-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

يحتفلون… بذكرى نَيْله الدكتوراه!

يحتفلون… بذكرى نَيْله الدكتوراه!

عرفت بولندا في مجال الرياضيات نهضة قَلَّ مثيلها في العالم خلال الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين. وبرزت إبّان تلك الحقبة 3 مدارس رياضياتية بولندية في 3 اختصاصات في مدن عريقة تنافست وتعاونت فيما بينها، وهي العاصمة وارسو (المنطق والطبولوجيا) وكراكوف Kraków (المعادلات التفاضلية) ولفيف Leviv (التحليل الدالي). وما شدّ الانتباه وجود مقهى من مقاهي مدينة لفيف قبل الحرب العالمية الثانية يسمى المقهى الاسكتلندي… كان المقر الذي يلتقي فيه عباقرة بولندا لحل مسائل التحليل الرياضي التي استعصت على الرياضياتيين في العالم.

المقهى الاسكتلندي

يُسمى هذا المقهى بالبولندية “كفيارنيا شكوكا” Kawiarnia Szkocka. ومن أشهر من كان يرتاده، العالم الفذّ ستيفن بناخ Banach (1892-1945) الذي لا يمكن لمن درس نصيبا من الرياضيات أن يجهل اسمه بحكم ما قدّمه لهذا العلم من نظريات.
عُرفت مدينة لفيف العديد من الويلات : في الماضي، كانت تسمّى لفوف L’vov (بالروسية)، وتكتب بالبولندية Lwów. وقبل ذلك سمّيت ليوبوليس Leopolis. ثم أطلق عليها الألمان اسم لمبرغ Lemberg حيث عرفت المدينة تعاقب حضارات عديدة منذ نشأتها خلال القرن 13 الميلادي. إنها الآن أكبر مدينة في الجهة الغربية من أوكرانيا، تبعد 70 كلم عن الحدود الحالية لبولندا. وكان إقليمها يعتبر منطقة بولندية، ثم أصبحت المدينة نمساوية. ومن المعلوم أن لفيف أُعلِنت عام 1918 عاصمة الجمهورية الشعبية لأوكرانيا الغربية. لكن البولنديين استعادوها بعد أيام، وظلت بولندية حتى بداية الحرب العالمية الثانية.
وخلال هذه الحرب غزاها الألمان عام 1941، ثم سيطر عليها السوفيات عام 1944 وضمّوها مجددا إلى جمهورية أوكرانيا الواقعة آنذاك تحت نفوذهم. هذه الحروب التي كانت لفيف مسرحا لها جعلت عددا كبيرا من السكان البولنديين ينزحون عنها. وقد لعبت دورا بارزا في استقلال أوكرانيا عام 1991 عن الاتحاد السوفياتي. وكذلك حال التقلبات في المدن الحدودية بين الدول عندما تندلع الحروب في المنطقة.

شتاينهاوس يكتشف بناخ

ولد ستيفن بناخ في مدينة كراكوف البولندية التي كانت آنذاك تابعة لأمبراطورية النمسا. وعاش بؤسا عائليا شديدا، ودخل المدرسة الثانوية، لكنه كان في الواقع عصاميا لا يهتم إلا بالرياضيات. وكان يتصوّر أن رياضيات عصره وصلت منتهاها من التطور، ولا يمكن أن تزدهر وتتجدد طالما لم نجد لها منافذ أصيلة. وعندما دخل الجامعة المتعددة التقنيات عام 1910 دون مورد مالي كان عليه العمل لكسب مال يكفل له الدراسة. وعليه لم يزاول دراسته في هذه المؤسسة سوى سنتين جامعيتين قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ومن المعلوم أنه لم يتم تجنيده خلال هذه الحرب لأسباب صحية، فراح يقدم دروسا خصوصية للتلاميذ لكسب قوت يومه. ولم يمنعه ذلك من التردّد على محاضرات الرياضيات في جامعة كاركوف. لقد كان له حظ كبير في ربيع 1916 حين التقى بالرياضي الشهير هوجو شتاينهاوس Steinhaus (1887-1972) الذي كان من كبار أساتذة الرياضيات بجامعة لفيف.
يُروى أن هذا الأخير كان يتفسّح ذات يوم في حديقة عمومية فسمع أحدهم يتحدث عن “نظرية القياس”، وكانت هذه النظرية في ذلك الوقت جديدة. وأدى الفضول بشتاينهاوس إلى أنه اقترب من الشخصين اللذين كانا يدردشان حول هذه النظرية ليتعرف عليهما، وكان أحدهما ستيفن بناخ! بعد ذلك طرح شتاينهاوس على بناخ مسألة استعصت عليه. ولم تمرّ أيام حتى جاءه بناخ بحلها فتفاجأ شتينهاوس بذلك، ونشرت دراسة المسألة المطروحة باسم الرجلين.
ومن ثمّ دخل بناخ حقل الرياضيات من بابه الواسع، فكان ذلك اللقاء بداية تعاون مثمر مع شتاينهاوس. يقول هذا الأخير أن “أعظم اكتشاف له في الرياضيات هو ستيفن بناخ”! وذلك ما جعله يزكّي بقوة عام 1920، طلب بناخ الذي كان يرغب في الالتحاق -كأستاذ مساعد- بالجامعة المتعددة التقنيات في مدينة لفيف.

