-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

غابت المرجعية فتداعى الأكلة وتنازعت الرعية

صالح عوض
  • 1680
  • 0
غابت المرجعية فتداعى الأكلة وتنازعت الرعية

ين يدي هذا الموضوع نستحضر فكرتين، الأولى تلك التي تفيد بأن الأمة لم تفقد مرجعيتها الدينية عبر مئات السنين رغم كل الظروف القاسية التي مرّت بها كما تفقدها للأسف في هذه المرحلة الصعبة الاستثنائية..

صحيح أن أمتنا تعرضت على المستوى السياسي لهزات عنيفة أسقطت الخلافة الراشدة واستفحلت في النظام السياسي، إلا أن الضمير الديني والمرجعية الدينية ظلت سليمة الى حد بعيد مما حافظ على استمرار الأمة بحيوية في مجالات شتى.. والفكرة الثانية تلك التي تفيد بأن العدو الخارجي لم يمتلك أن يتدخل في تفصيلات الانتماءات والاجتهادات ويتشابك معها كما يفعل الآن في تأجيج التصارع الداخلي الذي يكاد يحرق الأخضر واليابس في العلاقة بين المسلمين.. فقد جاءت هجماته السابقة من الخارج وبرايات صليبية أو سياسية، ولكنه الآن يتقدم إلينا برايات “إسلامية” تغطي عدوانه الواسع..

نحن في وضع استثنائي لا يشبهه وضعٌ في تاريخ الأمة، وأخطر ما فيه أننا غير مجمعين على مرجعية سياسية أو دينية عامة للمسلمين، ولا حتى مرجعية لأهل السنة والجماعة وهي الغالبية العظمى في الأمة الإسلامية، ولا موقف ديني إجماعي تجاه أنفسنا وتجاه عدوّنا بترتيب الأولويات، ولأن الدين في حياة الأمة الإسلامية أعمق وأقدر عناصر تكوينها فهو ذو فعالية وحيوية لا تضاهى في السلب أو الإيجاب، حسب ما تكون صحة الاجتهاد أو عدمها.. ولما يحظى به الدين في نفوس المسلمين؛ فهو يمثل خطورة فادحة إذا تمّ تقديمه بشكل مشوّه أو بشكل ممزق أو باجتهادات متناقضة على صعيد الولاء والانتماء..

الأمة اليوم تزيد عن مليار ونصف مليار مسلم، وتتربع في جغرافيا متوسطة للعالم وممتدة على قارات الأرض في آسيا وإفريقيا وأوروبا، وتحتل أجزاء مهمة في مكوّنات المجتمعات الأمريكية والأوربية، وتوحي بأنها لازالت فتية في عباداتها وتفاعلها مع المقدس، وأنها أمة عملية إذا ما قيست بالأمم الأخرى لاسيما والغرب يتجه نحو الإلحاد والتفكك من أي قيم دينية ومعنوية.. وتمتلك أمتنا كنوز الطاقة والثروات الطبيعية والممرات المائية والمواقع الإستراتيجية، وتعتبر من أهم الأسواق العالمية للمنتوجات الغربية والصينية، وفيها عناوين القداسة للديانات السماوية التوحيدية، وبهذا كله تمتلك القدرة على أن تكون البديل الحضاري العالمي.

من العبث تخيّل أن أمة بهذا الحجم ستكون على رأي واحد أو اجتهاد واحد فإن تغيُّر الأمصار وتنوّع التحديات وتباين الأفهام ينتج تعدّد الاجتهادات والآراء، وهذا يعبر عن ديناميكية الإسلام وحيويته وقدرته على التعامل مع شتى الظروف بإيجابية لأنه دين الرحمة للعباد في كل الظروف وكل الأماكن.. ولأن هذا الدين من الله سبحانه وتعالى إلى البشر كافة فلقد تمثلت هذه القاعدة في تكوين الأمة بكل القوميات والأعراق وفي وجدانها القاعدة التي لا تحول ولا تزول المتمثلة في قوله تعالى: “إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.. واللطيف أن هذه القاعدة ذُكرت بعد الحديث عن تنوع الشعوب والقبائل لتظل ضابطا لمنظومة القيم الإنسانية التي جاء بها الإسلام.. فالتنوع والتعدّد يمتد حيث الوجود الإنساني ببيئاته وفئاته وقومياته واجتهاداته بل وباختلافاته الدينية.. فكانت تجربة أمّتنا هي التجربة الإنسانية الأولى والوحيدة التي حوت المزيج البشري وصهرته في بوتقة حضارية واحدة لتكون لنا شخصية حضارية لم يكن وجيها السؤال بجوارها عن الاجتهاد الخاص أو الشعب الخاص.. فكانت بحق تجربة إنسانية بديعة.

