-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

3 عُلماء … 3 مواقف لافتة!!

3 عُلماء … 3 مواقف لافتة!!

كان العالم الألماني الشهير فليكس كلاين Klein (1849-1925) يقول “إن الرياضيات تزدهر عندما تُحلّ المسائل القديمة بأساليب جديدة، وأن التعمّق في تلك المسائل القديمة يؤدي بدوره إلى ظهور مسائل جديدة”. لقد أدرك الألماني ديفد هلبرتHilbert  (1862-1943)، الذي يعتبره الكثيرون رياضياتي القرن العشرين، مغزى مقولة أستاذه عام 1900 فألقى باللغة الألمانية في باريس محاضرته التي خلّدته لأنه ضمنها برنامج عمل شامل، لخصه في 23 مسألة عويصة، كل منها يُعدّ مشروعا بعيد المدى قائما بذاته. وانكبّ منذ ذلك الحين على حلها كافة رياضياتيي المعمورة العاملين بكل لغات العالم ولهجاته، لأن تلك المسائل تفرعت وتشعبت وتمخض عن ذلك ظهور مئات الاختصاصات الجديدة يعمل على ترقيتها كل الباحثين في الرياضيات من طلبة الدكتوراه إلى أرقى الباحثين. فحلّوا بعضها وظلّ بعضه بدون حلّ لحد الساعة.

العفاف والكفاف

نظرا للنجاح الباهر الذي عرفه مشروع هلبرت، استلهم فكرته معهد أمريكي عام 2000، وطرح 7 مسائل رياضية – سمّاها مسائل الألفية- ليجدّد تحفيز البحث في الرياضيات وخصص لكل مسألة منها جائزة بمليون دولار. وبعد مرور أزيد من 20 سنة لم تُحلّ من هذه المسائل سوى واحدة -تُعرف باسم “مخمَّنة بوانكريه” Poincaré الفرنسي- يرجع تاريخها إلى مطلع القرن العشرين.

ومن حلّ هذه المسألة؟ حلّها العالم الروسي غيرغوري بيرلمان Perelman حيث تعمّد نشر بحث بالأنكليزية في مجلة متواضعة غير محكمة عام 2003 ضمّنه الحلّ تاركًا الجمهور العريض يحكم على عبقريته. وسرعان ما تفطّن كبار العلماء إلى براعته فجوزي بميدالية فيلدز عام 2006 (المعادلة لجائزة نوبل). لكنه رفض استلام الجائزة رغم أن وفدا من كبار الرياضياتيين في العالم انتقل للقائه بمدينته سنت بطرسبورغ الروسية للتوسّل إليه من أجل قبول الدعوة، فأبى وعاد الوفد بخفي حنين.

وفي عام 2010، تم التأكد من حل بيرلمان، ولذا منحه المعهد الأمريكي السابق الذكر جائزة المليون دولار، فرفضها أيضا رغم أنه كان يعيش كفاف يومه براتب زهيد لا يتجاوز عشرات الدولارات. ومن مواقفه النادرة مقارنةً بمجريات حياة علماء اليوم وجشعهم المادي أن مدير قسم الرياضيات بجامعة أمريكية ذائعة الصيت طلب منه ذات يوم تزويدهم على جناح السرعة بسيرته العلمية لدراستها على مستوى مجلسهم كي يتم منحه منصبا مرموقا براتب مغرٍ، فردّ على السائل بما معناه : إن كان أعضاء هذا المجلس يجهلون سيرتي فهم ليسوا أهلا للحكم علي، وإن كانوا يعلمون فهم ليسوا بحاجة إلى أن أزوّدهم بها… ولم يرسل سيرته!

لغة المنطق ومنطق اللغة

ريتشارد فينمان Feynman  (1918-1988) فيزيائي ورياضياتي أمريكي كان يتمتع بشهرة لا نظير لها لدى جمهور العلماء. وقد نال جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965. كتب هذا العالم في مذكراته أنه كان له شرف إدخال اللغة البرازيلية (البرتغالية تقريبا) إلى أكاديمية العلوم البرازيلية! حدث ذلك عندما استضافته هذه الأكاديمية ليلقي فيها محاضرة فراح يعدّها باللغة البرازيلية- وهو لم يدرس هذه اللغة قطّ- مستعينا قبل زيارته بمعارفه البرازيليين في الولايات المتحدة.

