”الأطلسي” المهزوم في ليبيا ينتصر على التعايش في المتوسط
أي محلل كان بوسعه أن يراهن منذ ستة شهور خلت على قدرة النظام الليبي في استيعاب الصدمة، والوقوف في وجه الحلف الأطلسي المدعوم بالمال العربي، وبترسانة إعلامية لم تتوقف عن قصف العقول بالأكاذيب والقصص الإعلامية المفبركةّ؟ فما الذي حدث لتتحول الحملة الصليبية من نزهة كانت تحسم المواجهة في أسابيع، إلى كابوس مروع لقادة النيتو والغرب الذي هزم عسكريا وأخلاقيا وسياسيا أمام دولة صغيرة اسمها الجماهيرية، وشعب عظيم مجاهد اسمه الشعب الليبي.
-
تدافع الأحداث في العالم العربي بهذه السرعة يحجب عنا رؤية ما ينبغي أن نراه. فبقدر ما حجب عن الكثير منا رؤية اللعبة الكبرى التي حركت الشارع العربي في الاتجاه الخطأ، فإن التدافع حجب عنا مرة أخرى فرصة متابعة واحدة من أكبر المواجهات العسكرية بين الغرب وجزء من العالم العربي في ليبيا، بدت لنا في اللحظات الأولى كمواجهة غير متوازنة، كان يفترض أن تنتهي في أيام وأسابيع معدودة بانتصار ساحق للقوة الغربية البربرية، فإذا بالأيام والأسابيع والشهور تتوالى ليكتب فيها الشعب الليبي واحدة من أروع صفحات المقاومة، تضاف إلى صفحات المقاومة العربية في القرن الماضي ومطلع الألفية الثالثة.
-
-
كذب المنجمون ولو صدقوا
-
قبل ستة أشهر مضت، كان قد تشكل إجماع عند العدو والصديق على أن أيام الزعيم الليبي معمر ألقذافي باتت معدودة، وأن نظام الجماهيرية قد انتهى في اللحظة التي انطلقت فيها طائرات حلف النيتو لتضرب وحدات ما سمي من باب التحقير والاستهزاء بكتائب ألقذافي وهي على أبواب بنغازي. وللأمانة لم يكن بوسع أي محلل سياسي أو عسكري أن يراهن بدينار واحد على قدرة الزعيم الليبي في مواجهة تلك القوة الضاربة، التي كانت قد أنهت في أسابيع قليلة حكم نظام ميلوزيفيتش في يوغوسلافيا.
-
على المستوى الدولي كان النظام الليبي في عزلة لم يشهدها أي نظام في العالم في العقود الأخيرة، ولا حتى نظام صدام حسين عشية الغزو الأمريكي. فقد جمدت الأرصدة المالية، وبدأ تنفيذ حصار قاتل على الشعب الليبي تجاوز مضمون القرار 1970 كما تجاوز تدخل النيتو قرار مجلس الأمن 1973 ليتحول إلى تدخل عسكري يقتل الكثير من المدنيين بحجة حماية بعض المدنيين، ويهدم المنشآت القاعدية للشعب الليبي بحجة إضعاف القدرة العسكرية للنظام الليبي.
-
-
الثورة الثانية لزعيم ”متمرد”
-
ومع كل ما كان الإعلام العربي والغربي يسوقه منذ سنوات من صور نمطية مركبة حول شخصية الزعيم الليبي، وذلك الاستخفاف بنظام الجماهيرية، وحتى بالشعب الليبي، فإني قد شعرت في قرار نفسي بقدر من الاحترام لذلك الرجل، وهو يقف بشموخ وعزة نفس في وجه حلف عسكري كان الغرب يخوف به الدول العظمى، وكأني به لا يرى رأي العين تلك القوى الجبارة التي تتجمع لضرب ليبيا، وقد انفض من حوله الأصدقاء، وتآمر عليه الأشقاء العرب ومعظم دول الجوار، وخذله الروس والصينيون والأتراك. في مثل هذه اللحظات كان بوسع الزعيم الليبي أن يقتدي بجاره التونسي زين العبدين ، وكان سيجد لا محالة عواصم كثيرة في العالم ترحب بإيوائه، إما تضامنا أو طمعا لكنه لم يفعل، ولأنه لم يفعل ولم يجبن، فقد انتزع احترام جانب من الشعب الليبي والكثير من الأحرار في العالم، بصرف النظر عما ينسب لنظامه، عن حق أو عن باطل، من تجاوزات هي من طبيعة معظم النظم.
