-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

اقتصادنا في ظل الأزمتين

د. عمر هارون
  • 485
  • 0
اقتصادنا في ظل الأزمتين

لو قيل لي إننا سنصل إلى فترة  يجتمع فيها التضخم وارتفاع معدلات البطالة مع رفع أسعار الفائدة  في أمريكا وأوروبا مع التباطؤ الاقتصادي الذي يصل إلى الركود مع ارتفاع أسعار النفط والغاز في ظل عدم قدرة المنتجين على توفير احتياجات السوق العالمي عموما والأوروبي خصوصا، سأقول إن هذه الفترة هي الفترة التي ستحصل فيها الحرب العالمية الثالثة، لأنه لا وجود لمبرر مقنع يجعل الاقتصاد العالمي يصل إلى هذه الحالة إلا ما سبق، لكن سنة 2022 عرفت هذه الحالة غير المسبوقة بعد أن بدأ العالم في التخلص من أزمة الكوفيد 19 والتي عرف فيها توسعا في الإنفاق العامّ لم يكن له مثيلٌ منذ أزمة “الكساد الكبير” في 1929.

ولعل أبسط تعريف للركود الاقتصاد الذي يخشاه الجميع  حاليا هو أن يكون الإنتاج أكبر من الاستهلاك في قطاعات مختلفة مما يولّد بطالة فيؤثر ذلك بشكل مباشر  على النمو الاقتصادي للبلد، فتخيل لو تزامن ذلك مع ارتفاع أسعار الطاقة وشحِّها مع الرفع من أسعار الفائدة التي تعني ببساطة أن المستثمرين سيوجهون أموالهم إلى البنوك عوض استثمارها، وهو ما يرهن نمو الاقتصادي ويمنع تحسن مستويات التشغيل، وفي مثل هذه الحالات نلجأ إلى الدولة من أجل ضخ الأموال في الاقتصاد لكن أغلب دول العالم أنفقت مبالغ طائلة خلال الأزمة الصحية التي عصفت.

 اقتصاد الأزمات واليد الخفية

من المعروف أن الاقتصاد الرأس مالي نموذج اقتصادي يصحح نفسه بالأزمات، ولعل أول أزمة ضربت هذا الاقتصاد كان أزمة الكساد الكبير  في 1929 وكان ضربة قاسمة للاقتصاد الأمريكي خصوصا والاقتصاديات المرتبطة به عموما، حيث أحدثت هذه الأزمة هزة زعزعت اركان الرأسمالية، وكانت نهايتها تغيير المبدأ الأساسي في المدرسة الكلاسيكية وهو عدم تدخل الدولة، حيث نقض كينز كلام الاقتصاديين الكلاسييكيين الذين كانوا يعتقدون أن الاقتصاد يمكن أن يصحح نفسه بنفسه من خلال ما كان يعرف باليد الخفية،  فكرة تبدوا مجنونة لكنها سادت لعقود، وأكد كينز  وجوب تدخل الدولة من خلال ضخ أموال في الاقتصاد مبدأ أنقذ العالم بعد 1929 وخلال أزمة الرهن العقاري في 2008 بعد أن غرق العالم في أزمة الديون وتوريقها، مما اضطر الولايات المتحدة الأمريكية لضخ نحو 500 مليار دولار من أجل إعادة تحريك الاقتصاد وإنقاذ المؤسسات التي كانت على وشك الإفلاس.

الركود التضخمي بين الأمس واليوم

واصلت الرأسمالية تعنُّتَها حتى وصلت سبعينيات القرن الماضي والتي عُرفت بأزمة التضخم الركودي، إذ تزامن فيه ارتفاع معدلات التضخم مع معدلات البطالة رغم أن النظرية الاقتصادية قبلها كانت تعتقد أن العلاقة عكسية بين الظاهرتين، لكن الواقع كشف العكس، مرحلة خلقت أزمات عجّلت برحيل العديد من الحكومات وضربت فيها مصداقية الفدرالي الأمريكي الذي فشل في تسيير الأزمة نظرا لتوحيد جهوده على الجانب النقدي للسيطرة على التضخم دون أن يأبه بالبطالة، وظهر مع الوقت أن هذه الحالة يجب أن تعالَج من خلال الموازنة بين السياسة النقدية والسياسة المالية.