وعندما وصل إلى هذه الأكاديمية لاحظ أن الجميع يلقون كلماتهم ومحاضراتهم بالإنكليزية، وهم من البرازيليين. وعندما أتى دور فينامان فاجأ الحضور بمخاطبهم بالبرازيلية. ويضيف فينمان أن الأكاديمي الذي جاء بعده من المحاضرين البرازيليين قال : بما أن هذا الأمريكي ألقى محاضرته بلغتنا فسألقي محاضرتي بلغتي! ويختم فينمان روايته بالملاحظة الوجيهة : يقع على عاتق المحاضر والأستاذ تحمّل مثل هذه الصعاب اللغوية لتوصيل فكرته إلى الحضور وليس العكس.

أما عندنا فيتذرّع بعض أساتذتنا بأنهم لا يلّمون بالعربية، ولذا يدرسّون الرياضيات بالفرنسية رغم أن الطالب سيزيد تحصيله العلمي واستيعابه لو واصل تعليمه في السنوات الأولى الجامعية بالعربية. بمعنى أن الأستاذ يمتنع عن بذل جهد في المجال اللغوي في سبيل تقريب المعنى والمفاهيم للطالب!

لكن نفس الأستاذ يبذل قصارى جهده، من أجل ترقيته الخاصة، في كتابة مقالاته باللغة الأنكليزية لأنه لا حول في كتابتها باللغة الفرنسية. فكل المجلات الرياضياتية تنشر بالأنكليزية، بما فيها مجلة أكاديمية العلوم الفرنسية (CRAS) الشهيرة في الرياضيات التي تصدر منذ تاريخ احتلال فرنسا للجزائر. وكذلك الشأن مثلا بالنسبة  لمجلة “حوليات هنري بوانكريه” التي تصدر منذ نحو قرن. ففي هاتين المجلتين لم نجد في آخر أعدادها مقالا واحدا بلغة أخرى غير الأنكليزية. لذا فأدْعى بهؤلاء الأستاذة البخلاء على طلبتهم والمغدقين على أنفسهم -إذا ما تصورا أن في التدريس بالعربية تخلفًا- أن يتقدَّموا ويدرّسوا العلوم باللغة التي ينشرون بها أبحاثهم… فهذا يغنيهم عن المكيال بمكيالين في التعامل مع اللغات.

متواضعٌ … لكنه يَتطاول

شينيتشي موتشيزوكي، عالم الرياضيات الياباني الفذّ المولود عام 1969، باحث بمعهد الرياضيات في جامعة كيوتو  Kyotoاليابانية. كانت عائلته قد انتقلت إلى الولايات المتحدة عندما كان طفلا فتلقى كل دراسته في أشهر الجامعات الأمريكية عند بلوغه سنّ 16. غير أن الحياة في الغرب المادي لم ترقه فاستوطن بلده الأم، اليابان، عندما بلغ 25 سنة رغم العروض المغرية التي قُدّمت إليه في أمريكا وغيرها.

لقد زعم موتشيزوكي عام 2012 أنه حلّ معضلة في نظرية الأعداد، تُدعى “مخمَّنة أ ب ج” عمرها أكثر من ثلاثين عامًا. ونشر 4 أبحاث متتالية في موقع إلكتروني ناهز مجموع صفحاتها 600 صفحة. فأثارت هذه البحوث ضجة قوية لا زالت متواصلة لدى خبراء العالم. وراحوا يحاولون تتبع الحلّ للوقوف على سلامته ففشلوا بعد أن قضوا فيه 8 سنوات كاملة. فمنهم من أقرّ سلامته، ومنهم من رأى فيه بعض الثغرات التي لا بد من سدّها لاستكمال البرهان والتأكد من النتيجة النهائية. والمشكل الكبير الذي يواجهه الخبراء أنه من الصعب، بل من المستحيل، إيجاد خبراء قادرين على تفحّص هذا الكمّ من الصفحات لأن كل فقرة فيه تتطلب عملا موازيا قد يدوم أياما وشهورا للتأكد من التفاصيل!