في هذه الأمة كان أهل العلم من الأئمة والمجتهدين والعلماء يتواصلون في تشكيل المضغة الاجتماعية والفكرية في الوعي الجمعي والضمير الجمعي، ومن البداية منذ الجيل القرآني الفريد جيل صدر الإسلام تواصلت قوافل العلماء والأئمة الذين حافظوا على سلامة الضمير والوعي ومعالم الدين.. فكانت المرجعية الدينية في الأمة بسلام مهما أصاب الخلل نظامها السياسي.. وانتشرت المدارس الإسلامية فيما بعد في مشارق الأمة ومغاربها معاقل وحصونا يتبارى فيها العلماء ويتميز فيها أصحاب الحكمة والتبحُّر في العلم فكان القيروان وكانت الزيتونة وكان الأزهر وسواها من المعاقل العلمية التي حملت إرث العلم والدين وجدَّدت معالمه من كل ما ران عليها بفعل التقادم والاجتهادات.

الآن الأمة بلا مرجعية.. بلا مرجعية سياسية بعد أن سقطت الخلافة العثمانية، فعلى كل ما كان فيها من ضعف وفساد إلا أنها كانت تمثل المرجعية السياسية للأمة، وكان لها في مراحل معينة أدوار حاسمة في الحفاظ على حياض المسلمين مشرقا ومغربا.. ونحن الآن بلا مرجعية دينية بعد أن اضمحلّ دور المدارس، والعلماء المتبحرين في العلم والمتميزين بالنصح والحكمة وانتقال المرجعية الدينية الى كل من هبّ ودبّ في مدارس وكليات مستحدَثة تدرس الدين والعقائد بطريقة أحادية تقصي في منهجها أصحاب الاجتهاد الآخرين من دائرة الدين أو الصواب.. وبظاهر من القول تشكلت مرجعياتٌ عديدة متناثرة هي أقرب للطوائف منها الى الهداية بل لعلها أصبح كأنه دين جديد فتفرق الإسلام شيعا ومذاهب متصارعة والأمة طوائف ونحل متناطحة، ولأن الأمر في أصله لا يكون إلا في دائرة العلم والدين ودائرة الاجتهاد والاجتهاد الآخر لدى أصحاب العقول الواسعة والنيِّرة فإن اختلاف الاجتهادات رحمة وسعة بالمسلمين الذين يحتاجون مع تطوُّر الحياة وتعدّد الأسئلة الفلسفية والحياتية إلى إجابات مرحلية للزمان والمكان، وهو مناط تكليف العلماء والمفكرين الموسوعين وأصحاب الهمّة من المثقفين والباحثين وليس حول مسائل الدعوة لتكوين الجماعات والطوائف حول رأي فلان أو علان أو الاجتهاد الفلاني أو العلاني.. ولأن الأمر كان هكذا عمّ الخير بأمتنا فكان العلماء المختلفون في اجتهاداتهم يرون أن هذا الاختلاف معجزة من معجزات سعة الإسلام وقدرته على العطاء.. أما الآن فإن أشباه العلماء وأنصاف المتعلمين أشقوا الأمة بروح التمزيق والتطرف والتعصب للرأي والاجتهاد وكما قال الحكماء: نصف العالم أسوأ من الجاهل.. وفي حمى هذه الفوضى التي أصابت أمتنا لم يعد من قيمة للاجتهاد في حد ذاته، وإنما بما يشكله من بُعد نفسي اجتماعي يتمثل في كسب أتباع وأنصار فتتكرّس التفرقة والتجزئة في الأمة.

الأمة الإسلامية اليوم بلا مرجعية سياسية ولا مرجعية دينية.. فلم يعد هناك ولو شكليا نظامٌ سياسي يتبنى مشكلات المسلمين وقضاياهم لاسيما قضية فلسطين والوحدة ونهضة الأمة، ويساهم حتى لو بالكلام في الذود عن حياضهم أمام المعتدين الأجانب، ولم يعد هناك مرجعية دينية لها الإجماع في سلوك المسلمين، بل لعلنا نواجه مرجعيات متناقضة فما هو للأزهر من مكانة تاريخية وروح اجتهاد وتنوع يصطدم بالسلفيين الوهابيين الذين لهم رأيهم ومعتقدهم وطائفتهم ويصرُّون على نشر مذهبهم ولو بالقوة لتعميمه على المسلمين كافة.. هنا لا نقترب من التفضيل بين مذهب وآخر إنما نتكلم بتوصيف عن أسلوب التعامل في دائرة الاجتهادات والمذاهب.

