يريدون الهرب منكم!
“لماذا تتزايد أعدادكم في المهجر وبلدكم غني وبإمكانه استيعاب الملايين من البشر؟”. بهذا السؤال بدأ النقاش بيني وبين أحد الإعلاميين العرب من الذين يتابعون الشأن الجزائري، ويعرفون قدرات الجزائر والجزائريين وتعلقهم بوطنهم في وقت تعاني كثير من البلاد العربية أزمات أمنية واقتصادية واجتماعية خانقة تدفع بأبنائها إلى البحث عن فرص عمل وعيش أخرى خارج الديار، وفي وقت تتزايد عندنا أعداد الكفاءات التي تسعى إلى الهرب رغم كل الإغراءات والتسهيلات، التي تقدمها السلطة لشراء الذمم وليس لخدمة المواطن وبناء الوطن!
لم أجد ما أرد به على السؤال وعديد التساؤلات الأخرى سوى أن شبابنا يحب السفر والمغامرة وخوض مختلف التجارب من باب الفضول والرغبة في الاكتشاف، وتطوير قدراته المهنية ثم العودة إلى الجزائر محملا بالشهادات والخبرات التي تساعده على تحسين قدراته ومساعدة أفراد عائلته على تحسين ظروف حياتها، لكن الحقيقة التي يعرفها كل الجزائريين أن شبابنا لا يريد الهروب من الوطن كرهًا فيه، بل من الممارسات والسياسات الفاشلة المتعاقبة، ويريد تحسين ظروفه الاجتماعية التي لم يقدر عليها في بلده، ويسعى إلى تحقيق حياة أفضل في كنف الحرية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص التي افتقدها في جزائر كان بإمكانها أن تكون مثل ماليزيا وتركيا والبرازيل في كل المجالات لو استثمرنا في كل الثروات والقدرات!
الغريب في الأمر أن الرغبة في “الهروب” مست مسؤولين وإطارات ورجال أعمال شبابا وأصحاب مشاريع ومؤسسات اقتصادية يبحثون عن بيئة اقتصادية نظيفة وظروف عيش أفضل لأبنائهم في وسط نظيف، ومدارس وجامعات متطورة، في مجتمعات تسود فيها الطمأنينة، في وقت كنا نتمنى أن يرحل من بلغوا سن التقاعد ليفسحوا المجال للأجيال الصاعدة، وترحل الوجوه المستفزة الجاثمة في مواقعها منذ سنين، ويرحل الفاشلون في بناء الدولة، وكل الذين لم يعد بمقدورهم التأقلم مع متطلبات العصر، ومن لم يعد باستطاعتهم خدمة هذا الشعب الصبور وتلبية حاجياته.
أدرك مثل غيري أن الإمكانات المادية والقدرات البشرية والطبيعية، التي يزخر بها الوطن كبيرة وتكفي لتلبية حاجيات الملايين من البشر، إلا أننا لم نحسن استغلالها والاستثمار فيها إلى درجة صارت الهجرة غاية الغالبية الكبرى من أبنائنا بكل فئاتهم وأعمارهم بعدما طغت عليهم مشاعر اليأس والتذمر وفقدان الأمل في مستقبل أفضل، وفقدوا الأمل في مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية والطمأنينة على مستقبل أبنائهم الذين يكبرون في مجتمع يزدهر فيه الربح السهل والنهب والسرقة وتراجع القيم والأخلاق!
أدرك أيضًا أن الوضع بكل تناقضاته ليس قدرًا محتومًا على الجزائر والجزائريين بشرط حدوث تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية، وتغييرات في الأشخاص والذهنيات وفي كثير من الممارسات التي كانت سببًا في هجرة الجزائريين بالملايين، وسببًا في ازدياد رغبة كثيرين في الهروب من وطنهم بعدما سدت في طريقهم كل أبواب النجاح والتألق وتحقيق الحياة الكريمة، وبعدما اكتشفوا وعودًا وأكاذيب لم تتحقق عندما كانت مداخيل الجزائر كبيرة، ولن تتحقق بسهولة بعدما تراجعت المداخيل إثر تراجع أسعار النفط وقيمة الدينار، وبعدما ارتفعت نسبة التضخم، وأسعار المواد الأساسية، وتكاليف الحياة التي دفعت بكثيرين نحو “الهربة” منكم ومن ممارساتكم وليس من الوطن العزيز، على أمل أن يعودوا يوما في أجواء أفضل وظروف أحسن تكون فيها الجزائر للجميع من دون استثناء ومن دون إقصاء ومن دون حقد أو كراهية!