التقييم: هذه المرحلة التي لا نحسن التعامل معها
امتلاك القدرة على التقييم ليست بالأمر الهين. الكثير منّا يعتقد أنه قادر على تقييم أداء الأشخاص والسياسات بسهولة قصوى، يختصر نتيجتها أحيانا في كلمتي نجاح أو فشل. والواقع أن الأمر يحتاج إلى روية أكبر، فالتقييم ليس هو الخلاصة الأخيرة التي نخرج بها إنما هو مسار نعرف من خلاله نقاط القوة ونقاط الضعف قبل الانطلاق في بناء مسار جديد. بهذا المعنى فقط يكون التقييم عاملا من عوامل هندسة الرؤية الإستراتيجية للبلاد.
لقد تابعت عدة محاولات تقييم للسياسات السابقة لبلادنا، ووجدت أنها بقدر ما حملت من حقائق موضوعية هي في حاجة إلى أن نقرأها وفق قواعد أكثر انضباطا من الناحية المنهجية، إذ لا يعقل أن يكون كل شاهد على مرحلة على حق، ولا يعقل أن يكون كل غائب عنها أو مُغَيّب على باطل. وعليه يصبح من اللازم علينا أن نجد الإطار الملائم الموضوعي والمحايد للقيام بعملية تقييم حقيقية لما سبق، لأننا على أساسها سنصوغ، بل ينبغي علينا أن نصوغ، مشروعنا المستقبلي.
ولو عدنا إلى تاريخنا القريب، سنجد أن السياسات اللاحقة إنما كانت في الغالب النقيض لما قبلها، وقائمة على تغطية كل إيجابيات تلك التي سبقتها.
لقد حاولت المرحلة البومدينيية أن تستحدث لنفسها أسسا من غير الاكتراث بما سبقها من محاولات، ومن دون أن تضع نفسها ضمن سيرورة المرحلة البن بلية السابقة، رغم أن النظام كان واحدا والرجال هم أنفسهم والمرجعية هي ذاتها.. أي ثورة نوفمبر.
وذات الشيء حدث في المرحلة الشاذلية عندما حاولت أن تكون البديل لما سبقها بالرغم من أنها كانت في حاجة إلى الأسس الفكرية وقاعدة الانطلاق التي أعدت قبلها في منتصف السبعينيات بعد الميثاق الوطني. والكل يعلم أن ما فعلته لم يزد عن كونه محاولات للتغيير افتقرت إلى البعد المستقبلي، ما فتئت أن أثبتت محدوديتها: إعادة الهيكلة، الانفتاح الاقتصادي وأخيرا الانفتاح السياسي.
وتبين فيما بعد أنها لم تستند إلى تقييم حقيقي لما سبقها، ولم تعتبر أنه بإمكانها الانطلاق من مكوناته لرسم إستراتيجيتها المستقبلية. كان عنوان التقييم هو نفي صلاحية ما سبق، والتفكير بمنطق العهد الجديد وبشعار: ندخل مرحلة جديدة. بالرغم من أن التقييم الموضوعي يفترض أننا لا يمكن أن ندخل هكذا مرحلة جديدة من غير أخذ بعين الاعتبار كل الموروث السابق خاصة إذا كان هذا الموروث يحمل من الإيجابيات الشيء الكثير.
وكان بإمكان الجزائر أن تجعل من مرحلة الفراغ التي عرفتها في العشرية السوداء بداية لتقييم حقيقي لما سبق، لأجل الانطلاق في مشروع وطني يمتد إلى الخمسين سنة القادمة، فإذا بها تجانب هذا الخيار الاستراتيجي وتسير باتجاه سياسة تقوم على تحقيق الأهداف المحدودة في الزمان والمكان ضمن نطاق مفهوم للتنمية والتطور يقوم على أولوية الأهداف المرحلية وأولوية الحاضر على المستقبل، أي على أولوية النتائج الفورية وإن كانت ذات تأثير على فروع النظام لا على النتائج البعيدة المدى التي يمكنها أن تؤثر في بنيته وأدائه الكلي.
ولذلك كانت كل التصحيحات محدودة، وحذرة، وتكتيكية لا تحمل رؤية مستقبلية بعيدة المدى للبلاد أدت إلى ما نشعر به اليوم من حالة الـلايقين في الآتي بعد حين.
لقد تعاملنا مع الواقع في مرحلة ما بعد العشرية السوداء كما تتطلب معطيات اللحظة وكما يتطلب الظرف المحلي والدولي. أي كواقع ضاغط، وقد حقق هذا الأسلوب بعض النتائج إلا أننا لا يمكن أن نسميها بأي حال من الأحوال بالنتائج الإستراتيجية ذات الأثر البعيد المدى.
