-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

آخر رسائل محمد البشروش إلى الشّابي

آخر رسائل محمد البشروش إلى الشّابي

أما الشابي فهو مشهور ومعروف سواء ذُكر اسمه كاملا أو جيء به مختصرا ومتوقفا عند حدود لقبه. والمعروف لا يعرَّف ولا يقدَّم إلى الناس، وإن فُعل ذلك عُدّ من لغو الكلام الذي لا يستجلب فائدة ولا يزيد في معرفة. وأما محمد البشروش مجايله وصديقه، ورغم حضوره الثقافي الساطع نسبيا، إلا أنه يكاد لا يعرف خارج موطنه تونس. 
جاء محمد البشروش إلى الحياة في يوم الجمعة الموافق للواحد والعشرين أفريل من سنة 1911م ببلدة دار ابن شعبان في ولاية نابل. وانطلق في مزاولة تعلمه بالكتّاب المسجدي، ثم التحق بالمدرسة المزدوجة بمسقط رأسه، ومنها نال الشهادة الابتدائية. واستطاع الانضمام إلى جامع الزيتونة، ولكنه لم يمكث به سوى سنتين. وفي سنة 1927م، التحق بمدرسة ترشيح المعلمين التي تخرّج منها في سنة 1930م. وطفق ينتقل بين القرى والمدن ممتهنا التعليم في المدارس الابتدائية حتى أقعده المرض، وقهره التعب، فعاد إلى بلدته عودة المضطر المرغوم. وتوفيّ في العشرين من شهر نوفمبر 1944م.
يسجَّل عن محمد البشروش، وحسب من تتبَّعوا سيرته، أنه لم يكن متفوّقا في دراسته. ويعزى ذلك إلى ميوله وخاصة انجذابه إلى محاولة قول الشعر على مذهب شعراء المهجر بما فيه من مسحة رومانسية وخفقان عاطفة. ومن سوء حظه أنه لم يجد ما يطعم رغبته ويغذيها في مواد المناهج التعليمية التي يغلب عليها الطابع التقليدي. ولعل وصفه بكونه عاش عصبي المزاج شديد الثوران والتقلّب عائد إلى هذه المفارقة التي أوجدت فتقا وشقت شرخا بين طموحاته القوية لخدمة شعبه وخيبة ظنه في الرؤية التعليمية الجامدة التي لا تنتظر منها استفاقة.
كان شغف محمد البشروش بالأدب والثقافة عظيما، ولذا كان كثير التردد على مجالس الأدباء والمبدعين. كما كان مطالعا نهما باللغتين العربية والفرنسية رغم أن مكتسباته في هذه الأخيرة لم تكن واسعة. واستطاع أن يؤسس مجلة ثقافية أدبية في تلك الفترة سمّاها: “المباحث”. وقد مرّت هذه المجلة بطورين. ظهر في طورها الأول عددان، ثم اختفت. واستطاع بعثها من جديد بعد ست سنوات والسير بها سيرا منتظما لفترة.
يظهر محمد البشروش في كتاباته النثرية والشعرية نزعة للذود عن الهوية ونشر الوعي القومي والتمسك بالأصالة. ومن أجل توسيع دائرة التأثير، لم يكن يضع الفواصل والحواجز بين الأدب الفصيح والأدب العامي، وإنما كان يعمل على تضييق الهوة بينهما ماداما يعملان لتحقيق أهداف واحدة.
ما يسجل لمحمد البشروش من موقف إيجابي هو دعوته الحريصة للمبدعين التونسيين للاقتداء بإخوانهم المصريين، وتحريضهم للتأسيس لأدب ذي مسحة تونسية تجعله ينفرد بجملة من الخصائص والمميزات الذاتية، وتبقيه رافدا ينتهي صبيبه بقليله أو كثيره في بحر الأدب العربي. ولا شك، أن رأيه هذا ولد بعد روية وتفكير.
في مقالاته النقدية المتعدّدة، وضع محمّد البشروش أصبعه على قضايا مهمة في زمنه، منها ضعف التّعليم العربيّ وقلّة القرّاءة وأزمة الطّبع والنّشر. وظل يؤكد أن تكون الثقافة في أرض تونس عربيّة الروح والمهجة، وأن يكون التّعليم عربيّ اللسان قبل كلّ شيء.

