-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يا جماهير شعبنا

فيصل القاسم
  • 2925
  • 0
يا جماهير شعبنا

أتعجب كثيرا وأنا أستمع إلى الخطابات التي يلقيها المسؤولون العرب في المناسبات الصغيرة والكبيرة. ولعل السمة الأبرز لتلك الخطابات أنها موجهة دائما إلى “شعبنا”، أو”أبناء شعبي”، أو “جماهير شعبنا”. لاحظوا معي التركيز على ضمير التملك الذي يلازم كلمة الشعب. فحتى المسؤولون العرب الصغار جداً مغرمون بمخاطبة الشعب “بشعبنا”.

  • أي أنهم يصرون على اعتبار هذا الشعب أو ذاك شعبهم الخاص بهم، كما لو كان ملكاً لهم كقطيع من الماشية أو الدواب. وهو فعلا كذلك برأيهم. ويشيع استخدام مصطلح “جماهير شعبنا” حتى في خطابات قادة الجماعات والفصائل الهزيلة. فنجد قادة كل جماعة يخاطبون الشعب “بأبناء شعبنا”. وكما هو واضح، فإن استخدام هذا المصطلح الرديء الذي قد يبدو وطنياً في ظاهره، إلا أنه في حقيقة الأمر مصطلح سياسي حقير، لا بل سافل، الهدف منه حزبي ضيق أو فصائلي بحت. فكل قائد أو مسؤول في هذا الفصيل، أو في هذه الجماعة، أو تلك يدعّي أن هذا الشعب هو شعبه دون غيره. لا عجب إذن أن ترى فصيلاً هامشياً جداً لا يتجاوز عدد أعضاءه العشرة أفراد يخاطب الناس “بأبناء شعبه”، كما لو أنهم جميعاً يتبعون جماعته، وله كل الحق في أن يتصرف بهم كما يشاء.
  •  أسوق هذه الأمثلة التي تطال كل الخطابات السياسية العربية من المحيط إلى الخليج، أسوقها لإلقاء بعض الضوء على عقلية المسؤولين العرب، إن كانوا من الدرجة الأولى أو من الدرجة العاشرة. فقد ابتلينا في المجتمعات العربية بعقلية أبوية بدوية بعيدة كل البعد عن روح العصر بمفاهيمه الديمقراطية والحضارية. فالمسؤول العربي مهما علا شأنه، أو انحدر يعتقد أن كل شيء تحت يديه هو ملكه الخاص. حتى الشعب لا يفلت من هذا الملكية. لهذا، كما قلت، يبالغ المسؤولون العرب في التركيز على ضمير التملك تركيزاً مخيفاً وهم يخاطبون الشعوب المملوكة لهم حسب اعتقادهم. هل يستطيع أحد أن ينكر أن المسؤول العربي يحّول الدائرة التي تقع تحت سلطته إلى ما يشبه “العزبة”، فترى موظفاً عربياً صغيراً مسؤولاً عن بضعة أفراد يتعامل معهم كما لو كانوا أغنامه الخاصة، أو متاعه الخاص، أو ما ملكت أيمانكم. وبذلك تتحول كل إدارة عربية مهما علا شأنها أو تدنى، تتحول إلى دائرة مملوكة للمسؤول عنها. ويتدرج الأمر من تلك الدائرة الصغيرة حتى يصل إلى أعلى دائرة ألا وهي دائرة الزعامة. فالفرعون الصغير، هو نموذج مصغر للفرعون الأكبر الذي يتعامل مع رعاياه بصفتهم من ممتلكات حظيرته. لهذا كان من الأنسب أن يخاطب المسؤول هذا الشعب الواقع تحت سيطرته وملكه بعبارة “يا سكان حظيرتي”  أو”يا أبناء زريبتي”.
  • عقلية المسؤولين العرب عقلية مريضة بسرطان السلطة. وهي ما زالت تعاني من اللوثة العثمانية، حتى لو تغير الجلباب ببزة حديثة. فالمسؤول العربي حتى لو كان من الدرجة الثامنة والثمانين بعد المليار يجمع في ذهنيته كل مكونات الاستبداد والتملك، إن لم نقل الاستملاك. فهو يريد أن يكون الآمر الناهي في أتفه الأمور، ولا يسمح لأحد أن يدلي برأيه، أو يشاركه الرأي في أبسط المسائل. فهو الدائرة التي يديرها، والدائرة هي هو، عملاً