لكننا اليوم في 2022 أمام حالة تم فيها الرفع من أسعار الفائدة كسياسة نقدية فأدى الأمر إلى هروب رؤوس الأموال من الاستثمار  إلى الملاذ الآمن المتمثل في البنوك، بل وهربت رؤوس الأموال من السوق الأوروبية إلى الأمريكية كون الدولار آمنا أكثر، مما أدى إلى تراجع تاريخي في قيمة الأورو حتى أصبح أرخص من الدولار، كما عجزت الحكومات عن ضخ المزيد من الأموال في الاقتصاد نظرا إلى كل ما تم تقديمه خلال جائحة كورونا، كما أن تآكل فكرة الأحادية القطبية يجعل قدرة أمريكا على طبع النقود وتقديمها للاقتصاد تتراجع خاصة أن روسيا بدأت تشجع حلفاءها على التعامل بالعملات الوطنية وأجبرت زبائنها الأوروبيين على الدفع بالروبل.

الطاقة أزمة أخرى

سوق الطاقة فاجأ الجميع بارتفاع الأسعار والمنتجين التاريخيين غير قادرين على تموين الأسواق بما يحتاجونه من الكميات، وأصبح العالم اليوم لا يتحدث عن الحصة الإنتاجية للدولة بل عن قدرتها الإنتاجية، إذ أن أغلب دول أوبك+ تقدِّم 80 بالمئة فقط من حصتها، وذلك ناتجٌ عن الصدمة التي ضربت السوق خلال جائحة كورونا والخسائر الهائلة التي تكبدها القطاع مما جعله بحاجة إلى استثمارات تقدر بـ50 تريليون دولار  (50 ألف مليار دولار) حتى يستعيد عافيته.

لا يوجد شيء واضح في الاقتصاد العالمي حاليا بعد أزمتين حادتين؛ الأولى صحية وتمثلت في جائحة كورونا، والثانية عسكرية وتتمثل في الأزمة الروسية الأوكرانية التي ضربت منطقة تقدم 40 بالمئة من الغاز لأوروبا و12 بالمئة من القمح للعالم وإنتاجها من بذور زيت المائدة هو الأعلى عالميا، مما خلق أزمة طاقة لأوروبا وأزمة غذاء للعالم بعد أن عانى العالم من أزمة صحية طاحنة، والأرجح أن الرأسمالية الآن بحاجة إلى حرب قوية من أجل تصحيح الاختلالات التي حدثت منذ نهاية 2019.

أين نحن مما يحدث؟

الجزائر واحدة من الدول القليلة التي استطاعت بفضل الله أولا ثم بفضل التسيير العقلاني والمنطقي الحكيم للمرحلة السابقة الخروجَ حتى الآن بنتائج نُحسد عليها؛ فمن ناحية الأزمة الصحية استطاعت الجزائر أن تقاوم الوباء وتخرج منه بأقل الأضرار  وبحجم وفيات يعدّ الأقل، وحتى اقتصاديا لم تكن الخسائر كبيرة نظرا لأننا لا نزال في مرحلة البناء الاقتصادي، وحتى الاختلالات التي شهدتها المواد واسعة الاستهلاك تم التحكم فيها من خلال قانون المضاربة، ولعل أهم ما عانيناه خلال السنتين الماضيتين  هو تراجع مداخيل الجزائر  من المحروقات خلال سنة 2020 إلى حدود 20 مليار دولار  لكن تطور قطاع الفلاحة الذي بلغ 25 مليار دولار جعل الوضع أقلّ تعقيدا مما كان عليه في أغلب دول العالم، ومع عودة التعافي الصحي للعالم والذي صاحبه التعافي الاقتصادي وارتفاع الطلب على الطاقة الاحفورية حققت الجزائر في 2021 مداخيل قدرت بحوالي 34 مليار دولار مع نحو 5 مليار دولار خارج المحروقات، و هاهي سنة 2022 تبشرنا بمداخيل قد تصل إلى 50 مليار دولار  و7 مليار دولار خارج المحروقات، مبالغ مالية يتساءل الكثيرون عن فائدتها للجزائر عموما والشعب الجزائري خصوصا.