تشكل رسائل محمد البشروش إلى صديقه الشاعر أبي القاسم الشابي إضافة إلى سجل أدب الرسائل عند كتاب العربية. وهي من صنف الرسائل الإخوانية التي ترغب في إبقاء حبل التواصل مشدودا وإن بعُدت المسافات، وتبادل الأخبار التي أرادها البشروش أن تظل محصورة في جانب الإنتاج الفكري ومستلزمات النهوض به في أرض تونس، وحشد المهتمين والمتابعين لمواكبة ركبه. وهي بمثابة وثائق تاريخية ذات قيمة معتبرة.

يحصر الشاعر المغرد الصدوح لطفي الشابي الذي جمع آخر الرسائل التي أرسل بها محمد البشروش إلى صديقه أبي القاسم الشابي وحقّقها وقدّم لها، يحصر القصد المنشود من هذه الرسائل في نقطتين، إذ يقول: (والرسائل عند البشروش تُكتب في وقتها لغايتين: واحدة آنية مدارها التنفيس عن الآلام والتعبير عن المواقف مما يجري حولهم وبث الشكوى مما كان يلقى الأديب المثقف من زمنه الذي لا يبالي بالأدب أو بالثقافة، والتحاض على بناء المشاريع الثقافية وبناء الأفكار التي تخدم الأدب التونسي وتدفع به إلى الرقي والتجدد. وغاية أخرى آجلة، طِلتها أن تتحوّل هذه الرسائل إلى وثائق عامة، فتكون في قادم السنين شهادة على عصره كما تكون دليلا للباحثين ومصدرا من مصادر تفهم الأدب الذي كتبوه والمعاناة التي تقف وراء تلك المحاولات وتدفعها إلى أرقى درجات كمالها ما أمكن الجهد) (ص:8).
لم ينس الشاعر لطفي الشابي من سبقه في الفضل الدكتور الوزير علي الشابي الذي وضع يده على هذه الرسائل بمساعدة كريمة من جلال نجل الشاعر الشابي، وأنقذها من الضياع والغفلة. فهو من أعاد النبض إلى هذه الرسائل المنسية التي أرسل بها محمد البشروش إلى الشابي في السنوات الثلاث الأخيرة قبل وفاته. وقد وفق الدكتور علي الشابي لما أوكل مهمّة إخراج هذه الرسائل وتحقيقها إلى من رأى فيه الدراية والكفاءة والأمانة وعمق النظر.
يبلغ عدد الرسائل الأخيرة التي وجّهها محمد البشروش إلى الشاعر الشابي سبعا وعشرين رسالة كتب معظمها على وجه صفحة واحدة بخط اليد. وجمعت في كتيب زاد عدد صفحاته عن المائة ورُبع المائة صفحة أعطي له عنوان: “آخر ما كتبه محمد البشروش إلى أبي القاسم الشابي”. وقد سافر الشاعر لطفي الشابي بعيدا في قراءتها واستنطاقها وتحليلها واستجلاء معاني الأفكار والرؤى المندسة بين سطورها، وعدّها وثائق تؤرِّخ لجوانب من الحراك الأدبي في تونس في فترة كانت تشكو فيه من قصر اللوازم والحاجات والإمكانات والميسَّرات المادية والمعنوية. كما تحتوي شذرات من الخصوصية وإشارات من الأحوال الذاتية التي تخصهما معا، وتتحدد أساسا في حالتيهما الصحية التي تزداد تدهورا في تلازم مع الأيام؛ فمحمد البشروش كصديقه الشابي لم يسعد بنقاء البدن من العلل، وإنما كان يشكو من داء يتقارب مع الداء الذي يفتك بجسم صديقه الشابي. ورأى الشاعر لطفي الشابي أن هذه الحالة تؤلّف صورة من التماهي. وقد نجد في ذلك إشارة ذكية صائبة تفتح كوة لدراسة نفسية تكشف عن تقاطعات وتماثلات في تكوين شخصيتي الصديقين.