ظلّ موتشيزوكي في مدينته لا يلقي محاضرات إلا في اليابان، وباللغة اليابانية دون غيرها. وعلى الرغم من أنه يتقن الإنكليزية فإنه رفض كل الدعوات للحديث في الموضوع في مكان آخر. يرى المتتبعون لهذا الإنجاز، أن العمل الذي قام به موتشيزوكي بعيد جدا عن كل ما سبقه من أعمال. فهو “يحاول إصلاح الرياضيات من ألِفها إلى يائها، بدءًا من أساسياتها في نظرية المجموعات”. ورغم وداعته وتواضعه، تحدّى موتشيزوكي أسرة الرياضياتيين بسخرية وخشونة حين صرّح قائلا : “لفهم ما قمتُ به من عمل، يتعيّن على الباحثين إلغاء تنشيط أنماط التفكير التي كانوا قد ثبّتوها في أدمغتهم معتبرين أنها أمرٌ مُسلّمٌ به ومكتسب منذ عديد سنوات”!

ليس مهمًا أن يكون الإنسان عالما، بل الأهم أن يتواضع طالب العلم كي يتعلم من هؤلاء العلماء.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • عدنان القريشي

    ما ورد في أحد التعليقات من أن الفرنسية هي"هجين لغوي من لهجتين غريبتين عن الشعب الفرنسي ذاته"هو كلام صحيح تاريخيا ولسانيا ؛وهذا ما أوردته واحدة من ألمع اللسانيين الفرنسيين في كتاب لها شهير:"الفرنسية بكل أبعادها" وبالتالي فان الشعب الفرنسي حسب هذه العالمة -الفرنسية عرقا- هو شعب يتكلم لغة ليست لغته.ولكن ما يؤسف له أشد الأسف أن بعض الجزائريين عندنا صاروا-أو هكذا كانوا دائما:لاأعرف-ملكيين أكثر من الملك نفسه. أما أن الفرنسية ليست لغة علم فهذا أمر محسوم عند الخاصة من الفرنسيين؛أقصد أهل العلم عندهم.تحية إكبار للأستاذ سعدالله.

  • أحمد محمد عبد القادر

    ما قرأنا أو سمعنا أن الفرنسية - التي هي هجين من لهجتين غريبتين حتى عن الشعب الفرنسي ذاته - هي الأداة المناسبة لاكتساب العلم والمعرفة إلا من بعض الجزائىيين فقط!! شكرا لكم أستاذنا الفاضل سعد الله

  • عم سلمات

    بارك الله فيك استاذنا وجزاك كل خير دمت ذخرا لنا

  • محمد الجزائري.

    شكرا على المقال . إن السيرة الذاتية في جامعاتنا لا تهم بقدرالنعرف عل الشخصيات النافذة. أما بالنسبة للغة: فهي قميص عثمان، لقد درسنا عند السوفيات فمن يتقن علم يتقنه بجيع اللغات.

  • طارق الجزائري

    شكرا على المقال المفيد. حقيقة هناك طاقات فكرية تكسرت أحلامها على أسوار الجامعة بسبب اللغة الفرنسية يدرس الجزائري باللغة العربية في كل الأطوار ثم يصل إلى الجامعة ليطالب بإتقان الفرنسية لمواصلة الدراسة في التخصصات العلمية وننسى أن اللغة الأم هي لغة التفكير وتصور العالم. إن كان فلا بد فالتدريس بالانجليزية أفضل.شكرا مرة أخرى أستاذي الفاضل.

  • منصور من السعودية

    شكرا لك دكتور أبو بكر على تنوير القارئ العربي بكثير من الإنجازات المعاصرة في الرياضيات وغيرها من العلوم. جميل اكتساب العلوم المعاصرة والأجمل اكتساب أخلاق العلماء وترفعهم.

  • عبد الرحمان

    من احسن ماطالعت هذا الصباح شكرا على المقال المؤثر و رفع معنويات البعض صباحا. نحتاج هكذا مقالات للتاثير الايجابي في توجيه المجتمعات نحو طريق العلم و اخلاقه. موفقين ان شاء الله

  • ALI

    دائما تمنعنا بمقالاتكم