طبعاً بمقولة “أنا الدولة والدولة أنا”. لهذا مثلا ترى المسؤول العربي صغيراً كان أم كبيراً يجمع كل شيء في يديه. فهو راعي العلم والعلماء، والطرب والمطربين، والفن والفنانين، والرياضة والرياضيين، والزبل والزبالين والنحت والنحاتين، والزرع والمزارعين، والصناعة والصناعيين، والكهرباء والكهربائيين والماء والسقائين. إنه كل شيء، حتى أنه يتدخل في مسألة الصرف الصحي وبناء المدارس والمراحيض، كما كان يفعل ستالين الذي كان يشرف على بناء الجامعات ويفرض أسلوبه المعماري الخاص على المهندسين والمعماريين، حتى جاءت بعض أبنية الجامعات الروسية تجسيداً لأفكار الزعيم وليس لأفكار المهندسين.
  • المسؤول العربي يعتقد أنه الماء والكهرباء، الأرض والسماء. إنه الكل في الكل ما شاء الله. لا عجب إذن أن يخاطب قطعان الشعب “بأبناء شعبه”. إنها العقلية الأبوية التسلطية المريضة العائدة إلى القرون ما قبل الوسطى. إنها العقلية التي تحكم العرب في القرن الحادي والعشرين في وقت راح يتحدث فيه الغرب في زمن العولمة عن عصر سيادة الفرد وليس سيادة الدولة. أي إن الغرب خطا خطوة متقدمة على طريق جعل سيادة الفرد تتقدم على سيادة الدولة، بينما ما زال المسؤولون العرب يتعاملون مع الأفراد كما لو كانوا حاشيتهم الخاصة، إن لم نقل متاعهم الشخصي. أين نحن من عقلية المؤسسات التي تحكم العالم المتحضر. فبينما الزعيم العربي هو كل شيء، ترى أن الزعيم الغربي ما هو إلا عزقة في آلة ضخمة اسمها المؤسسة. إني أطالب بأن تتم خصخصة كل شيء في الوطن العربي. فحتى مصلحة السجون تم بيعها للقطاع الخاص في بريطانيا ، أي أن السجون لم تعد ملك الدولة بل مؤسسة تجارية يملكها أشخاص.
  • أما في العالم العربي، فحتى ا لمزابل هي ملك الدولة. الدولة العربية مختصرة طبعاً في زعيمها تعشق التغول والاستئثار بكل شيئ. فهي الحاضرة في أدق تفاصيل رعاياها، وأشدد على كلمة رعاياها لأن الإنسان العربي يعامل كرعية، ومازال أمامه عشرات لا بل مئات السنين كي يكون مواطناً بالمعنى الحديث للكلمة. فالمواطنة مازالت حلماً بعيد المنال بالنسبة للعرب.
  • وكي لا ابتعد كثيرا عن صلب الموضوع، أريد أن أذكّر بأن الزعيم الغربي لا يخاطب الجماهير أبدا بعبارة “أبناء شعبي” أو “يا جماهير شعبي” أو أبناء وطني. ففي بريطانيا مثلاً، كان تشيرشل ومن تلاه من القادة البريطانيين يخاطبون الشعب، بكلمة (countreymen)، أي يا أبناء البلد، أي أن البلد للجميع وليس ملكاً للزعيم. أما ديغول فقد كان يخاطب المواطنين الفرنسيين: “أيها الفرنسيون أيتها الفرنسيات”. لاحظوا معي غياب ضمير التملك من المصطلحين الإنكليزي والفرنسي. لم يخاطب تشيرشل أو ديغول الشعبين البريطاني أو الفرنسي “بأبناء  بلدي”. فقد حذفا ضمير التملك الذي يلازم الخطابات العربية. لماذا؟ لأن الشعب في بريطانيا وفرنسا وغيرهما من دول أوروبا وأمريكا ليس ملكاً لتشيرشل ولا لديغول،ولا لساركوزي أوأوبابما أو. إنه مجموعة من الأفراد الذين يتمتعون باستقلالية وكرامة كاملة. إنهم أناس قائمون بذاتهم وليس مجرد متاع شخصي لهذا الزعيم أو ذاك، كما هو الحال في دولنا، أو بالأحرى “عزبنا” العربية الغراء!
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!