الفرق “الناجية” في تصنيف الغرب للدول “الفاشلة”
تنافست الصحافة العربية، وكبريات القنوات الموجهة لمعالجة الرأي العام العربي أوسط الأسبوع الماضي، بعناوين تشترك على الأقل في استنساخ عبارة “الدولة الفاشلة” وهي تنقل ـ دون نقاش أو تمحيص ـ مقتطفات مختارة من تقرير سنوي يصنف دول العالم بين أربع مجموعات على مقياس الاستقرار والفشل وفق النظرة الأمريكية: دول مستقرة، ودول معتدلة، ودول منذرة بالخطر، ودول مستنفرة، وكان حظ العرب فيه مناصفة بين “دول منذرة بالخطر” وأخرى قيل إنها “دول مستنفرة” فيما توافقت الصحف الجزائرية على عناوين تقول على قلب رجل واحد: ”الجزائر ضمن الدول الأكثر فشلاً في العالم”(هكذا؟؟).
للعام السادس على التوالي أصدرت دورية السياسة الخارجية Foreign Policy بالتعاون مع وقفية السلام Fund for Peace المقياس السنوي السادس للدول الفاشلة، والذي يقوم بترتيب الدول بحسب درجة إخفاقها في أداء الوظائف المنوطة بها. ولمن لا يعلم فإن دورية السياسة الخارجية تصدر عن معهد العلاقات الخارجية الذي يعتبر حاضنة للصفوة الأمريكية التي تشغل الدولة الأمريكية العميقة، وأحد أبرز مراكز الأبحاث ”الثينك تانك” التي تصنع السياسات الأمريكية، ويشترك معه في إنتاج التقرير “وقفية السلام” التي أسسها سنة 1957 واحد من كبار الصيارفة المدعوRandolph Compton.
بعد أن تعرفنا على المصدر، وعلمنا بالضرورة أنه واحد من أخطر أدوات الدعاية الأمريكية، لابد أن نظن به ظن السوء، وفي الحد الأدنى نخضع ما يصدر عنه للدراسة والتمحيص، علماً أن أمثاله من دور الدراسة، سواء الأمريكية أو الغربية، أو حتى كثير من الهيئات التابعة للأمم المتحدة، قد اعتادت على معالجة عقولنا بتقارير مزيفة، تعمل في الغالب على زرع مشاعر اليأس، مع تركيز أكثر من مريب على الحالة العربية، وكانت مثل هذه التقارير قد استفزتني عشية اندلاع الربيع العربي، فأفردت لها مقالا بعنوان “الأبيض من الأسود في نظرة الغرب النمطية للعرب” صدر بتاريخ 21 / 02 / 2010، قدّمت له بما يلي:
* لابد أن نظن به ظن السوء، بما يصدر من تقارير بحثية غربية مزيفة، تعمل في الغالب على زرع مشاعر اليأس، مع تركيز أكثر من مريب على الحالة العربية، كما هو حال التقرير الصادر عن فورين بوليسي ووقفية السلام حول الدول الفاشلة.
”هل العالم العربي أصبح فاقدا للثقة في النفس، حيرانا كما يراه تصنيفٌ غربي جديد؟ أم أن التقارير الدولية حول الحالة الصحية للعالم العربي هي جزء من عمل منهجي يعمل على زرع بذور الشك في النفس، وجلد الذات على أيدي فريق محترف من النخب العربية التي تقول كبنت الصدى عن سماع، وتقوم بدور أخطر من الدور الذي لعبته الفئات العميلة زمن الاستعمار؟”
كما استفزني اليوم تعامل الصحافة العربية مع التقرير أكثر من زيف التقرير نفسه، حين تنافست فيما بينها في توظيفٍ جاهل أحمق لمفرداته، دون أن تكلف نفسها مشقة دراسته وتمحيصه، وإلقاء نظرة على الطريقة التي تستغله دورية “السياسة الخارجية” لتوجيه صناع القرار في الولايات المتحدة.
