-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المرأة الحديدية والجميلتان

المرأة الحديدية والجميلتان

لا أظنني أجانب الحقيقة إذا قلت إنه لا يوجد في التاريخ بين الكاتبات الصحفيات أشجع وأعند وأشهر من نورا بيلوف، وهي أحقّ من مارغريت تاتشر بنعت المرأة الحديدية، بل كان من زملائها من يصفها بالرجل الشرس. تنحدر هذه الكاتبة الانجليزية من أصل روسي يهودي، غادرت عائلتها روسيا قبل الثورة البلشفية بعشر سنوات، وبنت لنفسها مجدا تليدا. فوالدها نجح في التجارة، وأقاربها تألّقوا في ميدان العلم. وكان منهم من نال جائزة نوبل. وهناك اليوم من يتحدث عن عراقة سلالة آل بيلوف.

وحياة نورا بيلوف، على ما فيها من تقلّبات وعثرات ونجاحات، جديرة بأن تروى. لقبها الحقيقي روبينوفيتش، وهي رائدة الصحفيات البريطانيات، طافت أرجاء العالم، فعملت مراسلة لوكالة رويتر والإيقونوميست والأوبسفر في باريس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم محلّلة سياسية في واشنطن وبلغراد وموسكو وبروكسيل لحساب جريدة الأوبسرفر. ونسجت شبكة من العلاقات مع مشاهير العالم، من رؤساء ودبلوماسيين، لم تكن دائما متّسمة بالود والدفء بسبب مزاج بيلوف الحاد وطبعها المتشنج. خلال الحرب العالمية الثانية عملت في المخابرات السياسية في سفارة بلادها بباريس، لكنها سرعان ما استقالت من منصبها لتلتحق بوكالة رويتر. بالإضافة إلى مئات المراسلات التي نشرتها في الصحف البريطانية والعالمية، ألّفت بيلوف العديد من الكتب. وقد أثارت مواقفها مما أسمته “مأساة يوغسلافيا” الكثير من الاستغراب وعدم الرضى، وبرّرت موقفها بالقول إن الصرب ليسوا مجرمين سفلة، وإن وسائل الاعلام شوّهت حقائق ما كان يجري في يوغسلافيا، وقدمت الصرب في صورة الوحوش المتعطشين للدماء. خلّفت نورا بيلوف عدّة مؤلفات: “حرب يمكن تجنبها”، “الجنرال يقول لا”، “مرورا ببريطانيا”، “حرية تحت الأقدام”، “لا رحلة تشبه رحلة إلى روسيا”، “الإرث الناقص لتيتو: يوغسلافيا والغرب”.

في 1968 غادرت فرنسا بعد عودة الجنرال ديغول إلى الحكم إذ لم تكن تطيقه. وغادرت الحياة عام 1997. ولم يقل فيها أحد من الجزائريين كلمة طيّبة أو ذكرا حسنا. تقاطعت الحياة المهنية لنورا بيلوف مع الجزائر، رغم أن قدميها لم تطآ أرضها. ويعتبر البعض الجزائر، أو بالأحرى أحداث الثورة الجزائرية، هي التي جعلت منها صحفية لامعة. وكانت تغطياتها لما يدور من سجال سياسي في فرنسا عن حرب التحرير يحتل الصفحات الأولى في الجرائد البريطانية.

ومن أشهر ما نشرت بيلوف عن الجزائر مقالات عن المناضلتين الجميلتين بوباشا وبوحيرد، والتعذيب البشع الذي تعرضتا له على أيدي الجلاّدين من مظلّيي سيء الذكر بيجار. وقد ساهمت مقالاتها المتميّزة والعنيفة في تدويل حملة التضامن العالمية ضد حكم الإعدام على الجميلتين لا يقل عن ما قام به المحامي جاك فرجيس، وسارتر ورفيقته سيمون دي بوفوار، وجورج آرنو، وجيزيل حليمي ومثقفون آخرون لا تسمح حدود هذا المقال بذكرهم جميعا.

ولعل ذكاء بيلوف وخبرتها الطويلة في الصحافة وإطلاعها الواسع على التاريخ الفرنسي هو الذي جعلها تقيم مقارنة بين محاكمة الضابط الفرنسي ألفريد دريفيس، الذي أتّهم جورا بالجوسسة، وحكم عليه بالإعدام، ثم أعيد له الاعتبار بعد حملة صاخبة في فرنسا، والكاتب الشهير إميل زولا، الذي كتب مقالا عنيفا عن محاكمة دريفيس بعنوان “إني أتهم”، يعدّ اليوم من أفضل الأدبيات السياسية في التاريخ مضمونا وأسلوبا.

ومما كتبته نورا بيلوف “إن أوجه الشبه بين محاكمة دريفيس وجميلة بوحيرد كثيرة: فكل من المحاكمتين جرت أمام محكمة عسكرية كانت تعرف الحكم مسبقا قبل النطق به.

وكل من المحاكمتين كان فيها مظهر التعصب العنصري البغيض. فمحاكمة دريفيس اقترنت بمعاداة السامية، ومحاكمة جميلة اقترنت بالتعصب ضد كل العرب الجزائريين… وفي كل من المحاكمتين كانت الحكومة الفرنسية الضعيفة في حاجة إلى من يسندها أمام مجلس النواب المنقسم حول نفسه.

وفي كل من المحاكمتين رفضت المحكمة أن تطلع هيئة الدفاع على وثائق الاتهام.

وفي كل من المحاكمتين تورّط ممثل الوزارة الفرنسية، وصرح أمام البرلمان بأن التهمة صحيحة قبل صدور الحكم. فالجنرال كافينياك، وزير الدفاع الفرنسي، صرح أمام البرلمان قائلا “إنني مقتنع تماما بإدانة دريفيس”، واليوم يصرح لاكوست أمام البرلمان قائلا: “إن جميلة قد اعترفت أمام المحكمة”. هي واقعة كاذبة.

وتضيف بيلوف: “في كل من المحاكمتين كان الجيش الفرنسي يعاني من هزائم عسكرية كبرى، ويحاول أن يسترّد كرامته بمحاكمة رخيصة. فبعد الحكم على دريفيس قالت الصحف الأوروبية ساخرة: “هذا أول انتصار يحرزه الجيش الفرنسي منذ هزيمة 1870، وفي هذه المرّة يحاكم الجيش الفرنسي جميلة ليخفي على حسابها هزائمه المتوالية منذ 1940 في الهند الصينية وغيرها!

وأخيرا، في كل من المحاكمتين تصدى كاتب فرنسي كبير لفضح عفونة الحكم والقضاء في فرنسا. في قضية دريفيس تصدى إميل زولا، وفي قضية بوحيرد تصدى جورج آرنو بكتاب لا يقلّ أهمية من مقال زولا الشهير “إني أتهم”. وسجّلت نورا بيلوف “أن الضمير الفرنسي تدهور إلى الحد الذي أصبح كذب الحكومة السافر يجعلها تسقط في أعين الشعب”.

فهل بعد هذه المرافعة الجريئة من كاتبة انجليزية كلام؟ وهل اعترفت لها الجزائر بفضلها؟ وهل سمع الجزائريون حتى باسمها؟ بدون تعليق!. نورا بيلوف

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • amine

    سيد بوباكير شكرا جزيلا.امثالك يجب ان يكون لهم مقال يومي وليس اسبوعي...يا شروق الرجل يقول حدود هذا المقال لا تسمح ماذا يعني ذلك؟