-
-
البحث عن ”حماية مدنية” لعسكر النيتو
-
ما الذي حدث بين تلك الأيام الصعبة من أواخر شهر فبراير، حين كان الجميع ينتظر دخول قوات المتمردين العاصمة طرابلس تحت الغطاء الجوي لحلف النيتو وهذه الأيام من مطلع الشهر السادس منذ بداية العدوان الصليبي، وتسجيل أكثر من سبعة عشر ألف طلعة جوية، وقرابة سبعة آلاف عملية قصف، تجاوزت كل ما ألفناه في تدخل النيتو لتفكيك يوغوسلافيا، والعدوان الأمريكي الغربي على أفغانستان والعراق؟ ماذا حدث حتى يتمكن هذا الشعب العربي الصغير المحاصر للمرة الثانية في أقل من عقدين من الزمن، من إلحاق الهزيمة بأكبر حلف عسكري عرفه التاريخ؟
-
ما الذي حدث حتى ينتقل قادة حلف النيتو من التبشير برحيل الزعيم الليبي، إلى الاعتراف وهم صاغرون، بأن الحل العسكري بات ممتنعا، ونراهم، مع هذا الاعتراف بالفشل، يصرفون ما بقي للحلف من قوة صلبة وناعمة نحو التمكين لإطالة عمر الحرب الأهلية، وقد يرضون في الحد الأدنى بتقسيم الجماهيرية الليبية، مادام قد تعذر عليهم وضع اليد على ليبيا بالكامل؟ وبالنظر إلى الهبة الشعبية التي تقودها قبائل ليبيا المقاومة، فإنه يتعين على حلف النيتو والدول الغربية المتآمرة أن تصرف النظر عن هذا المشروع، على الأقل ما دام القذافي على قيد الحياة بهذا التحدي والإصرار على المقاومة، وما دامت القبائل الليبية صامدة أمام الإغراءات التي تفد على زعمائها من جميع الاتجاهات، ترفض الدخول في مساومة رخيصة على الأرض والشرف والكرامة.
-
-
السقوط المدوي للاستعلاء الغربي
-
ثمة حقائق على الأرض كان الغرب يجهلها، أو ربما يكون قد تجاهلها تحت تأثير نظرته الاستعلائية، وثقته في قوته الصلبة البهيمية، كما تجاهل حقائق مماثلة في أفغانستان والعراق ولبنان وغزة. حقائق بعضها له صلة بالصور النمطية التي شكلها الغرب على مر السنين حيال الأنظمة العربية والقادة العرب والجيوش العربية، وحقائق أخرى لها صلة باستخفافه المتأصل بالشعوب العربية وبقدرتها على المواجهة والمقاومة.
-
نظرة الاستعلاء والاستخفاف بالزعيم الليبي، وقراءة الغرب الخاطئة لسلوك معمر القذافي غير التقليدية، حجبت عنه ما كان يتوجب عليه من واجب التدقيق في ما كان يرد عليه من تقارير حول استعدادات النظام الليبي لمواجهة مثل هذا العدوان، وقد بات واضحا للعيان اليوم، أن الزعيم الليبي كان قد حضر نفسه لمثل هذه المواجهة، سواء على مستوى انتشار القوات المسلحة على الأرض وتدبير تزويدها بالذخيرة والمؤن والإمدادات اللوجيستيكية، أو على مستوى تكتيكات القتال، والقدرة الفائقة التي أظهرتها قوات “الشعب المسلح” في التكيف مع حقائق قتال غير تقليدي، مدعوما بغطاء جوي مكثف يمنع الجيش الليبي من القتال بتشكيلات نظامية وبانتشار تقليدي لوحداته المدرعة.
-
-
أحلام اليقظة على مشارف البريقة
-
حتى الساعة لا نعلم كيف استطاع الجيش الليبي استعادة المنطقة النفطية، من البريقة حتى راس لانوف، تحت قصف جوي متواصل، ولا كيف استطاع حتى يومنا هذا منع المتردين من استعادة البريقة، ولا كيف يوصل الإمدادات على بعد مئات الكيلمترا ت من طرابلس عبر ممر تتحكم فيه مئات الطلعات اليومية لطائرات حلف النيتو، وتراقبه طائرات الأواكس والأقمار التجسسية. فمن الناحية العسكرية الصرفة، وبالنظر إلى الطبيعة الجغرافية للجماهيرية الليبية التي لا تمنح أي غطاء طبيعي لنقل وانتشار القوات على الأرض، فإن المعركة كان يفترض أن تحسم في بحر أسابيع قليلة، تماما كما توقع حلف النيتو، ولم يكن ليراهن أحد على هذا الصمود الذي نراه يقلب موازين القوة ويقود الغرب إلى مشارف انكسار مخز يلحق بأقوى حلف عسكري في العالم، أدخل في المعركة كل ما يملك من قوة نارية من الجو والبحر.
-
العامل الحاسم في هذه المواجهة، إضافة إلى الاستعدادات الجيدة، وقدرة الجيش الليبي على التكيف مع مفردات معركة غير متوازنة، كان بلا ريب ذلك الاستنفار الشعبي الرائع للقبائل الليبية، وقدرتها على إخراج الملايين من الليبيين إلى الشارع دعما للزعيم الليبي، ودفاعا عن سيادة ووحدة الوطن، والتعبير عن رفض الشعب الليبي الاستسلام لمنطق القوة الذي دخل به حلف النيتو.