دعونا ندخل إلى التقرير الذي نُشر في شكل لوح بياني، رتب الدول في قائمة مقلوبة، لتفوز الصومال، وللسنة الثالثة على التوالي، بـ”ذهبية” الدول الفاشلة، وتعود “الفضية” للكونغو الديمقراطية و”البرونزية” للسودان الشقيق، فيما شملت الفئة الرابعة الموصوفة بـ”المستنفرة” عشر دول عربية (أفضلها ليبيا وأدناها الصومال ومعهما مصر، وموريتانيا، وسورية، ولبنان، والعراق، وجيبوتي) وصنفت معهم معظم الدول الإسلامية مثل باكستان، وأفغانستان.
وكما جرت عليه العادة في التقارير السابقة، تم تقسيم الدول وفقًا للفئات الفرعية ذاتها وهي وفقًا لموقع “وقفية السلام” كما يلي: فئة ”الدول المستنفرة Alert States (وتشمل هذا العام 37 دولة) وفئة الدول المنذرة بالخطر Warning States ( 92 دولة) وفئة الدول المتوسطة (35 دولة Moderate States)، وفئة الدول المستقرة (14 دولة Stable States).
المجال لا يتسع لمناقشة المقاييس المتحيزة التي اعتمدها التقرير أو التدقيق في مصادره الإحصائية، كما لا يسمح بالتفرع كثيرا في المقارنات التي قد تفضي إلى معادلات هزلية، مثل أن تصنف دولة مجهرية من جمهوريات الموز مثل الباهاماس(133) في “فئة الدول المعتدلة” رفقة الولايات المتحدة وفرنسا، بينما يصنف العملاق الصيني (66) في فئة الدول المنذرة بالخطر، تتفوق عليها دولة فيجي (67) لأجل ذلك سوف نكتفي بعرض أهم منتسبي الفئات الأربع، ونثق في ذكاء القارئ ليستنتج ما يشاء.
فئة الدول المستقرة (14) تأتي على رأسها الدول الاسكندينافية، وفي طليعتها فلندا(178) والسويد (177) وأدناها هولاندا(166) وألمانيا (165) منها عشر دول أوروبية، إضافة إلى كندا وأستراليا، وهي نخبة النخبة، وطليعة “الفرق الناجية” في فقه “فورين بوليسي” و”وقفية السلام”.
فئة الدول المتوسطة أو المعتدلة (38 دولة)
مقسّمة بدورها إلى ثلاث مجموعات متدرّجة من بلجيكا برتبة (164) إلى الكويت(137) وهي الفرق “المعصومة” من الفشل في تقدير هذا المعهد الماسوني، فلا وجود في الفرقتين؛ أي 42 دولة مستقرة أو معتدلة، سوى أربع دول عربية خليجية: قطر، والإمارات، وعمان، والكويت، فيما غابت بقية الدول العربية والإسلامية، بل وغابت دول “البريكس” التي تحتل اليوم الصدارة في الاقتصاد العالمي.
فئة الدول المنذرة بالخطر (90 دولة) تحت هذا العنوان صنفت 90 دولة، من بينها الجزائر (73) أعلاها رتبة البرازيل (126) وأدناها إيران(37) والكونغو(36) فحن هنا أمام نصف تعداد دول العالم، وأكثر من ثلاثة أرباع سكانه، ومثله من مساحته، قد صنفت دولهم كدول “منذرة بالخطر” تشكل تهديداً للسلم العالمي، أي تهديداً للفرقتين الناجيتين، من بينها ثلاث دول نووية (الصين، وروسيا، والهند) وعضوان دائمان بمجلس الأمن، وأول اقتصاد عالمي مع مجموعة “البريكس”، ودول مالكة لأكثر من 80 في المائة من طاقة العالم، يعيش فيها مليار ونصف مليار مسلم، ومليار وثلث مليار بوذي، ومليار هندوسي، وأغلبية المسيحيين الروم، يزعم التقرير أنها تشكل “تهديدا على السلم العالمي”.
