.

تأمَّلوا معي قليلا في هذه الأمثلة:

1- سحرة فرعون (الذين كانوا يمثلون السلطة الرابعة في ذلكم الزمن) كانوا أسرى أوهام فرعون، فسألوه الأجر مقابل هزيمة موسى (ع). وألقوا حبالهم وعصيَّهم “بعزّة فرعون”، فلما حررتهم المعجزة آمنوا وغيروا قناعاتهم في موسى 180 درجة، وفي فرعون مثلها، فهددهم بالقتل والسجن وتقطيع الأيدي والأرجل والصلب في جذوع النخل.. فاستخفّوا بتهديده وردوا وعيده بالقول: “فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا” طه: 72. وهو ردٌّ يكشف عن علوّ همّة صنعها “الانقلاب الإيماني” بين عشية وضحاها لما تواجهَ السِّحرُ والمعجزة كما تتواجه الإشاعة والحقيقة.

– في الضحى كان قيد حاجتهم إلى فرعون يطوق أعناقهم فسألوه الأجر وألقوا سحرهم بعزّته..!

– وفي العشية سقط القيد فتحرّروا من الوهم، فأبصروا الله (جل جلاله) فاستخفوا بتهديدات الطاغية وأعلنوا أنهم كانوا مكرَهين على صناعة السحر لإلهاء الجماهير عن رسالتها وصرفها عن كشف زيف فرعون.

هذا هو مفتاح التّحرير الذاتي: كسر القيد عن النفس لتنطلق في أرحب الأجواء فتبصر ما كانت فيه من هوان.

2- في هذا المعنى يروي أحدُ المربِّين قصة طريفة خلاصتها: أن  فلّاحا طلب من جاره حبلاً ليربط به حماره، فاعتذر له بأنه لا يملك الحبال، ولكن نصحه بتقييد الحمار بحبل وهمي.. أي القيام بحركات حول عنق الحمار وحول أرجله والتظاهر بأنه يربطه.. تعجَّب الفلاح ولكنه عمل بنصيحة جاره، فقيّد حماره بحبل وهمي ونام. وفي الصباح وجد حماره في مكانه مقيّدا بالوهم.. فركبه للذهاب إلى الحقل، ولكن الحمار حرن ولم يتزحزح من مكانه!

حاول صاحبُه بكل حيلة فأعيته الحيل، فعاد يطرق باب جاره ويخبره أن حماره سجين “تعويذة الربط الوهمي”، فسأله الجار: هل تظاهرت أمامه بحلِّ رباطه؟ ردّ عليه الفلاحُ باستغراب: ليس في عنقه ولا في قوائمه رباط.. قال جارُه الحكيم: أنت لا ترى القيد ولكن الحمار أحسّ بما صنعتَ معه البارحة، وهو مقيَّدٌ بالوهم.. عد وتظاهر بفك رباطه.. عاد الفلاح وتظاهر بأنه يفك الحبل.. فتحرك الحمار، وركبه الفلاح وأخذ طريقه مهرولا إلى الحقل كعادته!

لا تعجب من طبيعة هذا الحمار؛ فقيودُ الأوهام أمتن من الحبال والسّلاسل، وكم في الناس أسرى عادات زائفة وقناعات وهمية وآراء (في الأشخاص والأفكار والمواقف..) لا حقيقة لها إلا في ما يسمعون.. هؤلاء ضحايا صناعة الرأي، وأسرى الإشاعة والدعاية والتلفيق المغرض.. ويوم يكتشفوا الحبل الخفيّ الذي يلتفّ حول عقولهم ويمنعهم من التقدُّم إلى الأمام. يومها يدركون أن فرعون ليس ربا، بدليل أنه عجز عن إنجاب ولد فاضطرّ إلى اتخاذ موسى ولدا خلسة عن شعبه.. والأمة التي تتوارث أجيالُها خطاب الضعف والتخلف والخوف والفقر والانتساب إلى العالم الثالث.. تظل مقيّدة بالأوهام حتى ترسل لها الأقدار من يفك قيودها الوهمية!.

3- استعمر الانجليز الهند بـ7% من تعداد سكانها بإطلاق إشاعة وهميّة صدّقها المسلمون والهندوس قبل انفصال باكستان عن الهند. الإشاعة من شقين، شقها الأول يقول: إن حربة بنادق الجيش الانجليزي مصقولة بشحم الخنزير.. فيفرُّ الجندي المسلم أمام الجندي الانجليزي خشية أن يموت على النجاسة فيُحرَم الشهادة ويدخل النار. وشقها الثاني يقول: الحربة مشحَّمة بشحم البقر فيفرُّ الهندوسي من وجه الجندي الانجليزي حتى لا يغضب عليه ربُّه!

هكذا هُزم جيشٌ قوامه 40 مليونا (هندوس ومسلمون) أمام جيش لم يتجاوز عدده 04 آلاف.. والسبب هو قيود الأوهام وصناعة الدعاية وبراعة شلّ التفكير.. ولولا خشية الإطالة لحدَّثتكم عن القيد الذي ضرب على عقول المصريين حتى دخلت خيولُ نابليون الأزهر الشريف.

إنها حرب الدعاية والإشاعة التي يحسبها كثيرٌ من المسلمين هيّنة وهي عند الله عظيمة. وكم من شبابنا ضحايا “البرمجة الوهمية” التي تصوِّر لهم أعداء لا يعرفونهم، ولكنّ “الغرف المظلمة” سوّقت لكم صورة مصنوعة على مقاس خصومهم فنفخوا فيها من إشاعة الفضاء الأزرق فحوّلت كثيرا من الناس أنجاسا وحكمت عليهم قبل سماع حجتهم. والسماع من جهة واحدة ظلم، ولو تبيّن المرجفون لوجدوا أنفسهم ضحايا نسوة في المدينة قُلن عن يوسف الصدّيق (ع): “امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا” يوسف: 30؛ فكلفته هذه الإشاعة اللّبث في السجن بضع سنين..! ولو لم يرَ الملكُ رؤيا عجز حراسُ المعبد (وهم وراء الإشاعة) لما عرفنا أنه برئ مما أشيع عنه وسُجن بسببه.

وما أشبه الليلة بالبارحة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • قبايلي إبن الجزائر الأبية

    روعة يا أستاذ بارك الله فيك 👍

  • مصار محمد

    مقال في منتهى الروعة. قال الله-تعالى-:{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ }الآية 6من سورة الحجرات. قيد الإشاعة لا يكسره إلا سلاح التبين.