يلوح في خلد بعض القراء سؤالٌ لا يمكن تجنبه أو إهماله، وفحواه: لماذا لم يبرز محمد البشروش كمبدع ذائع الصيت وصاحب ذكر حسن كما برز الشابي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بأشعاره التي أصبحت بعض أبياتها شعارات عظمى تتلوها الألسن وترددها في كل آن وفي كل مكان؟. واعتقد، في المقام الأول، أن محمد البشروش أراد لنفسه أن يكون منظّرا وهاديا لمشروع أدبي متميز ومطبوع بالبصمة التونسية المحضة، وجعل من هذا الأمر شغله الشاغل وهمه الأول. وبذلك أسرف في صرف جل أوقاته لاهثا خلف هذه الفكرة، وأفنى نصيبا وفيرا منها في التفكير للتأسيس لها ورسم معالمها وفي المطالعات الكثيرة باللغتين العربية والفرنسية جمعا للفوائد التي يمكن الاستعانة بها. وأرى، في المقام الثاني، أنه سار في عدة مسارات إنتاجية، وحاول الخوض في طائفة من الأجناس الأدبية والأعمال الفكرية كالشعر والقصة والنقد والمقالة الأدبية والمقالة الصحفية والترجمة وكتابة الرسائل. وكانت النتيجة أن ضحّى بالجودة في سبيل الكثرة والتنوع. وعاد عليه تفريق جهده الكتابي بالتشتت وقلة الغوص خاصة وأنه لم يعمر طويلا (1911ـ 1944م). ولعل نفسه تاقت إلى أن يكون شاعرا في مستوى كفاءة ومكانة شعرية صديقه الشابي، وأن يجاريه، وأن يضع قدميه على آثار مشيته إلا أنه لم يفلح. وقد استوقفت هذه الملاحظة صاحب الكتاب، فكتب قائلا: (من بين المضامين التي تفاجئنا في هذه الرسائل، هي عرض البشروش على الشابي في مناسبتين، محاولتين شعريتين، رغم عدم ثقته بما يحاوله، لذلك كان يحاول أن يتبرّأ من إدّعائه كتابة الشعر. ولعله من باب الحرج كان يفعل ذلك، ثم يطلب من الشابي أن يبدي رأيه أو يصوّب ما قد يكون تسرّب إليها من عيوب الوزن) (ص: 20).
تشكل رسائل محمد البشروش إلى صديقه الشاعر أبي القاسم الشابي إضافة إلى سجل أدب الرسائل عند كتاب العربية. وهي من صنف الرسائل الإخوانية التي ترغب في إبقاء حبل التواصل مشدودا وإن بعُدت المسافات، وتبادل الأخبار التي أرادها البشروش أن تظل محصورة في جانب الإنتاج الفكري ومستلزمات النهوض به في أرض تونس، وحشد المهتمين والمتابعين لمواكبة ركبه. وهي بمثابة وثائق تاريخية ذات قيمة معتبرة. ويمكن أن تتضاعف أهمية هذه الرسائل وتكتمل الصورة لو يتم العثور على الرسائل التي كان يضمنها الشاعر الشابي ردوده إلى محمد البشروش. وما يلاحظ عن رسائل محمد البشروش هو قلة اهتمامه بالجانب البلاغي في تعابيرها وانتقاء كلماتها؛ لأنه كان يقدِّم الفكرة التي يريد تبليغها عن أي شيء آخر، وقد يكون مقهورا بانحسار وقته.
لا يمكن تفويت هذه السانحة من دون الإشارة العجلى إلى أن كتيب: “آخر ما كتب محمد البشروش إلى أبي القاسم الشابي” هو من إنتاج ونشر “جمعية الشابي للتنمية الثقافية والاجتماعية”، وهي جمعية نشطة وفعالة، ويعمل مؤطروها في هدوء وتعاون وتكاثف للجهود من أجل جمع تراث الشاعر الثائر الكبير أبي القاسم الشابي جمعا مدققا ومحققا، وإخراجه إلى القراء والمهتمين. وإذ نبارك جهودها، فإن ندعو الفاعلين الثقافيين في بلدان الوطن العربي أن يجعلوا منها قدوة، وأن يأخذوا من منهجها في العمل ما ينفع في إحياء تراثنا الزكي في الماضي والحاضر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!