-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

2020.. سنة الوباءين

بن يغزر أحمد
  • 482
  • 1
2020.. سنة الوباءين

إذا كانت سنة 2020 في العالم سنة وباء كورونا بامتياز، فإنها على مستوى البلاد العربية سنة وباء الهرولة نحو إعلان التطبيع مع الكيان الصهيوني بامتياز أيضا، ولا شك أن لكلا الظاهرتين تداعيات وانعكاسات رغم أنهما لا ينتميان إلى نفس المجال.

وباء كورونا وما بعده

الحديث الآن متواتر أن عالم ما بعد كورونا لن يكون كعالم ما قبل كورونا، وأن أمورا كثيرا ستتغير وبعضها تغير فعلا، وأن مجال ومدى هذا التغيير سيكون عميقا وواسعا وسيشمل كل الميادين والمنظومات ومنهجيات التفكير والتدبير بما يفتح المجال للحديث جديا عن “عالم جديد”.
سردية” العالم الجديد” لطالما ترددت في محطات تاريخية سابقة، وكانت في الغالب تعبيرا عن تصوّرات واستراتجيات الطرف المنتصر، وسيد المرحلة الجديد، هذا ما كان على سبيل المثال بعد الحرب الأوروبية الأولى في مؤتمر فرساي 1920، وبعد الحرب العالمية الثانية في مؤتمرات يالطا، سان فرانسيسكو، وبوتسدام 1945، وكذلك الأمر في التفاهمات التي تمت بعد نهاية ما يُعرف بالحرب الباردة بداية من سنة 1989، وكان الحديث في كل مرة يتجه إلى التبشير بواقع عالمي جديد أكثر عدلا وأكثر سلمية وأكثر استقرارا.
الأمر هذه المرة مختلف، في المحطات السابقة كان الأمر يتعلق بنهاية حروب ونزاعات تتراجع فيها أطراف مهزومة، وتتقدم أطراف منتصرة، وهذه الأخيرة ترسم لوحة “العالم الجديد” بالشكل الذي تريد وبالألوان التي تشتهي، أما هذه المرة فالأمر يتعلق بتداعيات تسبب فيها فيروس متناهي في الصغر، وبغض النظر عن كونه طبيعيا أو مفتعلا ومصنعا مخبريا كما تذهب إلى ذلك نظريات المؤامرة، فإنه أحدث اضطرابا هائلا وواسعا وعميقا في كل مكان في العالم، وحتى لو انتهى غدا فإن هذا الوباء سيترك بصمته على مسار البشرية ربما عقودا قادمة من الزمن.
لقد لعب هذا الوباء دورا مؤثرا في تسريع حركة بعض مسارات التاريخ، ولست أدري إذا كنت دقيقا في استخدام كلمة “بعض”، فالكثير من المؤشرات توحي أن التغيير سيكون كبيرا، وسيشمل المفاهيم الأساسية الحاكمة للعالم، وخريطة موزيين القوى العالمية، وطبيعة العلاقات الدولية، وأن الوباء طرح أسئلة وجودية عن حدود قوة الإنسان، وعن قدرته على مواجهة التحديات التي تعترض مسيرته، وكلها قضايا ستشكل محاور أساسية في جدول تفكير البشرية فترة طويلة مستقبلا.
أمام هذا التغيير القادم فإن تفاعل الشعوب والدول مع هذا الاحتمال شبه المؤكد متباين، بين أمم تدرك الحاجة للاستعداد للمرحلة القادمة، ولذلك فهي تفعل كل أدوات التفكير والاستشراف، وتحاول أن تضع بصمتها على المستقبل، وبين أمم أخرى تقف في حالة ترقب وانتظار وعجز عن التوقع، إنها تنتظر المستقبل عوض أن تفكر في صناعته، وتترقب الحلول والمآلات بدل المساهمة في صياغتها، وهذا هو الفرق بين الأمم الحية الفاعلة التي تصنع التاريخ، والأمم العاجزة الغائبة عن ساحات التأثير.