بناخ… والدكتوراه

وبعد أن تولّى بناخ منصب أستاذ مساعد، كانت الجامعة تنتظر منه أن يناقش أطروحته بسرعة، لكن طال انتظارها وامتعضت إدارتها من عدم اكتراث بناخ بالموضوع. ذلك أن هذا الأخير لم يكن تهمّه مناقشة الدكتوراه بل كان منهمكا في نشر بحوث غيّرت وجه الرياضيات. وقد ناقش أطروحته عام 1921 برخصة استثنائية إذ لم يقض سوى سنتين دراسيتين في الجامعة… بل لم يحصل حتى على شهادة ما قبل التدرج.
والعجيب أن أطروحته كانت تحتوي على نظرية تعرف بـ”نظرية النقطة الصامدة” لبناخ أرست أسس فرع جديد من التحليل الرياضي يسمى “التحليل الدالي”. ولا زالت هذه النظرية -التي تعرف تطوّرا مطردا- تُستعمل في جلّ البراهين ذات الصلة بالتحليل الرياضي.
والغريب أيضا أن بناخ لم يحرّر أطروحته بقلمه بل حرّرها في مكانه أحد زملائه لدفعه إلى مناقشة الدكتوراه. ويُروَى أن ذلك لم يكْفِ لجعل بناخ يُقبل على المناقشة… فما كان على الإدارة إلا أن أخبرت بناخ أن عددا من علماء الرياضيات، منهم من هو من خارج جامعة لفيف، يريدون التحدث إليه في مواضيع رياضية، لعله يفيدهم برأيه فيها. فقبل بناخ الطلب، وقدِم هؤلاء الأساتذة وتناقشوا مع بناخ في تلك المواضيع، ثم انصرفوا بعد أن استمعوا إلى بناخ وهو يصول ويجول بأجوبة وتعقيبات انبهروا بها.
تقول الرواية إن كل ذلك كان “مقلبا” لبناخ لاستكمال مناقشة الدكتوراه : هذه الأطروحة حرّرها زميل له، وما تبقى سوى المناقشة، فأتوا له بتلك المجوعة من الأساتذة باعتبارها لجنة مناقشة الدكتوراه دون علم صاحبها!
يُروى أيضا عن بناخ أنه كان متشبثا بالمكوث في وطنه، بولندا، رغم العروض التي أتته من خارج البلاد التي كانت تعيش في قلب معارك الحرب العالمية الثانية. ومن بين تلك العروض ذلك الذي أتاه من الولايات المتحدة من خلال مرسول للأستاذ الأمريكي الشهير نوربرت فينر Wiener (1894-1964) رائد علم السيبرانية Cybernetics. فسأل بناخ المرسول “وكم سيدفع فينر لقاء هجرتي إلى أمريكا؟” فقال المرسول “لقد فكرنا في هذا الموضوع” وأخرج صكا مُوقَّعا قائلا : “خذ هذا الصك الأبيض، وضع فيه المبلغ الذي تريد”. تضيف الرواية البولندية أن بناخ ردّ على المرسول : “هذا المبلغ زهيد لا يجعلني أغادر بولندا”!
وبطبيعة الحال ففي هذه الروايات مبالغات، لكنه من المؤكد أن بناخ لم يغادر بلده رغم أن المئات من زملائه البولنديين والأوروبيين هاجروا إلى أمريكا في تلك الحقبة. كما أنه لا شك في أن بناخ تقاعس كثيرا في حصوله على الدكتوراه، ولم يكن يوليها الاهتمام المستحق. ومع ذلك فهذا هو العالم الذي تحتفل بولندا اليوم بالذكرى المئوية لحصوله على الدكتوراه… بعد أن أقامت له نصبًا تذكاريًا، وحملت اسمه عدة مؤسسات، وتكريما له أطلقت جائزة في الرياضيات تحمل اسمه أيضا. نعم… إنه أهل لكل هذه التكريمات.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • ALI

    كما عودتنا دائما تأتي لنا بالجديد

  • محمد حازي

    من بين المؤسسات التي تحمل اسمه محطة للسكة الحديدية. يتندر بها الرياضياتيون بالزعم بأن لا سبيل للسفر في قطاراتها إذ هي مملوءة عن آخرها على الدوام!!! (تطبيقا لنظريته الشهيرة : كل فضاء بناخي تام)