العرب يريدون “تهجير” حماس!

إذا كان الرئيس الأمريكي المتعجرف دونالد ترامب يريد تهجير سكان غزة جميعا إلى مصر والأردن، ليقيم فيها منتجعات سياحية ويتاجر بعقاراتها، فإنّ بعض الأنظمة العربية تريد الاكتفاء بتهجير حماس من غزة، عبر إسقاط حكمها، ونزع سلاحها، ونفي قادتها إلى الخارج، وتقدِّم ذلك كله في إطار “خطة” بديلة لخطة ترامب المشؤومة، مع أنّها في الواقع هي الأفكارُ الخيالية ذاتها التي يروّج لها نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وكبار قادة اليمين الصهيوني المتطرّف.
لقد سمعنا أبا الغيط، رئيس الجامعة العربية، “ينصح” قادة حماس بالتخلي عن حكم غزة، ويقدّم ذلك في ثوب “المصلحة الوطنية الفلسطينية” وأيّده في ذلك أحد عرابي التطبيع، الدكتور أنور قرقاش، مستشار الرئيس الإماراتي، الذي قدّم أيضا هذا الاقتراح المسموم في ثوب “الحلّ العقلاني”، ولا ندري ماذا جرّت علينا “عقلانية” أنظمة “الاعتدال العربي” ومخططاتهم لـ”السلام” مع الاحتلال، غير ضياع فلسطين، وتهويد القدس، وتقويض أساسات المسجد الأقصى، وصولا إلى تهجير 40 ألف فلسطيني بالضفة الغربية من بيوتهم، وانكماش مساحتها بالاستيطان.. ما الذي جنيتموه بهذا “الاعتدال” المزعوم، غير الانبطاح للاحتلال الذي لم يعُد يجد حرجا في الإعلان كل يوم أنّ الدولة الفلسطينية التي تسعون إلى إقامتها على 22 بالمائة فقط من فلسطين التاريخية لن تقوم أبدا؟
اليوم نسمع عن مخططات عربية تُطبَخ على نار هادئة لترى النور في قمّة 4 مارس “الاستثنائية”، ويُدعى إليها قادة 21 دولة للتصديق عليها، باسم تقديم “بديل” لخطة ترامب، ولكنّ ما رشَح عنها من معلومات قليلة تؤكّد أنّها السمّ الزُّؤام؛ فمع أنّها تريد تثبيت الفلسطينيين في غزة -وهذا أمرٌ محمود- إلا أنّها تقترح تنحّي حماس عن الحكم، ونزعَ سلاحها، والاستعانة بقوات أمن عربية ودولية لمساعدة السلطة الفلسطينية على إدارة القطاع والإشراف على إعادة إعماره…
والواقع أنّ حماس لم تُبد تشبّثا مرَضيًّا بحكم غزّة، ولا ترى ضيرا في إشراف إدارة فلسطينية عليها أو “لجنة إسناد مجتمعي” تتكوّن من كفاءات وطنية، أو حكومة وفاق وطني، لكنّ ذلك ينبغي أن يجري في إطار فلسطيني بحت، وبعيدا عن الإملاءات الأمريكية والصهيونية التي يتطوّع بعض العرب لتسويقها في قوالب رنّانة تحمل غطاء “الإشراف على إعادة الإعمار”.. من يحكم غزة قرارٌ فلسطيني داخلي لا شأن لأحدٍ به؛ أي أنّ اليوم التالي للحرب لن يكون إلا فلسطينيًّا، وكلّ من يروّج لفكرة “القوات العربية” هذه، يقوم في الواقع بالترويج للطرح الصهيوني الذي يريد أن ينتزع بالضغوط الاقتصادية والسياسية ما عجز عنه طيلة 15 شهرا من المجازر والتدمير والتجويع المنهجي، ولن ينجح في ذلك.
لا ريب أن حماس تعرف أن غزة مقبلة على سنوات عجاف قاسية، لأنّ الاحتلال، إن لم يعُد إلى الحرب مجدَّدا في الأسابيع القادمة لتدمير ما بقي من غزة وتنفيذ مخطط التهجير كما صرّح سموتريتش، فسيعيق إعادة إعمارها ويشدّد الحصار على سكانها، أملا في أن يجبرهم شظف العيش وقسوة الظروف على “الهجرة الطوعية” منها بلا رجعة، وهذا الخيارُ يبدو مرجَّحا لأنّه لا يكلّف العدوَّ أرواح الآلاف من جنوده كما حدث طيلة 15 شهرا من حربٍ حاول خلالها عبثا تهجير السّكان بالقوّة… لا شكّ أن حماس تعرف ذلك كلّه، لكنّ هل البديل هو الاستسلام الآن بعد تقديم هذه التضحيات الجسيمة وبعد أن التفّ 2.3 مليون فلسطيني حولها وقبلوا الثبات في أرضهم برغم هول المجازر وقسوة الجوع والبرد والتشرُّد والمعاناة؟
يقينًا، حماس لن تستسلم، ولن تقبل نزع سلاحها حتى لو تخلّت عن الحكم لصالح فلسطينيين آخرين غير معادين للمقاومة، ولن تترك غزّة لشذّاذ الآفاق ولمن يريد تحويلها إلى مدينة بغاء وقمار ومواخير، لأنّ ذلك يرقى إلى خيانة القضيّة الفلسطينية وقبولِ تصفيتها، وللخيانة أهلها من العرب المتصهينين.. موقفُ حماس لا لبس فيه وقد عبّر عنه القيادي أسامة حمدان في “منتدى الجزيرة” منذ أيام قليلة بوضوح تامّ: “حماس لن تتنازل عن غزة، ولن تخرج منها تحت أيّ تفاهمات، ولن تقدّم أيَّ تنازلات ثمنًا لإعادة الإعمار، نحن انتصرنا ولم نُهزم، ولن ندفع ثمن الهزيمة التي مُني بها الاحتلال تحت أيّ ظرف، لن تكون حماس خارج المشروع الفلسطيني تحت أيّ ضغط أو تنفيذا لأيّ مخطط”.
أمّا الحالمون بدخول “قوّات عربية” لإدارة القطاع بدل الحركة، والذين نجح ترامب في الزجّ بهم في مواجهة معها نيابة عن الاحتلال، كما يبدو، فقد قال لهم حمدان: “اسمعوني جيِّدا لأنهي هذا النقاش: إنّ أيّ أحد يحلّ محلّ الاحتلال في غزة، أو في أيِّ مدينة بفلسطين، سنتعامل معه بالمقاومة فقط كما نتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أمرٌ منتهٍ وغير قابل للنقاش”.
رُفعت الأقلام وجفّت الصُّحف.