وعلى الرغم من النتائج الكارثية لوباء كورونا سواء في ما أحدثه من خسائر في الأرواح، وما يمكن أن يُحدثه مستقبلا قبل التمكن من السيطرة عليه، وكذلك في ما أحدثه على مستوى النشاط الاقتصادي والتجاري وإحالة مئات الآلاف وربما الملايين في العالم إلى البطالة، والانعكاسات السلبية له على قطاعات التعليم والسياحة والصحة وغيرها، فإن الوباء كشف عن حجم الخلل الذي يحيط بمجالات أساسية لها صلة مباشرة بالإنسان واحتياجاته الأساسية، وهو ما تساوت فيه الدول الضعيفة مع الدول التي قطعت اشواطا واسعة في التطور وفي مستوى الخدمات التي تقدمها لشعوبها.
ولا يتعلق الأمر هنا بمجرد اختلالات جزئية يمكن التعامل معها ببرامج وإصلاحات تقنية، بل إن الأمر يتعلق -كما يذهب إلى ذلك الكثير من المتابعين من المفكرين والفلاسفة في العالم- باختلالات بنيوية في المنظومة السياسية والاقتصادية التي تدير العالم، سواء في منطلقاتها النظرية والفكرية المتمثلة في الليبرالية والرأسمالية، أو في بنائها الهيكلي الذي صاغته منظومة بروتن وودز بعد الحرب العالمية الثانية كهيئة الأمم المتحدة والهياكل المنبثقة عنها في مختلف الميادين.
سرَّع وباء كورونا في كشف كل التناقضات والتحيزات التي حرصت القوى المهيمنة على الإبقاء عليها، ورفض أي محاولة لتعديلها لتكون أكثر عدلا، وأكثر تمثيلا لمختلف المجموعات البشرية والحضارية التي تشكل العالم، ولعله من المهم التذكير بالمطالب القائمة منذ سبعينات القرن الماضي بإصلاح النظام العالمي، وإقامة نظام عالمي جديد عادل ومتوازن، لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، وكان ضحية لجشع ولأطماع الدول والقوى المستفيدة من الوضع القائم من جهة، وكذلك لضعف وعجز وانقسام الدول التي كانت وراء الدفع في اتجاه التغيير من جهة أخرى.
إن الكثير من الظواهر السلبية التي لاتزال تهدّد العالم في استقراره، وفي استدامة تنميته، وفي شعور كل المكوِّنات الثقافية والحضارية والإثنية المشكِّلة له بالاطمئنان والرضا، يجد تفسيره في النزعة الإقصائية، وتمحور القوى الكبرى حول مصالحها وأنانياتها الضيقة، أي على العكس تماما من الديباجات والخطابات التي كانت ولا تزال تقدِّم به مقولاتها التي تبرر بها حقها في قيادة العالم.
لقد كشف وباء كورونا حجم هذا التناقض خصوصا في أسابيعه الأولى عندما انغلقت كل الدول على نفسها داخل حدودها، وذابت كل شعارات التضامن والتعاون أمام قوة وشراسة وسرعة انتشار كورونا، حتى أن أسئلة حقيقية طُرحت حول جدوى الاتحاد الأوروبي مثلا وقد سارعت كل دوله لحماية نفسها وتخلت في الأشهر الأولى عن دول من الاتحاد كإيطاليا وإسبانيا مثلا وتركتها أمام مصيرها المؤلم؟
وظهرت هذه الأنانيات أيضا في مرحلة البحث عن اللقاح، وفي مرحلة توزيعه عالميا بعد تصنيعه، وقد ذكرت بعض التقارير الصحفية في الأيام الأولى لهذا السباق كيف حاول الرئيس الأمريكي ترامب احتكار هذا اللقاح بعدما بدأت بوادر تصنيعه من إحدى الشركات الألمانية.
كل هذه القضايا سيستبطنها وعي ولا وعي العقل السياسي في كل دول العالم، وستكون من المحددات الأساسية لسياسات الدول مستقبلا، ما سيعمِّق بدون شك منسوب الانعزالية، والشعور بعدم اليقين وتضعضع الثقة، وتلك مرحلة بدأت بعض ملامحُها وستتأكد في الفترة القادمة.