-
-
الشعب المسلح بروح المقاومة
-
فقد حسمت المظاهرات المليونية في غرب ووسط وجنوب ليبيا حسمت المواجهة على ثلاث جبهات لصالح الحق: على الجبهة السياسية أولا، لأنها أسكتت أصوات القادة الغربيين الداعية إلى رحيل العقيد ألقذافي، وأحبطت الإدعاء الغربي الباطل بفقدان النظام للشرعية، كما أدخلت الشك عند المتمردين وفي صفوف المترددين سواء في شرق ليبيا، أو في المناطق التي لم تسقط تحت سيطرة التمرد. وعلى المستوى الإستراتيجي في هذه المواجهة، أدخلت المظاهرات الشعبية عنصر تشكيك جديد عند القوى الغربية المتآمرة حيال قدرة المتمردين على إدارة مرحلة ما بعد القذافي حتى لو نجحت خطط الاغتيال ضد الزعيم الليبي التي يشتغل عليها النيتو كحل أخير ووحيد.
-
-
انقلاب السحر على السحرة
-
وجاء الاغتيال الأخير للواء عبد الفتاح يونس على يد إحدى الميليشيات في بنغازي ليضيف عنصر شك آخر، ويسقط في أيدي قادة النيتو، خاصة وأن دولا رئيسة في العدوان مثل فرنسا كانت تعول على هذه الشخصية البارزة في صفوف المتمردين لحماية قوى التمرد من السقوط بأيدي المجاميع المسلحة الغامضة الهوية. كما أوجد الاغتيال شرخا كبيرا في صفوف المتردين، وقد يقود إلى نزاعات قبلية حتى بين المنتسبين للتمرد، وهو فوق ذلك يعطي صورة كارثية لحكومات غربية ديمقراطية تدعم تمردا تسيطر عليه ميليشيات لها صلة نسب مع القاعدة، وقد ارتكبت حتى الآن جملة من الجرائم الفظيعة التي لم تقو منظمات حقوق الإنسان مثل آمنيستي وهيومان رايت التستر عنها أو تجاهلها.
-
هزيمة النيتو والغرب ليست عسكرية وحسب، وقد باتت حقيقة لا ترد، بل إن الغرب قد لحقت به هزيمة أخلاقية ومعنوية غير مسبوقة، تنكر فيها لجميع القيم والمبادئ التي كان يتبجح بها. فقد خرق القوانين الدولية بذلك التفسير الآثم المجرم لقرار حضر الطيران وحماية المدنيين، ليقوم بعملية منظمة ومنهجية لقتل الكثير من المدنيين الليبيين بحجة حماية بعض المدنيين، واعتدى على القانون الدولي حين بادر إلى الاعتراف بمجموعة من المتردين ضد دولة ذات سيادة، عضو له كامل العضوية بالأمم المتحدة، وتسليمهم سفارات ليبيا، وبالاعتداء على الأرصدة الليبية التي جمدها مجلس الأمن والتصرف فيها خارج القانون الدولي، وبارتكاب أعمال قرصنة موصوفة في عرض البحر لبواخر مدنية ليبية وتحويل وجهتها. وقد فعل الغرب ما هو اخطر بتقديم دعم سياسي وعسكري لتمرد مسلح، يعلم أن مجاميع قريبة من القاعدة هي التي تسيطر عليه. فبأي وجه، وبأي منطق سوف تتعامل أوروبا والولايات المتحدة وحلف النيتو غدا مع دول الضفة الجنوبية في ملفات مكافحة الإرهاب والتطرف، وتجفيف منابع تمويل الإرهاب، ومحاربة الهجرة أو في ملف محاربة القرصنة البحرية؟
-
-
الروح الأطلسية تقتل التعايش في المتوسط
-
بعض العناوين الغربية المحترمة من الصحافة المكتوبة، لم تنتظر الإعلان الرسمي عن فشل حملة النيتو على ليبيا، لتبدأ في توجيه الأسئلة المحرجة لحكومات كامرون وبرليسكوني وساركوزي، التي تورطت بلا رجعة في عدوان أحمق وفاشل، أهدر الكثير من قوة الردع والتخويف التي كانت لحلف النيتو، وأغلق جميع ملفات التعاون بين دول الأبيض المتوسط، في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية. فقد أنهى هذا العدوان الفاشل مشروع الإتحاد المتوسطي العزيز على قلب ساركوزي، وجمد لقاءات مجموعة الخمسة زائد خمسة، وأفقد عند شعوب الضفة الجنوبية الثقة في التعامل مستقبلا مع الإتحاد الأوروبي الذي أدار وجهه للتعاون الشريف بين الدول والشعوب، وكشف عن عدوانية الغرب الذي لم يتخلص، لا من ثقافته الاستعمارية، ولا من مخلفات الفكر الصليبي، ولا من الروح الأطلسية العدوانية التي تبقي أوروبا كجرو تابع يقاول من الباطن للمشروع الإمبراطوري الأمريكي.