في جزء الأمة الآخر الشيعة بمدارسهم ومرجعياتهم العديدة فمنهم الزيدية والجعفرية وسواهما، فهم أيضا يعانون من فوضى التمزق في الوعي والممارسة، وقد تعرضوا كما تعرضت أجزاء الأمة لحملات الاختراق من متطرفين ومتنطعين مارسوا أساليب إرهابية لإلزام جموع الشيعة بأفهام معيّنة ومواقف معينة تجاه تاريخ المسلمين والإسلام وتكدس لديهم وعيٌ سلبي في التعامل مع التاريخ الاسلامي وفيهم يعاني المعتدلون المصلحون والمجدّدون من تنطّع الشتامين السبابين المعطلين والمتخلفين المنتشرين بوسائل إعلامهم العديدة والمتخندقين في الطقوس والجماعات والجمعيات، الأمر الذي يعني عدم استتباب المرجعية الدينية الملزمة بشكل نهائي حتى الآن، والأمر الذي يعني أن المسألة تحتاج نضالا مستمرا ومتواصلا وبلا هوادة.. وهذا يمثل إشكالية إضافية وتعقيدا إضافيا في وحدة المرجعية الاسلامية.

إن ما يثار من سوء الظن والمواقف المسبقة بين أتباع المذاهب والاجتهادات الذين تحوّلوا إلى طوائف في الأمة يعبر عن قصر نظر خطير ينتاب كثيراً من أواسط المثقفين والساسة والعلماء الذين ينشغلون بتكبير حجم أتباع الطائفة على حساب الحق ويتحركون بمشاعر أنهم يمتلكون الحق وحدهم وينهمكون في صناعة انتصارات جزئية هنا وهناك غافلين عما تسببه هذه “الإنجازات” في تفتيت الأمة وتجزئتها وإيقاع الأزمات فيما بينها.

إن الفُحش والبذاءة في القول والتطرف في الفعل أصبح مرافقا للاختلاف والاجتهاد، فلم نعد فقط مصابين بفقدان المرجعية الجامعة للمسلمين الموحدين أتباع القرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بل ومصابون بحرب دينية طالما تجرع من كأسها الآخرون في الغرب ويلات حروب ومآس.. والفحش في القول والتطرف في السلوك لا يقف عند حد فأصبح عرض العلماء وعرض أجلاء الصحابة والمسلمين والمثقفين منهم والدعاة والمفكرين يُلاك على ألسنة السّوقة والمتنطعين في الفِرق الإسلامية وأتباع المذاهب.. وأصبح همّ كثير من المنشغلين بحرب الطوائف التصيد في الكتب والتنقيب في الأقوال عن كل شاردة وواردة لتعزيز الانقسام غير ملتفتين لما تجاوزه الزمن.

لقد تم تكفير علماء أجلاء وقادة إسلاميين محترمين كما تم إزاء العلامة حسن البنا وحسن الترابي وسيد قطب ومحمد حسين فضل الله واحمد الكبيسي وسواهم، كما نيل من صحابة كرام كأبي بكر وعمر وعثمان بالشتم والسب والتشكيك وهو أمر قبيح مذموم بلا شك لا يقبله مسلم غيور على الإسلام وعلى حياض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. وهنا لابد أن نرفع أصواتنا بوضوح وقوة أن هذا سبيل الأمم الفاشلة ومنهج المغضوب عليهم الذين لاهمّ لهم إلا السب والشتم والطعن.. وإنه أمر فسق وفجور لابد من ممارسة العقاب على كل من يقترفه.

إننا نحتاج مرجعية إسلامية عالمية من علماء المسلمين كافة بكل اجتهاداتهم، وأن يكون لكل بلد مرجعية منبثقة من هذه المرجعية، وأن تكون في مركز الصدارة من اهتماماتنا تنقذ أمتنا من التصارع والتطاحن الشيطاني، وأن يكون البند الأول في مهمات هذه المرجعية إخراج الشتم والسب والتكفير والطعن من قاموس المسلمين، والبند الثاني أن لا مرجعية طائفية بمعزل عن الأمة.. قد تكون مرجعية فقهية في مسائل فقهية لكن لا للمرجعية السياسية الطائفية بل مرجعية عامة للمسلمين تلتزم بها الأحزاب والشخصيات في شؤونهم العامة، والبند الثالث أن تقوم المرجعية بتكريس الروح الأخوية بين المسلمين بغض النظر عن اختلافاتهم وتبيين الوجه الشرعي في ذلك، وهكذا يتم البحث عن كل ما يجعل من المرجعية الاسلامية فوق الحكومات والسياسات الآنية والاجتهادات الفقهية ويرتفع بالمسلمين عن حضيض التنازع وتجريم الاصطفافات الطائفية.

المرجعية الدينية في الأمة وأن يكون رائدها الأزهر الشريف لما له من مكانة علمية وتاريخية أمر ممكن تماما، ويمكن الانطلاق منها كخطوة ضرورية لإنجاز فريضة شرعية واجبة، قال تعالى: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”.. تولانا الله برحمته. 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!