وهو ما يجعل مطلبنا الأولي اليوم هو كيف نخرج من هذا التفكير المغلق إلى ذلك الفسيح وبعيد المدى: أي الذي سيجيب عن السؤال: كيف سنكون غدا وماذا علينا أن نفمل لنكون كذلك؟ أيْ أيّ إستراتيجية ينبغي أن نتبنى انطلاقا مما سبق، لنعرف أي فريق ينبغي أن يقود وما هي الخصائص التي ينبغي أن تتوفر لديه وليس العكس.
أي ينبغي علينا التقييم أولا، صياغة الرؤية ثانيا ثم إيجاد الأفراد الأنسب لإنجازها في الواقع، لنتجنب ما حدث في التجارب السابقة، انطلاقا من كون الأفراد مهما كانت عبقريتهم لن يستطيعوا صوغ رؤية مستقبلية للبلاد، ذلك أنهم مهما امتلكوا من مواهب وحس فردي إنما هي صفات تنتهي بانتهائهم ولا أحد يستطيع مواصلة الاستفادة منها، في حين أن تبينها ضمن مشروع وطني هو وحده الذي يضمن الاستمرارية للرؤية ويمكنها من أن تكون منبع كل تقدم.
وهو ما نحتاجه اليوم.
إن المرحلة التي نمر بها تحتاج بالفعل إلى تقييم موضوعي غير متحامل، تقييم للسياسات والأشخاص ليس بهدف الإساءة إلى هذا أو إلى ذاك، إنما بهدف المساهمة في هندسة رؤية حقيقة للبلاد تخرجها من مصير التخبط في السياسات الفرعية والقرارات الجزئية المرتبطة بقدرة هذ الشخص أو تطلعات ذاك، ذلك أن طبيعة المشكلات المركبة التي أصبحنا نعيشها وطبيعة العلاقات الدولية السياسية والاقتصادية المتشابكة أصبحت تحتم علينا إعادة النظر في أسلوب التفكير السابق.
لا شك أن هناك أشياء تحققت وأن هناك محاولات تمت، إلا أنها كانت في كل مرة تزيد ابتعادا عن صياغة رؤية متكاملة بالنسبة لبلادنا، بل إن التقييم الموضوعي يُملي علينا القول اليوم أننا كلما ابتعدنا عن الاستقلال كلما ضعف مجال الرؤية لدينا إلى درجة أن كدنا نفقدها في بعض الأحيان وأن لا نعرف مَن نحن وإلى أين نسير.
لقد كانت المواثيق الوطنية الأولى غداة الاستقلال وإلى غاية سنة 1976 أكثر تحديدا لمصير بلادنا مما هي عليه برامج الأحزاب أو الأشخاص التي تُطرح بين الحين والآخر الآن، للحفاظ على بعض التوازنات المحلية أو للاستجابة لبعض ضغوط الداخل أو الخارج. وليس أمامنا سوى أن نتدارك هذا النقص، ونفكر بطريقة أخرى في المستقبل.
صحيح أن زمن المواثيق الوطنية على الشكل التقليدي قد ولى، وزمن المخططات الثقيلة لم يعد يتماشى وسرعة التبدل الحاصل في العالم، إلا أن زمن التخطيط بالسيناريوهات، ومن خلال الاستشراف الاستراتيجي يبقى دائما وباستمرار هو البديل العلمي والعملي لأي بلد يريد أن تكون له مكانة في المستقبل بين الأمم.. ويكفينا اليوم أن أوروبا لم تعد تفكر في مستقبلها بشكل فردي، ولا يزعم أي رئيس دولة بها أن باستطاعته صوغ مصيرها على هذا النحو أو الآخر، كما أن الولايات المتحدة والصين والدول الصاعدة في الجانب الآخر، إنما جميعها لم تعد تستند في سياستها لدور الأشخاص الذين يسيّرون شؤون الدولة بالحدس والقدرة على المناورة الشخصية أو غيرها من الصفات، إنما لمؤسسات فكر هي التي تصوغ الأبعاد العميقة للدولة ومستقبلها، وتحدد الدور للأفراد ليقوموا بما عليهم أن يقوموا به مستخدمين عبقريتهم في استيعاب المشروع وابتكار أساليب تطويره لا في تكييفه بما يناسب ميولهم وطموحاتهم الشخصية حتى وإن كانت متطابقة مع طموحات كل البلاد، ذلك أن زمن الأفراد المُلهمين القادرين قد ولى إلى غير رجعة ولم يعد بإمكانهم القيادة حتى وإن وفرت لديهم كل القدرات والإمكانات…
وذلك هو تقييم التقييم إن صح هذا التعبير.