فئة الدول المستنفرة (35 دولة) تحت هذا العنوان صنفت تحديدا الدول الأكثر فقرا في العالم، والتي أسقطت الدولة في بعضها كما في الصومال (رقم1) ومعها الدول الغنية التي هدمها “العقب الحديدي” مثل العراق (11) وسورية (21)، أو التي أضعفها “الربيع العربي” مثل مصر(34) واليمن (6)، مع أن التقرير لا يتحدّث صراحة عن “الدول الفاشلة” كما سُوِّق في الإعلام العربي، بل أورد مصطلحين مبتكرين: هما الدول “المنذرة بالخطر” والدول “المستنفرة” في اعتراف ضمني بأن التقرير يريد ترتيب الدول خارج المعسكر الغربي “التلمودي المسيحي” وفق مستوى تهديدها للغرب من أحد الأوجه التي نكتشفها عبر تفحص المقاييس التي اعتمدها التقرير.
وقد حق لك الآن أن تستنتج في الحد الأدنى ملاحظتين قبل العودة لقراءة جديدة للعنوان المشترك الذي قدِّم به التقرير في الصحافة الجزائرية: “الجزائر ضمن الدول الأكثر فشلا في العالم”.
* ثلاث دول نووية، وعضوان دائمان بمجلس الأمن، وأول اقتصاد عالمي، ودول مالكة لأكثر من 80 في المائة من طاقة العالم، يعيش فيها مليار ونصف مليار مسلم، ومليار وثلث مليار بوذي، ومليار هندوسي، وأغلبية المسيحيين الروم، يزعم التقرير أنها تشكل تهديدا على السلم العالمي.
الأولى: جميع الدول الأوروبية (باستثناء البوسنة وألبانيا المسلمتين) والغربية في القارات الثلاث تجدها ممثلة في ”الفرقتين الناجيتين” (المستقرة والمعتدلة) يشاركها من خارج أوروبا وأمريكا الشمالية، من آسيا: اليابان، وكورية الجنوبية، وسنغافورة، ومنغوليا، ومن العرب: صغار “قوم تبّع” من عرب الخليج بقيادة “عقلة الأصبع” قطر، ومن أمريكا الجنوبية ما بقي من جمهوريات الموز: بربادوس، كوستاريكا وباهاماس.
الثانية: جميع دول “البريكس” بدءابالبرازيل (126) وجنوب إفريقيا (113) روسيا (80) الهند (79) والصين (66) صنفت مع الدول “المنذرة بالخطر” حتى أن الصين صنفت في مرتبة دون الجزائر (73) وأن المغرب (93) وتونس (83) أفضل من روسيا (80) ولك أن ”تثق” أكثر بهذا التصنيف، إذا علمت أن أكبر دول “البريكس” مصنفة دون مستوى جمهوريات الموز مثل: المالديف، وميكرونيزيا، وسورينام، وبيليز، وبرونواي.
الآن وجب عليك أن تعود لقراءة العنوان الذي قدّمت به الصحف الوطنية هذا التقرير: “الجزائر ضمن الدول الأكثر فشلا في العالم” فهل تجد في التقرير ما يشير من قريب أو من بعيد إلى مصطلح ”الدولة الفاشلة”؟ أم أن صحافتنا مثل الصحافة العربية قد خضعت من حيث لا تدري لعملية غرس (صورة ذهنية سوبلومينال) وهو ما أراده أصحاب التقرير أن يذاع من خلال تقريرهم، لتصل الرسالة وقد ترجمت بالوكالة عن هذه المحافل الناطقة باسم الدجّال، كما روج حامل جائزة نوبل أحمد زويل للتقرير الأممي الذي صنف العرب كقوم فاقدين للثقة في النفس؟