وباء التطبيع ودلالته

إذا كانت بداية سنة 2020 سجلت بداية انفجار موجة كورونا عالميا، فإن نهايتها سجلت تسارعا في موجة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وخروج التعاملات غير المعلنة التي كانت لبعض الكيانات العربية معه إلى العلن، بعدما ظلت عقودا تُمارَس سرا بعيدا عن الأنظار.
تزامنت هذه الموجة مع اقتراب انتهاء عهدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورغبته في تحقيق إنجاز ومكسب استراتيجي لصالح الكيان الصهيوني قبل مغادرته لمنصبه، ربما تطلعا منه ليحجز لنفسه مقاما بارزا في سجلات التاريخ، كما تزامنت مع مؤشرات تحوّلات وتحوّرات في المشهد العالمي والإقليمي، جعل بعض الأنظمة تنخرط في مشروع يبدو أنها تراهن عليه في حماية نفسها من التداعيات المحتملة لهذه التحولات.
ورغم أهمية وضع هذه الموجة في سياقاتها السياسية المحلية والدولية للاقتراب من فهمها، لكن يبدو أن المسألة تتجاوز “السياق الحدثي”، إلى ما يمكن أن نسمِّيه “المنطق المفاهيمي الجديد” الذي تنساق إليه بعض الأنظمة العربية والنخب المحيطة بها بسرعة منذ بداية هذا العقد، وتحديدا منذ انطلاق حراك الشعوب العربية أو ما يسمى إعلاميا بـ”الربيع العربي”.
يقوم هذا المنطق المفاهيمي الجديد في التفكير لدى الزمر السياسية الحاكمة في العالم العربي – مع ملاحظة أنه جديدٌ فقط في علنيته لأنه كان يمارَس سابقا لكن بطريقة غير معلنة- يقوم هذا المنطق على التعامل السياسي “المفصول عن القيمة” كما كان يسميه المفكر عبد الوهاب المسيري، ويسميه البعض “البرغماتية الواقعية”، وهو في الجوهر مسلكٌ يستبعد تماما المبادئ والأخلاق والثوابت القومية كمحدِّدات في التفاعل مع مختلف القضايا، ويقتصر على المصلحة في أقصى وأضيق صورها.
ومن أهم ملامح هذا المنطق الجديد أن الأنظمة لا تنطلق في تفكيرها ومواقفها من مرجعية الأمة في امتدادها الجغرافي والحضاري، لكن من مرجعية القُطر حصرا، وفي القُطر لا تنطلق من مرجعية المصلحة الواضحة والمحددة للدولة وللمجتمع، ولكن من مرجعية مصلحة النظام المسيطِر ونخبه، وفي هذا المستوى تُختزل المصلحة في استمرار سلطة الفرد رئيسا أو ملكا وما يحيط به من دوائر الولاء السياسية والمالية والإيديولوجية.
وهذا يعني أن هذه الموجة الجديدة للتطبيع تختلف تماما عن ما قامت به بعض الأنظمة العربية في فترةٍ سابقة من إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني وفق اتفاقيات ثنائية (اتفاقية كامب ديفيد بالنسبة لمصر، واتفاقية وادي عربة بالنسبة للأردن)، فرغم الصدمة التي شكلتها هذه الأخيرة لكنها ظلت محدودة في تأثيرها وفي امتدادها، وظلت هذه الأنظمة تقدّمها على أنها وسيلة للضغط على “إسرائيل” لجرِّها إلى ساحة المفاوضات والسلام، أما الموجة الجديدة فتبدو أقرب إلى تحالف استراتيجي تساق إليه البلدانُ العربية بقيادة الكيان الصهيوني وبتزكية وحماية من الولايات المتحدة الأمريكية.
يقدَّم هذا التحالف أنه ضد خطر التمدد الإيراني، وضد الخطر الإرهابي، لكنه في الجوهر ضد كل أشكال المقاومة، وضد كل الأطراف السياسية والفكرية والمجتمعية التي مازالت متمسكة بخيار المقاومة كخيار استراتيجي في التعامل مع الكيان الصهيوني، كما يندرج أيضا في سياق التصفية النهائية للقضية الفلسطينية، أو ربما تحويلها لمجرد نزاع صغير لا علاقة له بطابعه الحضاري العميق ولا بعمقه العربي والإسلامي الواسع.
وبهذه الأبعاد تتبدى خطورة الموجة التطبيعية الجديدة، لأنها لا تستهدف فقط الإعلان عن علاقات سياسية ودبلوماسية، أو امتيازات اقتصادية وتجارية، لكنها تبدو كما لو أنها الفصل الفاقع فقط من مشروع أكبر متكامل الأبعاد والأهداف.
2020… يا لها من سنة، أولها موجة وباء كورونا أحدثت ولاتزال اضطرابا غير مسبوق في تاريخ العالم، وآخرها موجة وباء تطبيع وشرعنة كيان غاصب محتلّ، فهل يكون عام 2021 بحال أفضل؟

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • ابا دجانة

    الفساد والظلم والطغيان ساد العالم ولا بد من كوابح وموانع توقفوا تجبر وتكبر وعنصرية وهمجية بني البشر جاءت كورونا ولن تذهب حتي يرفع الظلم والطغيان من ارضنا والي الابد .
    نحن ننتظر يا بشر
    كورونا غضب ربكم لانكم افسدتم وظلمتم وتكبرتم