كيف يمكن أن  نستفيد من الأزمة؟

إن تحقيق نحو  55 مليار دولار خلال هذه السنة سيجعل الاحتياط النقدي في حدود 60 إلى 70 مليار دولار مع هامش ارتياب في حدود 10 بالمئة، هذا الفائض سيساعد الدولة على دعم عملتها ومنه سيخفض أسعار  المواد المستورَدة التي تراجع حجمها إلى حدود 35 مليار  دولار، ومنه يمكننا أن نحمي اقتصادنا من التضخم المستورَد، كما أن امتلاك فوائض مالية يجعل الجزائر قادرة على إطلاق مشاريع استثمارية كبرى في الجزائر  سواء تعلق الأمر بالبنى التحتية كالسكك الحديدية والطرق أو  مصانع كبرى، وهو ما جعلنا هذه السنة نقرّ مشروع ميزانية تاريخي.، وكما سبق ووضحنا، فإن العالم يعاني في هذه المرحلة ماديا وهو ما يعني صعوبة استقطاب استثمارية أجنبية مباشرة إلا من الدولة التي تملك فوائض (الدول النفطية) أو مصالح مشتركة كما هو الحال مع إيطاليا، وهي مشاريع يمكن أن تكون قاعدة لتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وحتى الناشئة واستهلاك إنتاجها، خاصة وأنّ الإرادة السياسية موجودة لتذليل كل العقبات والصعوبات المتعلقة بمناخ الأعمال .

سوق الطاقة فاجأ الجميع بارتفاع الأسعار والمنتجين التاريخيين غير قادرين على تموين الأسواق بما يحتاجونه من الكميات، وأصبح العالم اليوم لا يتحدث عن الحصة الإنتاجية للدولة بل عن قدرتها الإنتاجية، إذ أن أغلب دول أوبك+ تقدِّم 80 بالمئة فقط من حصتها، وذلك ناتجٌ عن الصدمة التي ضربت السوق خلال جائحة كورونا والخسائر الهائلة التي تكبدها القطاع مما جعله بحاجة إلى استثمارات تقدر بـ50 تريليون دولار  (50 ألف مليار دولار) حتى يستعيد عافيته.

ومنه يمكن للجزائر استقطاب المشاريع الاستثمارية بتوفير الأموال والطاقة الرخيصة واليد العاملة والبنى التحتية والموقع الجغرافي، أمر  لا يمكن تحقيقه إلا بتحالفات دبلوماسية وإستراتيجية قوية مع الأقطاب العالمية، وهو ما تسعى الجزائر إلى فعله من خلال توطيد علاقاتها مع الصين وروسيا وحلفائهما من جهة ومع أمريكا وأوروبا من جهة أخرى، ما  يمكن أن يحقق للجزائر قفزة نوعية خلال العشرية القادمة فتتحول من خلاله إلى محور عالمي حقيقي، ضمن منظومة “البريكس” كمحور لطريق الحرير الذي يمتد إلى العمق الإفريقي من خلال الموانئ والطرق السيارة والسكك الحديدية.

كما أن الجزائر ستكون قادرة في آفاق 2024 إلى 2025 على تصدير  نحو 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي خاصة بعد اكتمال الأنبوب الناقل للغاز من نيجيريا إلى أوروبا المارّ بالنيجر والجزائر، يضاف إلى ذلك ثروتنا المنجمية التي بدأ استغلالها من خلال منجمي الحديد الخام بغار  الجبيلات والفوسفات بتبسة، كل هذا يتم بالتزامن مع خطة من سونطراك قيمتها 40 مليار دولار  لتطوير  وتجديد البنى التحتية تمتد من السنة الجارية إلى 2026، واقعٌ يؤكد أن الجزائر وضعت أرجلها على الطريق الصحيح، والقادم أحسن وأهم بإذن الله وتوفيقه.

omarharoun88@gmail.com

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!